الجمعة، 14 فبراير 2025

شر الغفلة

 

خاطرة الجمعة /486

الجمعة 14 فبراير 2025م

(شر الغفلة)

            

سَمِعَت الأُم اضطراباً في بطنها، تلاه ضربٌ مؤلمٌ.. ذهبت إلى الطبيب فزَّف لها البُشرى بأنها حاملٌ في ولدٍ، لم تسع الأرضُ الأُمَ من الفرح، سجدت لله شاكرةً، حمدته بلسانها وجوارحها، رفعت يديها إليه؛ ناجته قائلةً: "اللهم لك الحمد والشكر، اللهم اجعله قرة عينٍ لي ولأبيه". بدأ الجنين بالمعافسة في بطن أُمه.. يتحرك هنا وهناك بكل فرحٍ وحُبورٍ لأنه خارجٌ إلى حياةٍ رحبةٍ، ظاناً أن الدنيا مع سعتها أسعدُ من بطن الأُم مع ضيقه! أما أُمه؛ فعَينها امتزجت بدمع الألم والأمل، والفرح والحُزن، والدمع الحار والبارد.. ألم الحمل وأمل الذرية، فرح الأولاد وحُزن الولادة، دمعها الحار خوفاً عليه من مس السوء، ودمعها البارد لأنه خُيل إليها نجاحه فلا تراه إلا رجلاً يُضرَب به المثل، سنداً للظهر، وعصىً يُتوكأ عليها. جاء اليوم المشهود، وفرِح الوالدُ بالمولود، وخرج الطفل يتنسم عبير الدنيا ويأخذ نفساً عميقاً يَروِي عظمَه الطرِيَّ الغَضَّ.

شبَّ قرنُ الطفل، وبدا مسيرُ الطريق مُخالفاً لما عوّلت عليه أُمه، حلمت أن يُصبح رجلاً صالحاً فأمسى طالحاً، يرى نورَ الطريق فيحيد عنه، وظُلمةَ الشِّعب فيأوي إليه. صار الشاب صاحب العضلات المفتولة والنظارة السوداء، يركب رأسَه ويُخالف الناس، ويمشي مع هواه، يسمع نداء الأذان فلا يُلبي، ويرى الناس تؤم بيت الله وهو صادٍ عنه، أعجبته نفسه، وغرَّته الأماني، وظن أن سعادته فيما يفعل.. ضيَّع نفسه ووقته، وبينما هو يمشي في حَمأة اللهو أصابته حُمَّى شديدةٌ فطرحته للفراش صريعاً، ذهب إلى الطبيب فحذّره وأنذره من اتخاذ الخليلات وشُرب المُسكرات، وليته سمع فوعى؛ فمع كرِّ الليالي وفرِّها، وإقبال الأيام وإدبارها، حان موعد الرحيل، اعترى الشاب ضعفٌ في جسده، تنمّلت أطرافه، خارت قواه، نادى: "أُمّاه أُمّاه".. لبّت النداءَ أُمه تهرول وتقول: "ولدي حبيبي؛ هل أصابك من ضرر؟" ضمته إلى صدرها، نضحت وجهَه بالماء، إلا أن ابنها كان يُصارع شيئاً لا يُشبه المرض، كان بصره شاخصاً إلى السماء؛ كأنه يرتقب ضيفاً مُفزعاً، وبعد شدة هَوْلٍ جاءه الضيف، جاءه ما كان يفر منه، جاءه الموت؛ نزع منه الروح نزعاً شديداً غليظاً كأنه اقتلع جسده كله، وهو يُصارخ ويضطرب، ولا منجى من الموت، قد حان ما كان يحذره. أراد الكلام لكن لم يستطع، كان يُريد القول: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾. ذهب مَلَك الموت وترك جسد الشاب المُسجى جثةً هامدةً ساكنةً لا حِراك فيها. كان الشاب تاركاً للصلاة، مُجانباً للطاعات، بعيداً عن أعمال الخير؛ فتحرج أهله من الصلاة عليه، ولم يجدوا بُداً من أن يُلقوه في المقبرة رمياً، كأنه متاعٌ قد استُغني عنه، حملوه على أكتافهم، وهو يسمع قرع نعالهم.

يقول راوي القصة: كأني بهذا الشاب يُنادي فيقول: "أين تذهبون؟ أنا ابنكم وقريبكم، دعوني أُصلي لله ركعاتٍ لعله يغفر لي خطيئتي؛ لقد ضربتُ فلاناً، وشتمتُ فلاناً، وأخطأتُ في حق فلانٍ، أُريد المغفرة منهم"، لكن لا يسمع نداءَه إلا ربُه. اقترب من الحُفرة التي ستكون له مأوىً ومصيراً، رأى سورَ المقبرة كأنه قيدٌ في العُنق يقطع الوريد ويشد الوثاق! رأى المقابر كأنها غابةٌ موحشةٌ لا يأنس بها أحد، كل شيءٍ فيها ذابلٌ حتى النبات، والشجر. كل شيءٍ تبدَّل؛ فقد كان له اسمٌ، أما الآن فهُم يقولون أين "الميت؟"، ويقولون: "ضَعُوا الجنازة". يا الله! ما أكثر ما خُدِع ببريق الدنيا، ثم لم تُمهله حتى رُمِي في حومة الردى.. أنزلوا رأسه أولاً إلى هذه الحفرة الضيقة. يقول الراوي: كأني به يرى ظلاماً عميقاً وقَعراً مُخيفاً فأراد أن يُمسك بيد من يدفنه ليقول: "ناشدتك الله إلا تركتني.. دعني وشأني"، لكن الموت لا يُفيد معه توسلٌ ولا رجاء! استقر الشاب في ظُلمة القبر وأُهيل التراب عليه، ثم وضعوا لبِنةً عليه، ثم أهالوا التراب مرةً أخرى، وما إن فرغوا من توسيده التراب حتى ضربوا أيديهم كفاً على كفٍ يُنفضون الغبار، ثم تفرقوا إلا هو بقي وحيداً، لا يملك من أمر نفسه شيئاً؛ فوقه ترابٌ، وتحته ترابٌ، وعن يمينه ترابٌ، وعن شِماله ترابٌ، فراشه ولِحافه التراب. أين فراشه الناعم؟ أين الديباج والحرير؟ أين الهناء ورغد العيش؟ أين الطعام والشراب؟ أين فلانٌ وفلانةٌ في كل ليلةٍ كان له معهم صولاتٌ وجولاتٌ، يقطعون الوقت بالحديث الماتع، والغناء الماجن، والكلام المؤنس، أين هُم الآن؟ لماذا تخَّلوا عنه وتركوه وحيداً في وقت احتياجه لهم؟!

يقول الراوي: حينذاك يتحقق ما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: [تُعادُ روحُهُ في جسدِهِ، ويأتيهِ ملَكانِ فيُجلسانِهِ فيقولانِ له: مَن ربُّك؟ فيقولُ: هاه هاه لا أدري. قال: فيقولان له: ما دِينُك؟ فيقولُ: هاه هاه لا أدري. قال: فيقولان له: ما هذا الرَّجلُ الَّذي بُعِث فيكم؟ فيقولُ: هاه هاه لا أدري، فيُنادي مُنادٍ مِن السَّماءِ: أن كَذِب فأفرِشوه من النَّارِ، وافتَحوا له بابًا إلى النَّارِ، فيأتيه من حَرِّها وسَمومِها، ويُضيَّقُ عليه قبرُه حتَّى تختلِفَ فيه أضلاعُه، ويأتيه رجلٌ قبيحُ الوجهِ، قبيحُ الثِّيابِ مُنتِنُ الرِّيحِ فيقولُ: أبشِرْ بالَّذي يسوءُك، هذا يومُك الَّذي كنتَ تُوعدُ؛ فيقولُ: من أنتَ فوجهُك الوجهُ القبيحُ يجيءُ بالشَّرِّ؟ فيقولُ: أنا عملُك الخبيثُ، فيقولُ: ربِّ لا تُقِمِ السَّاعةَ].

 

أحبتي في الله.. إنه والعياذ بالله التعلق بالدنيا، والانشغال بها، وعدم الاهتمام بالآخرة التي إليها معادنا. هو (شر الغفلة) الذي لو استمر مع الإنسان حتى الموت، حينئذٍ يكون الخُسران المُبين، في وقتٍ لا ينفع معه ندمٌ، ولا تُفيد فيه حسرةٌ؛ يقول الله سُبحانه وتعالى: ﴿حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ رَبِّ ٱرۡجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾، ويقول المُفسرون لهاتين الآيتين: يُخبر الله سُبحانه وتعالى عن حال من حضره الموت من المُفرِّطين، أنه يندم في تلك الحال؛ إذ يرى مآله، ويُشاهد قُبح أعماله، فيطلب الرجعة إلى الدنيا، لا للتمتع بلذاتها واقتطاف شهواتها، وإنما ليعمل عملاً صالحاً؛ يقول: ﴿لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ فيكون الرد حاسماً: ﴿كَلَّا﴾ أي: لا رجعة له ولا إمهال، قد قضى الله أنهم إليها -أي: إلى الدنيا- لا يرجعون، و﴿إِنَّهَا﴾ أي: مقالته التي تمنى فيها الرجوع إلى الدنيا ﴿كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا﴾ أي: مُجرد قولٍ باللسان، لا يُفيد صاحبه إلا الحسرة والندم، وهو أيضاً غير صادقٍ في ذلك، فإنه لو رُدَّ إلى الدنيا لعاد لما نُهي عنه؛ يقول تعالى: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ أي: مِن أمامهم وبين أيديهم حاجزٌ بين الدنيا والآخرة، وفي هذا البرزخ، يتنعم المُطيعون، أما العاصون الغافلون فيُعذَبون من موتهم إلى يوم يُبعثون وهذا هو (شر الغفلة).

وفي معنى هذه الآية وردت آياتٌ كثيرةٌ، منها قوله تبارك وتعالى: ﴿وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾.

 

ومَرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرٍ دُفن حديثاً، فقال: [رَكْعتانِ خَفيفتانِ بِما تَحقِرُونَ وتَنفِلُونَ يَزيدُهما هذا في عملِهِ أحَبُّ إليه من بقيَّةِ دُنياكُمْ]. يقول شُرَّاح الأحاديث: عندما يموت الإنسان يُدرك قيمة الأشياء على حقيقتها، فيُدرك أن الأعمال الصالحة التي تزيد ثوابه خيرٌ له من متاع الدنيا كله. وفي هذا الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ركعتان خفيفتان"، يعني: قليلتان في القراءة والأذكار، "مما تحقرون"، أي: تستقلون أجرهما، "وتنفلون"، أي: تُصلونهما تطوعاً لله، "يزيدهما هذا في عمله" وكأنه يُشير إلى قبرٍ قد دُفن حديثاً، والمُراد به: الميت الذي في القبر، "أحب إليه"، وهذا يحتمل أن يكون المعنى: أن أجر الركعتين أحب إلى الميت من الدنيا، ويحتمل أن الضمير لله تعالى، وأنه يُحب ما يأتيه العبد من الطاعات، وأنه أفضل لديه من إنفاق الدنيا، "من بقية دنياكم"، يعني: مما بقي في عمرها؛ وذلك لأن قيمة الركعتين في الآخرة، خيرٌ من التمتع بمُتع الدنيا كلها، وأحب إلى الله من المعاصي. وفي الحديث بيان قيمة الطاعات وإن قَلَّت في الدنيا، وعِظَم أجرها في الآخرة.

 

أحبتي.. هلّا أفاق من غيبوبته من كان منا غافلاً عن حقيقة أن الحياة الدنيا مزرعةٌ للآخرة؟ وأنه إذا حرص على أن تكون الجنة هي ثمرة عمله في الدنيا؛ فعليه أن يهتم بزراعة دنياه بالإيمان الصادق، والعمل الصالح؟ ولا يكون ذلك إلا بالتمسك بكتاب الله وسُنة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، فَهْماً وتدبراً وعملاً، هذا هو طريق الجنة؛ يقول النبي عليه الصلاة والسلام: [ألا إن سلعةَ اللهِ غاليةٌ؛ ألا إن سلعةَ اللهِ الجنةُ]، والله الذي لا إله إلا هو إن رسولنا لصادقٌ، وإن الدين لواقعٌ، وإن الرجوع إلى الله ليقينٌ، وإن الحساب لقائمٌ، وإن المآل إما إلى جنةٍ أو إلى نارٍ؛ ولنا الخيار؛ يقول تعالى: ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾؛ فليكن خيارنا كلنا جميعاً الجنة؛ فنُقدِّم لها كل [ما قرَّبَ إليها من قولٍ وعملٍ ] ولنجتهد ولا تفتر عزائمنا؛ فالجنة والخلود فيها هدفنا ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾.

اللهم قِنا (شر الغفلة)، وحَبِّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، وخُذ بيدنا إلى سواء السبيل، سبيل الحق واليقين، وإذا ضَعُفْنا فَرُدَّنا إليك رداً جميلاً، واغفر لنا وارحمنا وأنتَ خير الراحمين.

https://bit.ly/3X3VVOO

الجمعة، 7 فبراير 2025

لا تفريط ولا إفراط

 

خاطرة الجمعة /485

الجمعة 7 فبراير 2025م

(لا تفريط ولا إفراط)

     

حدث إعصارٌ في «ليبيا» قبل نحو سنتين، كان كارثةً وصفتها إحدى الصحف بأنها حوّلت «درنة» من مدينةٍ تغسل قدميها في «البحر الأبيض المتوسط»، إلى عالَمٍ من الجثث والرُكام والثكل العابر للشوارع والبيوت، وصار يوم حدوث ذلك الإعصار يؤرخ للموج الغاضب، ولقنبلة الماء التي حوّلت المدينة الشاطئية إلى بحرٍ من الآلام غرقت فيه الشوارع والمنازل؛ إذ أن عماراتٍ كاملةً ألقى بها الفيضان في مياه البحر، وطغى ماء السدود والفيضانات على البنايات العالية، والتقى مع مياه الأمطار وأمواج البحر على أمرٍ قد قُدِر، ولم يكن من جاريةٍ ولا ذات ألواحٍ ودُسر لإنقاذ الغارقين. كانت أصوات الفيضانات مُخيفةً جداً، يشقها صوت الصُراخ، وخصوصاً أصوات النساء اللواتي تقاذفهن الموج مع أطفالهن وأُسرهن كما يطفو الزبد فوق الموج الهادر. جَرَف الماء كل ما في طريقه، وارتقى إلى المنازل الشاهقة، بعد أن ارتفعت أمواج البحر إلى أكثر من ثلاثين متراً، وقضت على أحياء وعائلاتٍ، قبل أن تعود القهقرى، تاركةً علامات الموت في طُرقات «درنة» الدامية، فضلاً عن مئات السيارات التي تحولت إلى قبورٍ مُغلقةٍ على أصحابها، بسبب محاولات أعدادٍ هائلةٍ من الأُسر الفرار في سياراتهم خلال اللحظات الأولى للكارثة، مما أربك حركة المرور، وقلَّل فرص النجاة، حيث شاءت الأقدار أن تجرفهم السيول جميعهم وهُم في سياراتهم نحو حوض الميناء البحري، وإلى أعماق المياه. حوالي ٨% من سكان المدينة باتوا في عِداد الموتى والمفقودين، أما النازحون من المنازل المهدمة فقد فاقوا أربعين ألف شخصٍ، يُعبِّر كل واحدٍ منهم عن قصةٍ من الرُعب والحُزن واليُتم والثكل؛ فَيَدُ الموج الغاضب ضربت بعنفٍ كل بيتٍ بالمدينة، ومزقت جدار كل صبرٍ منيع.

وهذه قصَّةٌ روتها واحدةٌ من الفتيات الناجيات من الإعصار، أنقلها باختصارٍ، كتبت تقول:

في ذلك اليوم استيقظتُ فجراً كما أُحب دائماً، صليتُ وقرأتُ أذكاري ووِردي، إلى أن حان موعد صلاة الضُحى فقمتُ وصليتُ. ومضى يومنا جميلاً هادئاً حتى وقت الغروب؛ حين لاحظتُ -بعد أن صليتُ- أن السماء بدأت تُمطر بغزارةٍ، وهذا أمرٌ غير مُعتادٍ في هذا الوقت من السنة. انتابني شعورٌ بأن ثمة شيءٍ غريبٍ سيحدث! صليتُ العشاء وقلتُ في نفسي أنام ثم استيقظ الرابعة فجراً لقيام الليل. قرأتُ أذكاري ونمتُ ساعتين، وصوت المطر يعلو، والرياح أصبحت شديدةً جداً لدرجةٍ لا توصف! الرعد والبرق في تزايد؛ استيقظتُ بقلبٍ يرتجف، قلتُ: "يا ويح نفسي؛ أأنام وآيات الله أراها عياناً حولي؟!". توضأتُ وقضيتُ ساعةً بين صلاةٍ واستغفارٍ وتلاوةٍ للقرآن. أصوات الرياح تزداد؛ تحولت من رياحٍ عادِيّةٍ إلى رياحٍ عاتيةٍ شديدة الهبوب، ثم بدأ الماء يدخل إلى المنزل بالتدريج. خرج أخي ليطمئن على سيارته أنها لم تغرق؛ فهي أغلى ما يملك! أُمي تطمئن على أن السِجاد لم يتبلل! أُختي رأت أن تذهب لتنام في الطابق السُفلي بعيداً عن ضجيج العائلة وصوت المطر! أما أنا فبقيتُ جالسةً على سجادة الصلاة أبكي وأتضرع: "إن كان بلاءً فيا ربِ خفِّف، وإن كان مُجرد مطرٍ فيا ربِ أنزل السكينة والطُمأنينة على قلبي"؛ فقد كنتُ أُعاني حينها من ضربات قلبٍ شديدةٍ زادت تخوفي! خرجتُ من غُرفتي فرأيتُ أخي يُريد النزول ليطمئن على سيارته وعندما فتح باب المنزل كانت الصدمة؛ الماء يتدفق بغزارةٍ داخل المنزل، وأُختي نائمةٌ في الطابق السُفلي؛ فنزل أخي مُسرعاً ليوقظها، وصرخات أُمي تُنادي عليها! سمِعت أُختي صراخنا فأرادت الخروج من باب الشقة السفلية وإذا بباب المنزل ينقلع من مكانه ويأتينا سيلٌ من الماء، من رحمة ربي أن انقلاع الباب لم يأتِ بصورةٍ مُستقيمةٍ وإلا ماتت أُختي حينها، أرسل أخي يده فتشبثت أُختي بها بسرعةٍ، وفي لمح البصر وصل الماء إلى الطابق الثاني! ذهبنا مُسرعين إلى الطابق الثالث، ثم خرجنا إلى سطح المنزل! الماء يعلو، والأمطار تتزايد. صعِدنا لأعلى قُبةٍ في المنزل بجوار خزان الماء. السماء فوقنا مُباشرةً، وسيول الماء تعلو تحتنا، ويعلو صراخنا: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، الرجال كالنساء؛ الكل يبكي وبشدةٍ، فالموت أمامنا لا محالة! حينها كنتُ أتذكر أعمالي، وبماذا سألاقي ربي؟ ماذا أعددتُ لهذه اللحظة؟ هل ربي راضٍ عنّي؟ ماذا عن حجابي؟ هل كان كما يُحبّ الله؟ لم أمنح في حياتي للقرآن وقت اًكثيراً؛ هل سأموت شهيدةً ويتقبلني ربي من الشُهداء؟ وقفزت إلى ذهني الآيات التي تحكي قصة طوفان نوح عليه السلام. ومَن كان منزله مِن طابقٍ واحدٍ انجرف تحت السيل العارم وكان من المُغرقين! رأيتُ الأهوال كأنها أهوال يوم القيامة، وفي تلك الساعة أصبح الجميع يلهج بالشهادتين: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله". الجميع يستغفر ويتوب من شدة ما رأى. لم اهتم بأبي ولا أُمي ولا أخوتي، فنفسي وحدها كانت شُغلي الشاغل! وتذكرتُ: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ . وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ . وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ . لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ وصدق الله العظيم؛ فقد كان لي شأنٌ يُغنيني، فإما جنةٌ أو نارٌ! ثلاث ساعاتٍ قضيناها تحت هذا الرُعب، يعجز اللسان عن وصف ما فيها من خوفٍ ورجاء، وكلنا بين ساجدٍ ومُتضرعٍ يناجي ربه، وأصبحت أصواتنا تعلو نُنادي: ﴿يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾، فما رفعتُ رأسي من السجود إلا وسمعتُ جارنا الذي يعلونا بطابقٍ يقول: "منسوب المياه قلّ"؛ فحمدنا الله وشكرناه، وسألناه أن يُسخِّر لنا من يأتي لإنقاذنا. كبَّر المؤذن لصلاة الفجر، صلينا الفجر على سطح المنزل تحت المطر الخفيف. بكيتُ كثيراً لأنها كانت أول مرةٍ أصعد فيها إلى سطح المنزل المكشوف دون خِمار! دعوتُ ربي بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلى أن يسترني دُنيا وآخرة، وأن يرفع عنا البلاء، وأن يغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا، وأن يشملنا بعفوه ورضاه؛ وأن يُحسن خاتمتنا، ويتقبل منا أعمالنا الصالحة، ويغفر لنا زلاتنا. ناجيتُه بكل عملٍ صالحٍ قدمتُه، وتذكرتُ ذنوبي فاستحييتُ منها ومسني الخجل، فسألته المغفرة وأن يُعاملنا بما هو أهلٌ له، ولا يُعاملنا بما نحن أهلٌ له. كان لديّ يقينٌ تامٌ أن الله سُبحانه وتعالى مُنجينا، وأنّ خلف هذا البلاء حكمةً ربانيةً عظيمةً! لكني كنتُ خائفةً من نفسي التي بين جنبيّ أكثر من أي شيءٍ آخر؛ خفتُ أن أكون ممن يذكر الله خالصاً وقت الشدة وينساه وقت الرخاء؛ فيا ويحَ نفسي إن هي عادت للتقصير في حق الله! أتممنا صلاة الفجر وانتظرنا الشروق.. توقف المطر، ومنسوب المياه قلَّ، وتوقفت الرياح، وأنا أُردد: "اللهم برداً وسلاماً، اللهم شمساً مُشرقةً". وفعلاً أشرقت الأرض بنور ربها؛ وسُجّل ذلك اليوم على أنه يومٌ لا يُنسى، ولم يُرَ مثيلاً له من قرونٍ عدة! نزلنا من القبة العالية بجوار خزان المياه إلى سطح المنزل فنظرتُ إلى شارعنا ورأيتُ الدمار؛ وكأن آية ربّي في قوم عادٍ تحققت فينا: ﴿فَأَصْبَحُوا لَا يُرَىٰ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ﴾، فلم أرَ حينها سوى بعض المساكن، ولم يسلم بيتٌ واحدٌ من الغرق والخراب. ذهبت سيارة أخي الفاخرة فوق الشجرة، وسيارات الجيران كل واحدةٍ في مكان، والأرض مليئةٌ بجثث الموتى، حتى أن الطابق الأول من منزلنا وجدنا فيه جثتين لفتاتين شابتين! كل البيوت تهدمت، كل المُمتلكات ضاعت! والسعيد الوحيد هو ذاك الذي رأى نفسه وأهله جنبه ولم يغرق أحدٌ منهم! ذهب التعلق بالدنيا وذهب حُبها من قلبي! المدينة تهدمت، الأحياء القريبة من الوادي الذي انفجر تهدمت بالكامل واستوت مع الأرض! كل شيءٍ تحول لونه بنياً كلون الطين! خرجنا هاربين من منازلنا خوفاً من انهيارها فوق رؤوسنا، لم اهتم بملابسي ومُقتنياتي ولا بجوالي الذي كان يُرافقني أينما كنت! المهم عندي كان نقابي ولباسي الشرعي؛ أُريد الستر لا أكثر. سِرنا حُفاةً نُصارع الأرض المُبللة والطين.. مررنا بجانب بيت جارنا الذي مات كل أفراد أُسرته بالكامل. دموعٌ تُذرف وقلوبٌ ترتجف، والحال لا يوصف! ودَّعنا كل شيءٍ، ودَّعنا الأحياء والأموات، ودَّعنا الذكريات؛ ودَّعتُ غُرفتي ونافذتها التي تُطل على ما كانت نباتاتٍ خضراء! ودَّعتُ كُتبي وأقلامي وذكريات الطفولة، ودَّعتُ سَكَني ومسكني وملاذي الآمن، ودَّعتُ سجّادة صلاتي ومُصحفي! لم يتبقَ لي شيءٌ، إلا العمل الصالح وأهلي!

 

الآن انتهت الحكاية، وأُسْدِل الستار على المدينة والحيّ الذي كنتُ أسكن فيه! ورحم الله تعالى الأموات، وربط على قلوب ذويهم، والحمد لله رب العالمين، اللهم أجرنا في مصيبتنا هذه، واخلف لنا خيراً منها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

أحبتي في الله.. القصة مليئةٌ بالدروس والعِبر، لكن أكثر ما لفت انتباهي قول الراوية: "ذهب التعلق بالدنيا وذهب حُبها من قلبي"، وأثار هذا القول فكرة الاعتدال، والوسطية، والموازنة بين الدنيا والآخرة، وتذكرتُ العبارة المشهورة (لا تفريط ولا إفراط)، كما تذكرت قول الله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾، وقوله سُبحانه: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾. تذكرتُ أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ، جَمَعَ اللهُ لَهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ. وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يُؤْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ]. وهذه جميعها نصوصٌ توضح وبجلاء أن ديننا الحنيف لا يدعو المؤمن إلى ترك الدنيا بالكُلية وراء ظهره ويتفرغ لأعمال الآخرة، كما أنه لا يُجيز أبداً إهمال ما يُفيد المُسلم في آخرته الأبدية واهتمامه فقط بأمور دنياه الزائلة، بل ومع فكرة الموازنة بين الدنيا والآخرة، ومقولة (لا تفريط ولا إفراط) فإن المُفلحين والفائزين هُم مَن يُقدِّمون حرث الآخرة على حرث الدنيا؛ يقول تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾، ويقول سُبحانه: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى﴾. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا]. ونهياً عن التعلق بحُب الدنيا ونسيان الآخرة؛ يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾.

 

يرى أهل العلم أن على المسلم أن يأخذ بالأسباب ويبذل الوِسعَ في تحصيل الرزق الحلال، ويُعمِّر الأرض بما يُرضي الله جلَّ وعلا، يستمتع بدنياه استمتاعاً لا يضر بدينه ولا بآخرته بغير تفريطٍ ولا إفراط؛ ومَنْ جعَل همَّه الأكبر الآخرة والعمل لها كفاه اللهُ هَمَّ دنياه، ومن استولت عليه الدنيا واستولت على قلبه وجعلها همَّه عاش عبداً أسيراً لها مُشتتَ البالِ، لا يقنع بقليلٍ ولا يسعد بكثير؛ فالإسلام يمزُج في تعاليمه بين دعوته إلى تحقيق مصالح الدين وتحقيق مصالح الدنيا، ويجعل هاتين المصلحتين مُتلازمتين لزوم الروح للجسد، غير أنه وضع ضوابط لطلب الدنيا، تتلخص هذه الضوابط في طلبها لغاياتٍ ساميةٍ نبيلةٍ، منها: أن يصون الإنسان نفسه عن الحاجة، وينأى بنفسه عن المسألة، ويوفر لعياله ما يحتاجون إليه، ويتوفر عنده ما يُمكِّنه مِن مَدِّ يد العون والمُساعدة إلى مَن كان في حاجةٍ إلى معونته ومُساعدته، وأن يكون طلبها من طريقٍ حلالٍ مشروعٍ، وألا يكون للتفاخر والتكاثر فحسب، فإن توافرت تلك الضوابط كان طلب الدنيا حينئذٍ عبادةً يُثاب عليها المرء أحسن مثوبةً عند الله عزَّ وجلَّ.

 

أحبتي.. المُتبصِّر في حال البعض اليوم يجد منهم تفريطاً في أعمال الآخرة، وإفراطاً شديداً في حب الدنيا والانشغال بها، هواهُم في نَيْلِها، وغايةُ مُناهم في السعي لها، فلا هَمَّ عندهم إلا هذه الدنيا، لكن العاقل هو مَن كان شعاره (لا تفريط ولا إفراط)؛ فيتخذ مِن حياته مزرعةً لآخرته، لا يُغلِّب عليها دنيا، ولا يُقدِّم عليها شهوةً ولا هوى؛ مُتدبراً قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾، مُنتبهاً إلى ما ينفعه في آخرته وإلى قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾، وقول نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: [كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ]؛ فلا يكون مُفرِّطاً تُلهه دنياه عن آخرته، ولا يكون مُهملاً شئون دنياه إهمالاً تاماً فيكون قد خالف شريعة ربه وسُنة نبيه. إن ديننا دين الوسطية والاعتدال، ونهجنا هو (لا تفريط ولا إفراط).

 

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خيرٍ، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.

https://bit.ly/4hJsvxd

الجمعة، 31 يناير 2025

فضل الصلاة على النبي

 خاطرة الجمعة /484

الجمعة 31 يناير 2025م

(فضل الصلاة على النبي)

 

عند خروجهما من المسجد بعد صلاة الفجر ألقى على جاره السلام فلم يرد عليه؛ فاستغرب وقال فينفسه: "لماذا لم يرد عليّ السلام رغم قوة العلاقة بيننا؟"،  لكنه استدرك حين رأى وجه جاره يشي بأنه مهمومٌ مشغول البال، وسرحان؛ فاقترب منه وسأله: "خير إن شاء الله؛ ما الأمر؟!"، فقال: "صاحب العمارة طلب مني أن أُغادر الشقة لعدم دفعي للإيجار، وأنا والله لا أملك المال"، فقال له جاره: "سأسعى لتدبر الأمر إن شاء الله". يقول هذا الجار: قبل صلاة العصر بخمس دقائق جاءني هاجسٌ بأن أذهب للصلاة في مسجد "عُكاشة بن محصن"، وهو يقع في حارةٍ ليست ببعيدةٍ عنا، ولا أدري لماذا جاءني هذا الهاجس! صلينا وبعد أن انتهينا من صلاتنا، وهممنا بالخروج إذا بصديقٍ لي لم أره منذ مُدةٍ طويلةٍ فسلمتُ عليه، أخبرني بأنه يسكن في مكانٍ بعيدٍ، لكنه كان مدعواً على طعام الغداء عند قريبٍ له يسكن في هذه المنطقة فقرر أن يُصلي في هذا المسجد! وخلال الحوار بينهما إذا بذاك الصديق الذي التقاه بغير ترتيبٍ يسأل صاحبنا -ودون أية مناسبة-: "هل تعرف أسرةً فقيرةً لا تجد مأوىً لها؟"، فقال صاحبنا: "ولماذا تسأل؟!"، فقال: "أنا مسؤولٌ عن وقفٍ صغيرٍ نذره صاحبه لله تعالى، وفيه عشرون شقةً، بالأمس خرج أحد الساكنين بسبب تحسن ظروفه المادية؛ فقرر أن يُتيح المكان لمن هو أَحْوَج منه"، فصرخ صديقنا: "عندي عندي عندي.. أعطني رقم هاتفك، وإياك ثم إياك أن تتصرف به"، فقال الصديق: "لا عليك.. اعتبره تحت تصرفك.. وعموماً.. من ستأتي به لن يدفع مليماً واحداً وإلى الأبد؛ لأنه وقفٌ لله".

 يقول صديقنا: "خلال عودتي لحارتنا مُتجهاً لأُبشِّر جاري، بدأتُ أُفكر في سيْر الأحداث العجيبة؛ بدايةً من لقائي معه بعد صلاة الفجر ثم معرفتي بحالته عندما سألته عن حاله.. وكيف أنني توجهتُ لأداء صلاة العصر في مسجدٍ لم أُصَلِ فيه في حياتي، في حارةٍ لم أزرها منذ سنين لألتقي قدراً بصديقٍ لم أره منذ عشر سنواتٍ -بل ولا حتى أحتفظ برقم هاتفه- ليُخبرني أن لديه شقةً مُتاحةً لأسرةٍ فقيرةٍ؛ إذاً لابد وأن صاحبنا له كرامةٌ عند ربه أو خبيئةٌ كبيرةٌ أو أنه عمل عملاً عظيماً فرَّج الله به كربته.

عندما وصل صاحبنا إلى حارته انطلق نحو بيت جاره الفقير فبشره؛ وإذا به يبكي من شدة الفرح.. بل إنه جلس على الأرض إذ لم تحمله قدماه؛ فسأله صاحبنا: "ما الذي فعلتَه منذ أن تركتُك بعد صلاة الفجر حتى الآن؟!"، فقال الجار الفقير: "واللهِ لم أفعل شيئاً.. ولكن عند عودتي من صلاة الفجر رأتني زوجتي مهموماً؛ فاقترحت عليّ أن نعكف سوياً على الصلاة على النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، ودون توقفٍ حتى غياب الشمس على نية أن يُفرِّج الله سُبحانه وتعالى علينا.. وها أنتَ الآن تأتيني بالخبر السعيد، وصدقني لم نفعل شيئاً غير الصلاة على النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم".

يقول راوي القصة: القصة حقيقيةٌ، وقد وقفتُ عليها بنفسي وأعرف أطرافها معرفةً جيدةً. إنه (فضل الصلاة على النبي) وتاللهِ يا قوم؛ ما ذلَّ ولا زلَّ ولا قلَّ مَن على محمدٍ صلَّى.

 

أحبتي في الله.. أمَر الله سُبحانه في كتابه العزيز عباده المؤمنين بالصلاة على نبيه وصفوته من خلقه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فقال جلَّ ثناؤه: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾، والصلاة من الله رحمته ورضوانه، ومن الملائكة الدعاء والاستغفار، ومن الأمة الدعاء والتعظيم لأمره. ويقول تعالى: ﴿لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾، ومعنى توقير النبي تشريفه وتكريمه وتعظيمه، والصلاة عليه من أعظم أنواع التوقير والتشريف له.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [رَغِم أنْفُ رجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ علَيَّ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [البخيلُ مَن ذُكرت عِندَه فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [مَا مِن أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلا رَدَّ اللهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيهِ السَّلَامَ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ اللهَ وَكَّل بقَبْري مَلَكًا أعطاه أسماعَ الخلائقِ فلا يُصَلِّي عليَّ أحَدٌ إلى يومِ القيامةِ إلَّا أبلَغَني باسمِه واسمِ أبيه؛ هذا فلانُ بنُ فلانٍ قد صلَّى عليك]. وقال صلى الله عليه وسلم: [أَكثِروا الصَّلاةَ عليَّ يومَ الجمعةِ وليلةَ الجمعةِ فمن صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى اللَّهُ عليْهِ عشرًا]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ أولى النَّاسِ بي يَومَ القيامةِ أَكْثرُهُم عليَّ صلاةً]. وقال صلى الله عليه وسلم: [صلُّوا عليَّ وسَلِّمُوا، فإنَّ صَلاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حيثُمَّا كنتُمْ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مَن ذُكرتُ عِندَه فَنَسِيَ الصَّلاةَ عليَّ؛ خَطِىءَ طَريقَ الجنَّةِ].

 

يقول العُلماء إن (فضل الصلاة على النبي) صلى الله عليه وسلم كبيرٌ وواسعٌ وشاملٌ، يتضمن طاعةً لله وامتثالاً لأمره؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، فينال المسلم أجر وثواب طاعة الله سبحانه، ويقتدي به في الصلاة على النبي، كما أن في الصلاة على النبي تعظيماً له صلى الله عليه وسلم، وتكميلاً للإيمان، وزيادةً في الحسنات، وتكفيراً للسيئات. والصلاة على النبي من أعظم أنواع الذِكر والعبادة لله، ولو لم يكن للذِكر إلا هذا الفضل لكفى به شرفاً. والصلاة على النبي سببٌ في استجابة الدُعاء ومغفرة الذنوب والتخلُص من الهُموم؛ فقد قال أحد الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم: أَجْعَلُ ثُلُثَ صَلاتِي عليكَ؟ قال: [نَعَمْ إنْ شِئْتَ]، قال: الثُّلُثَيْنِ؟ قال: [نَعَمْ]، قال: فَصَلاتِي كلَّها؟ قال رسولُ اللهِ: [إذا يَكْفيكَ اللهُ ما أَهَمَّكَ من أَمْرِ دُنْياكَ وآخِرَتِكَ] في هذا الحديث سأل الرجل النبي صلى الله عليه وسلم عن المقدار الذي يأمره به للصلاة عليه في دعائه: هل يجعل ثلث دعائه أو ثلثيه؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأن الزيادة في الصلاة عليه خيرٌ لهو أفضل، حتى قال الرجل: "فصلاتي كلها؟"، أي: أصرف دعائي لك بالصلاة من الله جميع الزمن الذي كنتُ أدعو فيه لنفسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا يكفيك الله ما أهمك، من أمر دنياك وآخرتك"، أي: إذا صرفتَ جميع زمن دعائك في الصلاة عليّ كُفيت ما يهمك من أمر دينك ودنياك؛ ويُنجز لك كل أمورك؛ وذلك لأن الصلاة عليه مشتملةٌ على ذِكر الله، وتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، واشتغال المرء بأداء حق النبي صلى الله عليه وسلم عن أداء مقاصد نفسه.

 

والصلاة على النبي علامةٌ من علامات الإيمان؛ لحديث النبي عليه الصلاة والسلام: [لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُم حتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْهِ مِن والِدِهِ ووَلَدِهِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ]، والمحبّة المُطلقة للنبي تكون باتّباع بكل ما أمر به، والابتعاد عن كُلّ ما نهى عنه. وقد بينت العديد من الأحاديث عِظم الصلاة على النبي؛ ومنها ما يحفّز المُسلم على الإكثار من الصلاة على النبي، ويكون سبباً في صلاة الله على من يُصلّي على النبي ورفع الدرجات في الجنة يوم القيامة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: [مَن صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى اللَّهُ عليهِ عشرَ صلواتٍ، وحُطَّت عنهُ عَشرُ خطيئاتٍ، ورُفِعَت لَهُ عشرُ درجاتٍ]، فالسعيد من لازم الصلاة على النبي. والصلاة على النبي بمثابة رد الجميل له، وحقٌ من حقوقه على أمّته مُقابل الخير العظيم الذي قدّمه لهم، وسببٌ من أسباب إجابة الدعاء عند ختمه بالصلاة على النبي. كما أنه سببٌ في نيل شفاعة النبي يوم القيامة، وتُزكّي النفس وتُطهّرها، وينال المصلي على النبي البركة في عمله، والرحمة من الله، وتنفي الحسرة والندامة عن المجلس الذي يُصلَى فيه على النبي.

 

وقد جاءت أحاديث كثيرةٌ في (فضل الصلاة على النبي)؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [صَلُّوا عَلَيَّ، فإنَّه مَن صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عليه بها عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الوَسِيلَةَ، فإنَّها مَنْزِلَةٌ في الجَنَّةِ، لا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدٍ مِن عِبادِ اللهِ، وأَرْجُو أنْ أكُونَ أنا هُوَ، فمَن سَأَلَ لي الوَسِيلَةَ حَلَّتْ له الشَّفاعَةُ]. ويقول: [جاءني جبريلُ فقالَ: أما يُرضيكَ يا محمَّدُ أن لاَ يُصلِّي عليْكَ أحدٌ من أمَّتِكَ إلاَّ صلَّيتُ عليْهِ عشرًا، ولاَ يُسلِّمَ عليْكَ أحدٌ من أمَّتِكَ إلاَّ سلَّمتُ عليْهِ عشرًا].

 

والصلاة على النبي ينبغي قولها قبل الدعاء وبعد حمد الله عزَّ وجلَّ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: [إذا صلَّى أحدُكُم فليَبدَأ بتَمجيدِ ربِّهِ جلَّ وعزَّ والثَّناءِ علَيهِ، ثمَّ يصلِّي علَى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، ثمَّ يَدعو بَعدُ بما شاءَ]، بمعنى: إذا أراد أحدكم أنْ يَدْعُوَ، فلْيَبدَأْ دُعاءَه بتَمْجيدِ ربه أي: بتعظيمِ ربِّهِ جَلَّ وعَزَّ والثَّناءِ عليه بما هو أَهْلُه، ثُمَّ يُصلِّي على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ يَدْعو بَعْدُ، أي: بَعْدَ ذلك بما شاء مِن خيرِ الدُّنيا والآخِرَةِ.

 

وأكمل الصيغ للصلاة على النبي هي ما أخبرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم: [اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ].

 

وفي إشارةٍ إلى (فضل الصلاة على النبي) يقول الشاعر:

يا مَنْ شَكَوَتَ تَعاسَةً وهُموما

ورَجَوْتَ مِنْ بَعْدِ الشَقاءِ نَعيما

اللهُ يَكْفي هَمَّ مَنْ صَلوا عَلَى

طِبِّ القُلوبِ وسَلَّموا تَسْليما

وقال غيره:

صَلّوا عَلَى المَبْعُوثِ فينا رَحْمَةً

تُكْتَبْ لَكُمْ عَشْراً لَدى الرَحْمَن

صلَّىَ عَلَيْكَ اللهُ يا خَيْرَ الوَرى

ما ضَجَّت الآفاقُ بالأَذان

وقال ثالثٌ:

يا شاكيًا ضيقَ الحَياةِ وهَمَّها

هَلْ تَرْتجي لِلْهَمِّ أنْ يَتَبَدَّدا

إنَّ الدَواءَ بِكَلِمَةٍ لَوْ قُلْتَها

لَمَا استَطاعَ الهَمُّ أنْ يَتَمَرَدا

اجْعَل لِسانَك دائمًا يَشْدو بِها

وهيَ الصَلاةُ عَلَى النَبيِّ مُحَمْدًا

 

أحبتي.. الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليست مجرد كلماتٍ تُقال، بل هي عبادةٌ تُصلِح القلب، وتُعلي المنزلة، وتُوثق الصلة بالحبيب المصطفى، وهي من أعظم العبادات وأجلِّ القُربات فهي تجمع بين طاعة الله تعالى وحُبِّ الرسول صلى الله عليه وسلم. فلنجعل ألسنتنا رطبةً دائماً بالصلاة والسلام على نبينا الكريم خاصةً عند ذِكره صلى الله عليه وسلم، ويوم الجمعة وليلتها، وعند كل دعاء، وفي بداية مجالسنا وختامها.

اللهم تقبل منا، وثقِّل بصلاتنا على النبي صلى الله عليه وسلم موازين حسناتنا.

 

https://bit.ly/3Eiy0V7

الجمعة، 24 يناير 2025

بلغوا عني ولو آية

 

خاطرة الجمعة /483

الجمعة 24 يناير 2025م

(بلغوا عني ولو آية)

       

يقول أحد الأخوة: منذ فترةٍ طويلةٍ كنتُ أُصلي إماماً بالناس في صلاة العشاء، وبعد ما انتهيتُ من الصلاة جاء رجلٌ لا أظن أن عُمره يقل عن سبعين عاماً، أتذكر شكله جيداً، لحيته بيضاء، ظهره فيه انحناءٌ خفيفٌ، يلبس طاقيةً على رأسه، ملابسه عاديةٌ، ويستند على عكازٍ، قال لي: "أود أن أتكلم كلمتين يا بُني؟"، قلتُ له: "تفضل يا والدي"، فأمسك بالميكروفون ووجهه للناس، وبدأ يشرح سورة الإخلاص شرحاً لم أسمعه من قبلُ في حياتي كلها؛ تكلم فيه عن: أنواع التوحيد، الربوبية، الأُلوهية، الأسماء والصفات، تكلم فيها عن عظمة الله، تكلم فيها عن إفك النصارى أن لله الولد، تكلم عن الفارق بين التوحيد عند المُسلمين والتثليث عند النصارى، وتكلم عن فضل سورة الإخلاص. صوت هذا الرجل الشيخ الكبير كان صوتاً مُتهالكاً ضعيفاً يكاد لا يُسمع، إلا أن أسلوبه جعل الناس يستمعون إليه بإنصاتٍ، لم يقم منهم واحدٌ، ولم يتحرك منهم أحدٌ؛ لجمال أسلوبه.

‏‏ يقول الأخ: مرّت على هذه الحادثة حوالي 17 سنةً تقريباً، وفي إحدى الليالي، بعد صلاة العشاء، جاء نفس الرجل على نفس الهيئة، إلا أن تقدمه في العُمر جعله أكثر وهناً، وبدلاً من استناده على عكازٍ، كان يستند على أحد أولاده، جاءني بعد الصلاة وطلب الكلمة؛ فأعطيته الميكروفون؛ فقال نفس ما قاله منذ 17 سنةً بالضبط وبالحرف الواحد في تفسير سورة الإخلاص! انتهى الرجل من كلمته، ثم صلّينا السُنّة، وبعد أن انتهينا قلتُ لولده باستغرابٍ شديدٍ: "الحاج من 17 سنةً تقريباً كان عندنا هنا في نفس المسجد، وقال نفس الكلام الذي قاله اليوم بالضبط، أليس عنده كلامٌ غير تفسير سورة الإخلاص؟"، قال لي: "نعم، والدي له أكثر من خمسين سنةً يدعو إلى الله بتفسير سورة الإخلاص فقط لا غير!"، قلتُ له: "معقول؟!"، قال: "نعم والله"؛ فدمعت عيناي وتذكرتُ حينها قصة الرجل الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يصلي بالناس دائماً بسورة الإخلاص، فلما رفعوا أمره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الرجل: "هي صفة الرحمن وأُحب أن أقرأ بها"، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: [حُبُّكَ إيَّاها أدْخَلَكَ الجَنَّةَ]. ومن حوالي شهرٍ تقريباً، التقيتُ ابن هذا الرجل وأخبرني أن أباه مات في إحدى المستشفيات، وقال لي: "لما كان على فراش الموت وحوله الأطباء، قال لهم: ألا أقول لكم شيئاً؟ فقالوا له: قُل يا والدي!! فأخذ يشرح لهم سورة الإخلاص، وما إن انتهى منها حتى فاضت روحه ومات".

يقول راوي القصة: وقتها تذكرتُ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ ماتَ على شيءٍ بَعثَهُ اللهُ عليْهِ]. مات الرجل ولم أعرف اسمه، ولا يعرفه الكثيرون، مجهولٌ لدينا، لكنه معروفٌ في السماء عند الله سبحانه وتعالى؛ لذلك حسنت خاتمته؛ عاش على مبدأ (بلغوا عني ولو آية) ومات على التوحيد، فاللهمّ نسألك الإخلاص وحُسن الخاتمة.

 

أحبتي في الله.. ذكرتني هذه القصة بمثيلةٍ لها، تكاد تتطابق معها؛ يقول الراوي: في إحدى القُرى، وفي بيتٍ من بيوت الله، بعد أن أُديتُ فريضةً من فرائض الله، قام أحد الدُعاة يُحدِّث المُصلين عن فضل ذِكر الله، لم يزلْ الشيخ مُتنقلاً بين آيات الكتاب الكريم وأحاديث السُنة المُطهرة وأحوال السلف الصالح لترغيب عباد الله في ذِكر الله، والناس يُنصتون إليه في لهفةٍ وشوقٍ، كان ممن يجلس بين المصلين رجلٌ كبيرٌ في السن، أُميٌ لا يقرأ ولا يكتب، أقبل بوجهه وقلبه على كلام الشيخ، حتى بلغ الشيخ ما جاء عن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ علَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ في المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إلى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ]، ما إن سمع هذا الحديث حتى حفظه عن ظهر قلبٍ، ووقع في نفسه أيما موقعٍ حتى استقر في قلبه، وأحب أن يكون ممن استجابوا لقول النبي صلى الله عليه وسلم (بلغوا عني ولو آية). خرج من المسجد وهو يُردد هذه الكلمات المُباركات، ولم يزل كذلك حتى وصل بيته فنظر في حال أهله فوجد أنهم في إقبالٍ على الدنيا وإدبارٍ عن الآخرة، فنادى في أهله: "إني لكم ناصحٌ أمينٌ، أنتم ها هنا في لهوٍ ولعبٍ وكأنكم لم تسمعوا بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: وما الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم؟، فساق لهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم ثم أردف قائلاً: "يا زوجتي ويا أبنائي ويا بناتي؛ أدركوا أنفسكم قبل فوات الأوان، طهروا قلوبكم وثقِّلوا موازينكم بهاتين الكلمتين [سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ]"؛ فاستجاب أهله لندائه، ورطبتْ ألسنتهم بذِكر الله. كان الرجل يخرج بعد صلاة العصر فيغشى الناس في أسواقهم ومجالسهم، نظر إلى أحوال قومه فوجد أنهم في شُغلٍ عن ذِكر الله فنادى فيهم: "يا قومي؛ هل أدلكم على ما ينفعكم؟"، قالوا: "نعم"، فساق لهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يزل في قومه مُلِحّاً عليهم، داعياً إياهم إلى ترطيب ألسنتهم وتطهير قلوبهم بذِكر الله عزَّ وجلَّ؛ فاستجاب له قومه وأهله. عاش الرجل مُستمسكا بهذا الذِّكر، لم يكدْ لسانه يفتر عنه، لم يكن يقابل أحداً إلا أقرأه حديث النبي الكريم، ودعاه إلى ذِكْرِ الله؛ لقد امتلأ قلبه بنور هذا الذِّكر، وفاض هذا الحب على اللسان، أراد هذا الرجل لكل من عرفه أن يشعر باللذة التي شعر بها، وأراد للناس أن يأنسوا بذِكر الله كما أنِس، وتطمئن قلوبهم كما اطمأن قلبه. ومضت بِضع سنين والرجل على حاله، لا يُغيِّر ولا يُبدِّل، حتى إذا داهمه المرض وأُدخل المُستشفى لم يعد يقدر على شيءٍ، غير أن لسانه لم يزل مُتلذذاً بالكلمات المُباركات [سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ]؛ كان يدخل عليه الأطباء وفريق التمريض من العرب والعجم فيُنادي فيهم ويُرغبهم في الذِّكر الذي اجتمع حبه في قلبه، حتى إذا جاءت اللحظات الأخيرة، والطبيب عند رأسه، وكان الطبيب على دين النصارى؛ فناداه الرجل: "يا دكتور"، قال الطبيب: "نعم يا عم"، قال الرجل: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: [كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ علَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ في المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إلى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ]، ثم فاضت روحه إلى بارئها، عندها ذُهل الطبيب ورقَّ قلبه؛ لقد شاهد في حياته العملية حالات احتضارٍ كثيرةٍ، غير أن هذا المرة لم تكن كسابقاتها، لقد مات الرجل المُسن وهو يتحدث بكل ثقةٍ وثباتٍ وهدوءٍ، لم يتردد الطبيب كثيراً فما هي إلا أيامٌ حتى أخذ قراره الحكيم؛ فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. 

تأملوا: سمع هذا الرجل بحديثٍ واحدٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعاه وبلغه كل من رأته عيناه! تأملوا: كيف ترجم قول النبي صلى الله عليه وسلم (بلغوا عني ولو آية) فصلُحت حياته بحديثٍ واحدٍ وحسُنت خاتمته بحديثٍ واحدٍ، وصدق رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام حين قال: [لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فإنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أنْ يُبَلِّغَ مَن هو أوْعَى له منه].

 

هاتان القصتان تُظهران لنا كيف أن كلمةً واحدةً، أو آيةً واحدةً، يمكن أن تكون سبباً في تغيير حياة إنسان، وأن تُحدث تأثيراً كبيراً في حياة الأشخاص؛ لم يكن هذان الرجلان عالِميْن أو من الدُعاة المشهورين، لكنهما فَهِما أن عليهما واجب التبليغ، ولو بكلماتٍ قليلةٍ، ففعلا ما استطاعا.

 

يقول تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾، وهذا استفهامٌ تقريريٌّ؛ أي: لا أحد أحسنُ قولاً ممن دعا إلى الله مع العمل الصالح الذي يُصدِّق قوله، ومع استسلامه لله تعالى مُنكِراً ذاته، فتصبح دعوته خالصةً لله تعالى، ليس له فيها إلا التبليغ. ويقول سُبحانه: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾.

ويقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَن دَعا إلى هُدًى، كانَ له مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن أُجُورِهِمْ شيئًا]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [مَن دَلَّ علَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ]، كما يقول: [بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَة]، قال شُرّاح الأحاديث إن الشريعة المُطهرة حثت على تبليغ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، كلٌ بحسب استطاعته وعِلمه، بشرط تحري الصحة والصدق فيما يُبلَّغ عن الله عزَّ وجلَّ ورسوله صلى الله عليه وسلم. والمقصود هو: أخبروا الناس وعلموهم بكل ما جاء عني وبلغتكم به، من قرآنٍ أو سُنةٍ، واقتُصر هنا على الآية؛ ليُسارع كل سامعٍ إلى تبليغ ما وقع له من الآيات والعِلم، ولو كان قليلاً، ولو كان آيةً واحدةً؛ بشرط أن يُبلغ الآية صحيحةً على وجهها. وقوله: [آيَةً] يشمل القرآن الكريم والحديث النبوي الصحيح؛ لأن الحديث في حُكم الآية القرآنية من حيث إنه وحيٌ من الله عزَّ وجلَّ؛ يقول الله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾؛ فالمسلم مطالَبٌ بتبليغ ما وصل إليه من القُرآن والأحاديث النبوية إلى غيره ممن لم يبلغه، ولو كانت آيةً قصيرةً من القُرآن. وقال بعض أهل العلم: قال: [وَلَوْ آيَةً]، ولم يقل: ولو حديثاً؛ لأنَّ الأمر بتبليغ الحديث يُفهَم من هذا بطريق الأَوْلَوية، فإنَّ الآياتِ مع انتشارها وكثرة حَمَلَتِها، وتَكَفُّل الله سُبحانه بحفظها، وصوْنها عن الضياع والتحريف، إذا كانت واجبةَ التبليغ، فالحديث الذي لا شيء فيه مما ذُكر أَوْلى. 

 

قال العُلماء إنه في عصرنا الحالي، حيث التواصل بين الناس أصبح أسهل من أي وقتٍ مضى، يمُكننا جميعاً أن نكون مثل هذين الرجلين؛ ننقل الخير ولو بتفسير آيةٍ واحدةٍ أو سورةٍ قصيرةٍ أو حديثٍ نبويٍ صحيحٍ، سواءً عبر الكلام المباشر، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو حتى بسلوكنا وتعاملنا مع الآخرين؛ فقد تكون كلمة خيرٍ نقولها، أو موقفٌ إيجابيٌ نفعله، سبباً في هداية شخصٍ، وهذا هو جوهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: [بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَة]، إن تبليغ رسالة الإسلام وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم يُمكن أن يكون لها تأثيرٌ إيجابيٌ على الأفراد والمجتمع ككل. إنها دعوةٌ لنشر الخير والسلام، والتأكيد على أهمية تبليغ رسالة الله، حتى ولو كان ذلك بآيةٍ واحدةٍ أو حديثٍ نبويٍ شريفٍ واحد.

 

كما قال العُلماء؛ فإن الدعوة إلى الله تعالى من أيسر الأمور، يُمْكِننا مُمارستها في كل أحوالنا؛ فإنها لا تشترط أن يقوم بها المختصون أو مَن وظيفتُهم الدعوة؛ بل يُمكن أن يقوم بها كل مُسلمٍ حتى لو قام بنشر آيةٍ واحدةٍ أو حديثٍ أو ذِكرٍ، فإنه يؤجر على ذلك. ومن الحكمة اتباع أفضل وأسهل الطُرق للوصول إلى الناس، وليس هناك أفضل ولا أسهل من مواقع التواصل الاجتماعي للاستجابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم (بلغوا عني ولو آية)، وللوصول إلى البشر حول العالم دون عناءٍ؛ حيث إن شبكة الإنترنت قد صارت من ضروريات الحياة للكثير من الناس في هذا العصر، وصار الإنسان أسيراً لها، فعلى كل مُسلمٍ مُخلصٍ أن يُسخِّر ذلك في تبليغ دعوة ربِّه ونشر دين الله بين سائر البشر. إن استثمار وسائل التواصل الاجتماعي في الدعوة إلى الله تعالى صار ضرورةً؛ حيث يسعى أصحاب الهوى والضلال للسيطرة عليها بكل جِدٍّ، وجعلها مُستنقعاً للشر وكل الموبقات من القاذورات الفكرية والنفسية، ولا يسع الدُعاة والصالحين اعتزال هذه الوسائل؛ دفعاً للباطل ورحمةً بأبناء المسلمين الذين سيتأثرون حتماً بالباطل إن لم يجدوا فيها من ينشر الخير؛ فيجب على الدُعاة استثمار هذه الوسائل واستخدامها في نشر الدعوة إلى الله، وعدم تركها لأهل الباطل يتحكَّمُون فيها، ويُدمِّرون العالم بنشر الشر والفساد، وهذه مسؤولية الأمة، ومسؤولية كل مُسلمٍ يستطيع الإسهام في نشر الخير ولو بتبليغ آية.

وإن مجال الدعوة عبر وسائل التواصل مفتوحٌ لكل مُخلصٍ يُريد أن يقوم بالدعوة إلى الله، مهما كان علمه، كثيراً أو قليلاً؛ فإن في الدعوة إلى الله: تذكيرٌ ووعظٌ للغافلين، وتعليمٌ للجاهلين، وأمرٌ بالمعروف، وحقٌ على الطاعات، ونشرٌ للفضائل ومكارم الأخلاق، ونهيٌ عن المنكر، وزجرٌ عما نهى الله عنه، ودعوةٌ لغير المسلمين إلى الإسلام. 

 

أحبتي.. السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا فعلنا عندما وصلتنا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم (بلغوا عني ولو آية)؟ ماذا قدمنا للدعوة في سبيل الله؟ هل استخدمنا وسائل التواصل الاجتماعي في سبيل الدعوة إلى الله؟ إن كُنا قد فعلنا؛ فنحن ممن وصفهم الله سُبحانه وتعالى بالمُفلحين. وإن كُنا قد قصَّرنا؛ فما تزال أمامنا فرصةٌ لتدارك ما فرَّطنا فيه، ولنبدأ بالتخلية قبل التحلية؛ فنترك كل ما لا لزوم لنشره من أفلامٍ وأغانٍ وصورٍ، وكلامٍ فاحشٍ أو بذيء، ونربأ بأنفسنا أن ننسب إلى الله عزَّ وجلَّ أو إلى نبينا المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ما هو باطلٌ أو موضوع، وأن لا ننشر ما فيه ظلمٌ للغير أو افتراءٌ عليهم، وأن نتثبت ونتأكد من صحة ما نود نشره قبل النشر. ثم تبدأ مرحلة التحلية بنشر كل ما هو صحيحٌ مفيدٌ، وأن نحرص على أخذ العلم من مصادره الموثوقة قبل أن ننقله للآخرين. 

وفقنا الله جميعاً لخدمة دينه، وعباده، وسهَّل لنا سُبل تعلم العلم الشرعي وتعليمه. اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وارزقنا علماً تنفعنا به.

https://bit.ly/3CoKVnY

الجمعة، 17 يناير 2025

عاقبة الغضب وخيمة

 

خاطرة الجمعة /482

الجمعة 17 يناير 2025م

(عاقبة الغضب وخيمة)

 

تقول إحداهن: في ذات يومٍ طلبتُ من زوجي قبل ذهابه إلى العمل أن يُحضر لي غرضاً عند عودته من العمل، ونبهتُ عليه أن لا ينسى. وعندما عاد زوجي من العمل، كانت يداه فارغتين، ولم يُحضر لي الغرض الذي طلبته منه، فانزعجتُ جداً، وزاد من غضبي أنني كنتُ قد نبهتُ عليه أن لا ينسى، لم أستطع أن أُسيطر على غضبي فقمتُ بالصراخ عليه وبدأتُ أتشاجر معه، وصار صوتي عالياً، وكلما أراه صامتاً لا يرد، كنتُ أزداد غضباً، لقد تجاهلني وكان لا ينظر إلى وجهي، وهذا ما جعلني أنفعل بشدةٍ وفي ذروة غضبي طلبتُ منه ‏الطلاق، وأصررتُ على ذلك، لكنه لم يبالِ بطلبي للطلاق، بل تركني ودخل إلى غرفة النوم، فلحقتُ به وأمسكتُه من قميصه وقلتُ له وأنا في قمة الغضب: "إن كنتَ رجلاً طلقني".  فجأةً تغيرت ملامح وجهه، وعرفتُ أن كلمتي أثَّرت فيه، لكني لم أُعطِ أي اهتمامٍ لذلك، ثم قال لي: "حسناً؛ خُذي ابنتك واذهبي إلى بيت والدك، وسوف أُرسل لكِ ورقة الطلاق". أخذتُ ابنتي الصغيرة، وذهبتُ إلى بيت أبي، وحالته المادية ضعيفةً؛ فنحن فقراء، لكنه العناد. كان معي بعض المال جمعته من مصاريفي اليومية، أنفقتها على نفسي وابنتي وعلى أهلي. بعد يومين جاء زوجي وأعطاني ورقة الطلاق في كيسٍ صغيرٍ، وذهب ولم يُعطني أية أموالٍ كنفقةٍ مُستحقةٍ لي ولابنته، شعرتُ بالغضب وأخذتُ الورقة ثم وضعتها في حقيبتي دون أن أقرأها. بعد عشرة أيام نفد المال الذي كان معي وصارت حالتنا أسوأ بكثيرٍ، لم يعد يوجد شيءٌ في المطبخ نأكله، وكنتُ حاملاً في الشهر السابع. دخلتُ إلى غُرفتي فشدني الفضول بشأن تلك الورقة، فقمتُ بإخراج الكيس الصغير من حقيبتي ثم فتحته، وكانت الصدمة أكبر مما كنتُ أتصور! لقد وجدتُ بداخله مالاً يكفي لمصاريف شهر، ثم فتحتُ الورقة فإذا هي رسالةٌ من زوجي وليست ورقة الطلاق! كتب في الرسالة: "زوجتي العزيزة كيف حالك؟ وكيف حال طفلتي؟ لقد اشتقتُ لكما كثيراً، أنا آسفٌ لأني لم أُحضر لكِ طلبكِ ليس لأني نسيتُ، بل لأني كنتُ أُرتب لكِ مُفاجأةً بأن نخرج معاً ونأكل في أحد المطاعم، ثم تشترين بنفسك كل ما تريدين، لكن عندما رأيتك منزعجةً وغاضبةً، سكتُّ، ليس خوفاً أو ضعفاً، بل كنتُ أخشى عليكِ أن تتعبي وخصوصاً أنكِ حامل، فمنعتُ نفسي من الرد على كلماتك الجارحة، ثم انسحبتُ ودخلتُ إلى غُرفة نومنا، خوفاً من أن أفقد سيطرتي وأفقد أعصابي فتشتعل النار أكثر، لكن حين قلتِ: "إن كنتَ رجلاً طلقني"، تمالكتُ أعصابي وسيطرتُ على نفسي؛ نعم أنا رجلٌ، لكن هذا لا يعني أن أُظهر رجولتي تحت تأثير غضبك وأستجيب لطلبك.. ورأيتُ أن أُعطيكِ درساً في كظم الغيظ وعدم التسرع، وأن في العجلة الندامة.. نعم عزيزتي لقد جرحني كلامك، ولكن ستبقينَ زوجتي الحبيبة، وأم أولادي، وقد وضعتُ لكِ ‏مالاً يكفيكِ لمصاريف شهر، حتى لا تحتاجين لأي شيءٍ، وإذا كنتِ تريدين أن تعودي فمرحباً بكِ، ستنورين بيتك، وإذا كنتِ ما زلتِ غاضبةً مني وتُريدين البقاء في منزل والدك، فكما تُحبين". تقول السيدة: ‏"كنتُ أقرأ الرسالة ودموعي تتساقط؛ لقد شعرتُ بالندم، وعرفتُ خطئي، ثم قمتُ على الفور أجمع وأُجهز أغراضي، ثم اتصلتُ بزوجي وأنا أبكي، واعتذرتُ له عما فعلته به، لقد قتلني بلطفهِ، وتصرفه الهادئ، لقد كنتُ أحترق وأنا أقرأ كلماته الرقيقة. بعد ساعةٍ طرق زوجي الباب وفتحتُ له، وأنا أبكي قبَّلتُ رأسه، وطلبتُ منه السماح، ثم قام زوجي بوضع مالٍ في يدي لأُعطيه لوالدي، وعُدنا إلى المنزل. منذ تلك الحادثة وحتى اليوم، لا أرفع صوتي على زوجي، ولا أطلب منه أيشيءٍ، بل كان حين يخرج يسألني: "هل تحتاجين شيئاً؟"، كنتُ أرد عليه: "لا أحتاج أي شيءٍ سوى عودتك سالماً مُعافىً". لقد تعلمتُ كيف أن (عاقبة الغضب وخيمة).

 

أحبتي في الله.. هذه القصة تُذكرني بقصةٍ أخرى مُشابهةٍ؛ امرأةٌ مُتزوجةٌ تقول: في لحظة غضبٍ قلتُ لزوجي: "يا ليتني لم أتزوجك"، توقعتُ أنه سيصرخ أو سيقوم بتعنيفي، لكنه صمت وخرج من البيت وعاد بعد ثلاث ساعاتٍ، ومنذ عودته أحسستُ أني مُتزوجةٌ برجلٍ آخر، رجلٍ ليس مثل زوجي، هذا ليس زوجي! صامتٌ، لا يتكلم، لا يناقش، لا يُجادل، لا يفرح، ولا يغضب، يقوم بواجباته المنزلية فقط. لقد مرَّت أربع سنواتٍ على هذه الحالة، وفهمتُ ما معنى أن تُخرب بيتك بكلمةٍ واحدةٍ، ومعنى أن (عاقبة الغضب وخيمة)؛ ففي لحظة غضبٍ خسرتُ نفسي وخسرتُ زوجي وخسرتُ سعادتي.

 

إنه الغضب، الذي مدح الله عزَّ وجلَّ مَن فعل عكسه بأن يغفر بدلاً من أن يغضب؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ وجعل سُبحانه ذلك من صفات المؤمنين.

هو الغضب، الذي لم يسلم منه بشر؛ فهذا سيدنا موسى عليه السلام تَمَلَّكَهُ الغضب: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا﴾، ثم سكت عنه: ﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ﴾. وهذا سيدنا يونس عليه السلام جعله الغضب يترك قومه لكُفرهم ويذهب عنهم: ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا﴾.

هو الغضب، الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: [إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ]، ونهانا عليه الصلاة والسلام عن الغضب فقال لرجلٍ طلب منه أن يوصيه: [لا تَغْضَبْ] وَرَدَّدَ مِراراً: [لاَ تَغْضَبْ]، وأعطانا صلى الله عليه وسلم وصفةً للتخلص من الغضب؛ فقال: [إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ] وبرَّر ذلك بقوله: [إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ]. كما قال عليه الصلاة والسلام: [إذا غَضِبَ أحدُكم فلْيسكتْ]، وقال عن رجلٍ غاضبٍ: [إِنِّي لأَعْرِفُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ: أَعُوذُ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ]. وقال كذلك: [إذا غضبَ أحدُكم وهو قائمٌ فلْيجلسْ، فإن ذهبَ عنه الغضبُ وإلاَّ فلْيَضْطَجِعْ]؛ لأن القائم الواقف أكثر استعداداً للبطش والتمادي في الغضب، وأما القاعد فهو أقل حركةً وأقل استعداداً للبطش، وكذلك الراقد أو المضطجع؛ فإنه لا يقدر على ذلك. ومدح-عليه الصلاة والسلام- صفة التحكم في النفس؛ فقال: [ليسَ الشَّدِيدُ بالصُّرَعَةِ، إنَّما الشَّدِيدُ الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ].

وورد في الأثر: "اتَّقوا الغضَبَ؛ فإنَّه جَمرةٌ على قلبِ ابنِ آدَمَ".

كما ورد عن الغضب واختلاف الناس في سُرعة غضبهم وسُرعة رجوعهم عنه: "منكم مَن يكونُ سَريعَ الغضَبِ، سَريعَ الفَيءِ، ومنكم مَن يكونُ بَطيءَ الغضَبِ بَطيءَ الفَيءِ، وخيارُكم مَن يكونُ بَطيءَ الغضَبِ سَريعَ الفَيءِ، وشِرارُكم مَن يكونُ سَريعَ الغضَبِ، بَطيءَ الفَيءِ".

 

وللوالدين دورٌ كبيرٌ في مُعالجة الغضب عند أبنائهما؛ فهذا أبٌ فكَّر بطريقةٍ مُبدعةٍ كيف يمنع ابنه من الغضب؛ فقد كان ابنه عصبياً يفقد صوابه كلما غضب، فأحضر له والده كيساً مملوءاً بالمسامير وقال له: "يا بُني؛ أُريدك أن تدق مسماراً في سياج حديقتنا الخشبي كلما اجتاحتك موجة غضبٍ وفقدتَ أعصابك". بدأ الولد بتنفيذ نصيحة والده فدَّق في اليوم الأول ثلاثين مسماراً، ولم يكن إدخال المسمار في السياج سهلاً؛ فقرر أن يتمالك نفسه عند الغضب. ومع مرور الأيام كان يدق مسامير أقل، وفي أسابيع قليلة تمكن من ضبط نفسه، وتوقف عن الغضب وعن دق المسامير، وأخبر والده بإنجازه؛ ففرح الأب بهذا التحول، وقال له: "عليك الآن يا بُني استخراج مسمارٍ في كل يومٍ يمر عليك لم تغضب فيه"، بدأ الولد فيخلع المسامير في الأيام التي لا يغضب فيها، حتى انتهى من خلع جميع المسامير من السياج، وأخبر والده بإنجازه مرةً أخرى، فأخذه والده إلى السياج وقال له: "أحسنتَ صُنعاً يا بُني، ولكن انظر الآن إلى تلك الثقوب في السياج، هذا السياج لن يعود كما كان أبداً"، وأضاف: "عندما تقول كلاماً جارحاً وقت الغضب فإنه يترك آثاراً في نفوس الآخرين مثل هذه الثقوب، تظل موجودةً مهما اعتذرتَ، فلا تغضب".

 

وعن معنى أن (عاقبة الغضب وخيمة) قيل:

من أطاع غضبه أضاع أدبه.

أول الغضب جنونٌ وآخره ندم.

الغضب هو جنونٌ مؤقت.

 

وقال الشاعر:

وَلَمْ أَرَ فَضْلاً تَمَّ إِلّا بِشيمَةٍ

وَلَمْ أَرَ عَقْلاً صَحَّ إِلّا عَلى أَدَبِ

وَلَمْ أَرَ في الأَعْداءِ حينَ خَبَرْتُهُم

عَدُوّاً لِعَقْلِ المَرْءِ أَعْدَى مِنَ الغَضَبِ

 

أحبتي..  من منا لا يغضب؟ لا أحد؛ كلنا نغضب، فإن كان غضبنا إيجابياً غيرةً على الدين، أو نُصرةً لمظلوم، أو إظهاراً لحقٍ فهذا غضبٌ محمود.

أما إن كان غضبنا سلبياً، نفقد فيه أعصابنا في علاقاتنا الخاصة، فنؤذي الغير بأقوالنا أو أفعالنا، ثم نندم وقت لا ينفع الندم، ونكتشف بعد فوات الأوان أن (عاقبة الغضب وخيمة)، فعلينا أن نلتزم بما ورد في سُنة النبي عليه الصلاة والسلام كعلاجٍ للغضب. كما أن علينا أن نُدرّب أنفسنا وأبناءنا على ‏فضيلة كظم الغيظ وأن نحث أحباءنا على ذلك؛ فهي من صفات المُحسنين الذين يُحبهم الله؛ يقول تعالى: ‏‏﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.

اللهم اجعلنا ممن يملكون أنفسهم وقت الغضب، ويسِّر لنا القدرة على كظم الغيظ، وحبِّب إلى نفوسنا العفو والصفح والتسامح.

 

https://bit.ly/3ClcX3y

 

الجمعة، 10 يناير 2025

خُلُق الشهامة

 

خاطرة الجمعة /481

الجمعة 10 يناير 2025م

(خُلُق الشهامة)

 

يقول راوي القصة: قبل عدة سنواتٍ، قمتُ بتغيير سيارتي واشتريتُ سيارةً جديدة. كانت السيارة القديمة تُضيء مصباح البنزين بشكلٍ مبكرٍ جداً، بمعنى أنه قد يكون هناك 10 لترات من البنزين متبقيةً فيخزان السيارة، ومع ذلك يُضيء المصباح، مما يُتيح لي القيادة لأكثر من 100 كيلومتر إضافية، أما السيارة الجديدة، فكان المصباح يُضيء متأخراً، قبل 40 أو 50 كيلومتر فقط من نفاد الوقود. في أول شهرٍ بعد شرائي للسيارة، كنتُ في طريقي إلى اجتماعٍ مهمٍ جداً ومتأخراً عليه، وفجأةً أضاء مصباح البنزين. قلتُ لنفسي: "لا مشكلة، سأذهب إلى الاجتماع أولاً ومن ثمَّ أملأ الوقود". انتهى الاجتماع في الساعة الثالثة عصراً، وهو وقت ازدحام المرور بمدينة «القاهرة» بسبب انصراف الموظفين. كنتُ في الطريق، مشغولاً بتفاصيل الاجتماع ونتائجه، فجأةً، وأنا في ذُروة زحمة المرور، والسيارة تتجه نحو «كوبري أكتوبر» ذي الحارتين، نفد الوقود وتوقفت السيارة، وفي أقل من دقيقةٍ، توقف الطريق تماماً؛ فقد سددتُ حارةً من الحارتين، نظر الناس إليّ بنظراتٍ غير لطيفةٍ، مُتعجبين كيف توقفت هذه السيارة الجديدة اللامعة بهذا الشكل! المشكلة أن السيارة أوتوماتيكية، فلا يُمكن دفعها ولا يُمكن تركها واقفةً بهذا الشكل في هذا المكان.

 كنتُ واقفاً مُتحيراً لا أعلم ماذا أفعل، وخائفاً من تركها والذهاب لجلب الوقود. فجأةً، توقفت سيارةٌ قديمةٌ جداً أمامي، ونزل منها رجلٌ وسألني: "ما الأمر؟" قلتُ له: "نفد الوقود"، بدون كثيرٍ من الكلام، فتح حقيبة سيارته وأخرج حبلاً سميكاً وربطه بسيارته وسيارتي ثم قال لي: "اركب وركز معي". جرّني مسافةً طويلةً حتى وصلنا إلى إحدى محطات الوقود، لم يكتفِ بذلك، بل عرض أيضاً أن يدفع لي ثمن الوقود، ولكني طمأنته أن معي المال. بعد أن شكرته، سألته: "ألم تكن خائفاً من أن تتأذى سيارتك؟ أو يحدث شيءٌ للمحرك؟ أو تتأخر عن مواعيدك؟" رد بابتسامةٍ بسيطةٍ وقال: "أبداً، ما فكرتُ فيه هو أنه لو كنتُ مكانك كنتُ أتمنى أن أجد من يقف معي ويساعدني، وهذا هو ما قمتُ به؛ أحببتُ لك ما أحببتُ لنفسي". علمتُ منه أنه من أحد الأقاليم، ولديه شركة دعايةٍ صغيرةٍ، وجاء إلى «القاهرة» للتعاقد مع مطبعة، قلتُ له: "أنا أعرف صاحب مطبعةٍ جيدةٍ، يُمكنني أن أكلمه وأوصيه عليك"، أعطيته بياناته، وأنهينا لقاءنا بتبادل أرقام هواتفنا.

مرت سنتان، ونسيتُ الموضوع تماماً، ويوماً ما، تلقيتُ مكالمةً منه، بعد التحية قال لي: "أردتُ أن أطمئن عليك، وأخبرك أن صاحب المطبعة الذي عرَّفتني به صار شريكي، ومن مكاسب السنة الأولى فتحنا فرعاًفي «مدينتي» واشترينا ماكينة طباعةٍ جديدة، أردتُ أن أشكرك على هذا المعروف". أنهيتُ المكالمة وأنا مُندهشٌ؛ فهو يرى أن ما حدث كان معروفاً مني، ولكن الحقيقة أنه هو الذي علّمني درساً كبيراً، علّمني أن الرزق ليس مجرد حساباتٍ وأرقامٍ، الرزق الذي يأتيك دائماً يكون أعظم من الرزق الذي تسعى إليه، ما تفعله بصدقٍ وإخلاصٍ بدون انتظار مكسبٍ، هو الذي يجلب لك الخير غير المتوقع، وأن (خُلُق الشهامة) ليس كلاماً يُقال وإنما هو أفعالٌ تتسم بالمبادرة، تُقدَم للمُحتاج دون طلب.

 

أحبتي في الله.. من مواقف الشهامة التي وردت في القرآن الكريم؛ يقول تعالى عن سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَمَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ۝ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾، قال المفسرون عن هذا الموقف إن موسى تحركت فيه عوامل الشهامة، وسقى لهما، وأدلى بدلوه بين دِلاء الرجال حتى شربت ماشيتهما.

 

ولأن الشيء يُعرف بضده؛ فإن ضد صفة الشهامة، تكون صفة الخذلان. وخذلان المسلم لأخيه المسلم أمرٌ تُنكره الشريعة؛ يقول علماؤنا إنه من الصفات الذميمة التي تستجلب الذُل والهوان؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ، ولا يَخْذُلُهُ، ولا يَحْقِرُهُ]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي قائِمَةً بأمرِ اللهِ، لا يَضُرُّهُم مَن خَذَلَهُم، وَلا مَن خالَفَهُم، حَتى يأتي أمْرُ اللهِ، وَهُم ظاهِرُونَ عَلى الناسِ]، "مَن خَذَلَهُم" أي: مَن ترك عَوْنَهم ونَصْرَهم. وقد حثّ النبي على نُصرة المُسلم لأخيه المُسلم؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا]، قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، هذا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكيفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قالَ: [تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ] بمعنى منعه من الظلم.

 

عودةً إلى (خُلُق الشهامة) يقول أهل الاختصاص إنه خُلُقٌ عظيمٌ يُعبر عن النُبل، والإحسان، ومُساعدة الآخرين. وهو واحدٌ من الخلال الحميدة يتميز بها من يمتلك العزيمة، الكرامة، العدالة، الاستقامة، المسؤولية؛ والحرص على تقديم يد العون للآخرين في الأوقات الصعبة؛ إذ يستجيب لمبادئه وقيَمه، ويتصرف بسرعةٍ وإيجابية دون طلب. والشهامة صفةٌ من صفات الكرم والشجاعة والمروءة، تدل على الرفعة في التعامل مع الآخرين. إنها سمةٌ تعكس القوة النفسية والقدرة على اتخاذ القرارات الصائبة في اللحظات الحاسمة، كما تعني الاستعداد لمساعدة الآخرين والوقوف بجانبهم وقت الحاجة. إن الشخص الشهم هو الذي يتمتع بشجاعةٍ أخلاقيةٍ، وقدرةٍ على القيام بالتصرفات النبيلة التي تعكس روح الفروسية الحقيقية، دون انتظار مقابل.

 

ومن المواقف التي تُبين معنى ومفهوم الشهامة: مُساعدة الجيران إذا تعرض أحدهم لمشكلة، الدفاع عن الضعفاء والمظلومين ومساعدتهم للحصول على حقوقهم، والإيثار والتضحية بتقديم مصلحة الآخرين على المصلحة الشخصية. وتظهر الشهامة في المواقف التي تتطلب تدخلاً فورياً لحل مشكلةٍ أو مُساعدة شخصٍ في حاجةٍ، سواءً في الأوقات العادية أو في المواقف الطارئة، وتشمل العديد من الجوانب في الحياة اليومية؛ كما في الأوقات الصعبة كالأزمات أو الكوارث، وفي المواقف التي يكون فيها أحدٌ بحاجةٍ للمُساعدة تكون الشهامة بتقديم المساعدة سواءً كانت ماديةً أو معنويةً.

 

ومن فوائد الشهامة وآثارها على الشخص الشهم: أنه يحظى بالاحترام والتقدير من الآخرين؛ ما يؤدي إلى بناء سمعةٍ طيبةٍ له في المجتمع، وينال احترام الآخرين وتقديرهم، مما يُعزز ثقته بنفسه، ويزيد من مكانته الاجتماعية. والشهامة ومساعدة الآخرين والوقوف بجانبهم يبعث في نفس الشخص الشهم شعورا ًبالسلام الداخلي والراحة النفسية، كما أنه يجد نفسه مُحاطاً بالأصدقاء والمُحبين ويُحقق النجاح في علاقاته الاجتماعية ويُسهم في بناء جسور الثقة والتعاون بينه وبين غيره من الأفراد، كما أن مُساعدة الآخرين تجلب البركة في الرزق، وتعود بالنفع على الشخص الشهم بطرقٍ غير متوقعة.

 

أما فوائد الشهامة وآثارها على المجتمع فأهمها تعزيز التماسك الاجتماعي حيث يكون أفراد المجتمع مُتعاونين، يتعاملون بعضهم مع بعضٍ بالشهامة، مما يقوي العلاقات بينهم، ويُقلل من المشكلات الاجتماعية، ويُسهم في مكافحة الفقر بتقديم المُساعدة المادية للفقراء والمُحتاجين، وفي ذلك تعزيزٌ لقيم التعاون والاحترام المتبادل، ودعمٌ للعدالة بالدفاع عن حقوق الآخرين وشجب الظلم.

 

أحبتي.. الشهامة تقوم على الشجاعة والمُبادرة لنجدة الآخرين، والكرم لإعانة أصحاب الحاجات، والتضحية بالجهد والوقت والمال لخدمة الغير دون مقابل. والسؤال الآن هو: كيف نُربي أبناءنا على الشهامة؟ إن تربية الأبناء على الشهامة تتطلب تنمية مجموعةٍ من القيم والمهارات التي تُساعدهم على غرس وتنمية هذه الصفة في شخصياتهم؛ ويكون ذلك أولاً بأن نكون نحن قدوةً حسنةً لأبنائنا من خلال إظهار سلوك الشهامة في تصرفاتنا اليومية؛ فهم يتعلمون من أفعالنا أكثر من كلماتنا. ثم إن علينا تعليم أبنائنا قيمة العطاء ومُساعدة الآخرين سواءً بمُساندة الجيران أو التبرع بالمال أو الملابس للفقراء، مما يُعزز من (خُلُق الشهامة) لديهم، وعلينا أن نغرس فيهم مفاهيم الشجاعة والإقدام بالوقوف إلى جانب الحق والدفاع عن المظلومين. ومما يُساعد في غرس وتنمية قيمة الشهامة في نفوس أبنائنا أن نقص عليهم قصص الأبطال الشجعان والقصص التي تحكي عن شخصياتٍ تحلت بالشهامة، وأن نُشركهم في الأنشطة الاجتماعية والتطوعية والخيرية ليتعلموا كيفية تقديم المُساعدة للآخرين، ثم إن علينا أن نُشجعهم ونُكافئهم عندما يُظهرون سلوكاً شهماً، ونُحفزهم من خلال مكافآتٍ معنويةٍ وكلمات تقدير.

اللهم أعنّا على أن نكون من عبادك الذين يتسمون ب (خُلُق الشهامة)، وأن نربي أبناءنا على أن يتخلقوا بهذا الخُلُق النبيل.

https://bit.ly/40dl3mY

الجمعة، 3 يناير 2025

الظلم ظلمات

 

خاطرة الجمعة /480

الجمعة 3 يناير 2025م

(الظلم ظلمات)

 

يحكي شابٌ مصريٌ قصته قائلاً: في عام 2017م كان خالي يُعاني من سرطان الدم، وتم احتجازه في معهد الأورام بمدينة «القاهرة». ذهبتُ معه كمرافقٍ، وبقينا هناك لمدة خمسة عشر يوماً حتى توفاه الله. خلال تلك الفترة، كان خالي في غرفةٍ تحتوي على ثلاثة أَسِرّة، تفصل بينها ستائر. كان معه في الغُرفة رجلٌ يُدعى عم «أحمد»، يُعاني من سرطان الرئة، وكان لا ينام ولا يدعنا ننام بسبب بكائه المستمر طوال الليل. كان كلما نام حوالي ربع ساعةٍ استيقظ مفزوعاً. في إحدى الليالي، استيقظنا مفزوعين من شدة بكائه وصراخه، واجتمع الناس حوله يحاولون التخفيف عنه، وعندما انفضوا اقتربتُ منه وهو يبكي وقلتُ له: "تماسك يا عم «أحمد» وتحمَّل الكيماوي، أنا أعلم أن الكيماوي ألمه صعبٌ ومُتعِبٌ، لكن لابد منه حتى يكتب لك الله الشفاء"، ضحك الرجل ضحكةً مُمتلئةً بالدموع وقال: "يا بُني، هل تظن أنني أبكي من الكيماوي؟ لا.. أنا أُعاني من ألمٍ لا يُطاق، ألمٍ لا يتحمله بشر"، قلتُ له: "قُل لي يا عم «أحمد»، افتح لي قلبك، ما الذي يُسبب لك كل هذا الألم؟"، قال: "يا بُنيّ، إنه ألم الحسرة والندم في وقتٍ لا ينفع فيه الندم.. أسأل نفسي في كل لحظةٍ: هل يمكن أن يُسامحني الله؟"، قلتُ له: "مما يُسامحك يا عم؟"، قال: "من ظُلمٍ فادحٍ أنا نادمٌ عليه الآن؛ فقد كان لديّ شريكٌ في تجارةٍ، وكان له نصيبٌ مثلي في وكالةٍ أنشأناها سوياً، من حُسن نيته وطيبته، سلَّم لي التجارة كاملةً لأُديرها، لعب الشيطان بعقلي، وأغرتني الدنيا، فأخرجته من التجارة وأكلتُ حقه، بل وجعلته مديوناً، حاول الرجل كثيراً استعادة حقه، لكنني كنتُ قد رتبتُ الأوراق جيداً، مما اضطره لبيع بيته لسداد ديونه، لم أرحمه ولم يَرِق له قلبي. خرج الرجل من البلدة مع زوجته وأولاده الثلاثة وبنتيه، وقبل أن يُغادر، مرَّ عليّ في الوكالة وقال لي: "أنا مُغادرٌ الآن بسبب ظلمك لي، وستكون خصيمي يوم القيامة، يوم أن نقف جميعاً أمام الله سُبحانه وتعالى، حسبي الله ونعم الوكيل". لم أهتم لما قاله، ولم يهز كلامه شعرةً واحدةً في رأسي.

بعد أن غادر، بدأت الدنيا تُعطيني بسخاءٍ، وزادت ثروتي، وظننتُ أن المال مالي، وأديتُ فريضة الحج أكثر من مرةٍ، واعتمرتُ مراتٍ عديدةٍ! كبر أولادي وتعلموا، وعمل بعضهم معي في التجارة، إلى أن بدأ المرض يرافقني، عندها، تركني أولادي في البيت مثل الكلب. قلتُ لهم يوماً إن هناك شخصاً له دَيْنٌ عندي وأُريد سداده، كان ردهم: "عندما تقابله يوم القيامة، سدِّد له دَيْنه!". زاد المرض عليّ؛ فأحضروني إلى هنا، ولم يعد أحدٌ منهم يسأل عني، ولا حتى زوجتي للأسف. يا بُنيّ، منذ أن حضرتُ إلى هنا، كلما نمتُ جاءني شريكي في المنام وقال لي: "هانت، لم يبقَ إلا القليل، وحقّي سآخذه منك"، يتكرر الأمر كلما أغمضتُ عينيّ؛ لهذا السبب أقوم مفزوعاً ولا أستطيع النوم. إنه عذابٌ شديد، ألمه أكثر بكثيرٍ من ألم العلاج الكيماوي"، قاطعته قائلاً: "هوِّن عليك"، فاستطرد يقول كأنه لم يسمعني: "سألتُ عن شريكي فعلمتُ أنه مات، وأن أولاده قد فتح الله لهم أبواب الرزق وأصبحوا أغنياء جداً، ذهبتُ إليهم، وطلبتُ منهم أن يُسامحوني، كان ردهم: لو أن دخولك الجنة يتوقف على سماحنا فلن نُسامحك أبداً". ثم صرخ الرجل بأعلى صوته وقال لي جملةً اقشعر منها جلدي واهتز لها كياني كله: "يا بُنيّ، منذ أكثر من شهرٍ كلما أُغمض عينيّ أرى مقعدي في جهنم!". مات خالي، وبعد أيامٍ ذهبتُ لزيارة عم «أحمد» فعلمتُ أنه مات في المستشفى وحيداً ليس معه أحد.

هذا أَكَلَ مال شخصٍ واحدٍ بالحرام، فما بالك بمن ظلم الكثير من الناس أو أكل حقوقهم؛ ألا يعلم أنهم سيكونون كلهم جميعاً خصومه يوم القيامة؟

المُرعب في حكاية عم «أحمد»، وفي غيرها من حكايات الظلم، أن الظالم عاش عمره كله في نعيمٍ وصحةٍ ومكسبٍ ونجاحٍ ومالٍ وفيرٍ وأولادٍ وشهرةٍ، وهذا ما يجعل الكثير من الظالمين يعتقدون أنهم على حق!

 

أحبتي في الله.. (الظلم ظلمات)، وفي القرآن الكريم آياتٌ كثيرةٌ تتحدث عن الظلم وتُبين آثاره وعواقبه الوخيمة؛ وعن الظالمين وما ينتظرهم من عذابٍ، ومن تلك الآيات آيةٌ تقشعر لها أبدان المؤمنين؛ يقول تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ﴾ ولا تركنوا بمعنى لا تميلوا ولا حتى بقلوبكم، يقول المُفسرون: إن كان مُجرَّد الرضا بأعمال الظَّلَمة يستوجب مسيسَ النار، فما ظنُّك بمَن يُشاركُهم ظلمَهم؟ لا يَهلِكُ بالظلمِ فاعلُه فحسب، بل يَهلكُ معه مُوافقُه، والمطمئنُّ إليه، قيل: "لا تُصاحب ظالماً؛ فلا أمان في صُحبة الظالمين، ولا نصر يُرتجى لمائلٍ إليهم؛ فمآلُ الظالمين خسارة الدنيا والآخرة"؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَعَنَتِ الوُجوهُ لِلحَيِّ القَيّومِ وَقَد خابَ مَنحَمَلَ ظُلمًا﴾، ويقول كذلك: ﴿وَلا تَحسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمّا يَعمَلُ الظّالِمونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُم لِيَومٍ تَشخَصُ فيهِ الأَبصارُ ۝ مُهطِعينَ مُقنِعي رُءوسِهِم لا يَرتَدُّ إِلَيهِم طَرفُهُم وَأَفئِدَتُهُم هَواءٌ﴾، ويقول أيضاً: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾.

 

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [إن الله لَيُمْلي للظالم فإذا أخذهُ لم يُفْلِتْهُ] ثم قرأ: ﴿وَكَذلِكَ أخْذُ رَبِّكَ إذَا أخَذَ الْقُرَى وَهِي ظَالِمَةٌ إنَّ أخْذَهُ ألِيمٌ شَديدٌ﴾. وعَنه فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: {يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا}. ويقول عليه الصلاة والسلام: [مَن كَانَتْ له مَظْلِمَةٌ لأخِيهِ مِن عِرْضِهِ أَوْ شيءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ منه اليَومَ، قَبْلَ أَنْ لا يَكونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إنْ كانَ له عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ منه بقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وإنْ لَمْ تَكُنْ له حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيه]. ويقول صلى الله عليه وسلم: [اتَّقُوا الظُّلْمَ؛ فإنَّ الظُّلْمَ ظُلُماتٌ يَومَ القِيامَةِ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [لَتُؤَدُّنَّ الحُقُوقَ إلى أهْلِها يَومَ القِيامَةِ، حتَّى يُقادَ لِلشّاةِ الجَلْحاءِ، مِنَ الشَّاةِ القَرْناءِ]. ويقول صلى الله عليه وسلم: [مَن ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأرْضِ طُوِّقَهُ مِن سَبْعِ أرَضِينَ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فإنَّهَا ليسَ بيْنَهَا وبيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ]. ويقول صلى الله عليه وسلم: [ثلاثٌ لا تُرَدُّ دعوتُهُم]، وذكر منهم [دعْوةُ المظلومِ؛ تُحمَلُ علَى الغَمامِ، وتُفتَحُ لها أبوابُ السَّماءِ، ويقولُ اللهُ تباركَ وتعالى: وعزَّتي وجلالي لأنصرَنَّكَ ولَو بعدَ حينٍ].

 

وتحدث كثيرٌ من أهل العلم عن أن (الظلم ظلمات)؛ فقالوا إن من أسباب الظلم: نزغ الشيطان، النفس الأمارة بالسوء، والهوى.

وقالوا عن بعض صور الظلم: أكل مال اليتيم، المماطلة في رد الحقوق، هضم حق المرأة والضعيف خاصةً في الميراث، عدم إعطاء الأجير حقه، الجوْر في القسمة بين الزوجات والأولاد، ظلم: الزوج زوجته، والزوجة زوجها، والأخ أخاه، والشريك شريكه، والجار جاره، والمدير في العمل مرؤوسيه، وغير ذلك.

وقالوا عن آثار الظلم ومضاره: الظلم يجلب غضب الرب سُبحانه، ويتسلط على الظالم بشتى أنواع العذاب، وهو يُخرب الديار، وبسببه تنهار الدول، والظالم يُحْرَمُ شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بجميع أنواعها، وعدم الأخذ على يده يُفسد الأمة، والظلم دليلٌ على ظُلمة القلب وقسوته، ويؤدي إلى صَغار الظالم عند الله وذِلته، وما ضاعت نعمةٌ إلا بظلمٍ، وما دُمرت الممالك إلا بسبب الظلم، وندم الظالم وتحسره بعد فوات الأوان لا ينفع، والظلم من المعاصي التي تُعجل عقوبتها في الدنيا، فهو متعدٍ للغير، وكيف تقوم للظالم قائمةٌ إذا ارتفعت أكف الضراعة من المظلوم بالدعاء على مَن ظَلمه؟

وقالوا عن غفلة الظالم: ألم يتذكر الظالم قبل أن يظلم، وقبل أن يأخذ ما ليس له، وقبل أن يلصق تهمةً بإنسانٍ بريءٍ، وقبل أن يستغل قوته ليسحق مَن تحته، وقبل أن يستغل مكانته ليؤذي غيره، ألم يتذكر أن الله بالمرصاد، وأن (الظلم ظلمات)؟ ألم يعلم أنه ما من ذنبٍ أسرع إلى تعجيل نقمةٍ وتبديل نعمةٍ من الظلم والبغي على الناس بغير الحق؟

وقالوا إن مما يُعين على ترك الظلم: تَذَكُر أن الله عزَّ وجلَّ نزَّه نفسه عن الظلم، النظر في سوء عاقبة الظالمين، عدم اليأس من رحمة الله، الذِكر والاستغفار، وكف النفس عن الظلم، ورد الحقوق لأصحابها.

 

ولما كان (الظلم ظلمات) فإن من واجب كل مسلمٍ أن ينصر أخاه الظالم على الوجه الذي بيَّنه لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قال: [انْصُرْ أخاكَ ظالِمًا أوْ مَظْلُومًا]. فقالَ رَجُلٌ: يا رَسولَ اللَّهِ، أنْصُرُهُ إذا كانَ مَظْلُومًا، أفَرَأَيْتَ إذا كانَ ظالِمًا، كيفَ أنْصُرُهُ؟ قالَ: [تَحْجُزُهُ -أوْ تَمْنَعُهُ- مِنَ الظُّلْمِ؛ فإنَّ ذلكَ نَصْرُهُ].

 

يقول الشاعر:

لا تظلمنَ إذا ما كُنتَ مُقتدراً

فالظلمُ مَرتعهُ يُفضي إلى النَدمِ

تنامُ عَينُك والمَظلومُ مُنتبهٌ

يدعو عليكَ وعينُ اللهِ لم تنمِ

ويقول آخر:

أما واللهِ إن الظلمَ لؤمٌ

ومازال المسيءُ هو الظَلومُ

إلى ديانِ يومِ الدينِ نمضي

وعندَ اللهِ تجتمعُ الخصومُ

ستعلمُ في الحسابِ إذا التقينا

غداً عند الإلهِ مَن المَلومُ

 

أحبتي.. ونحن في شهرٍ من الأشهر الحُرُم علينا أن نتدبر قوله تعالى عنها: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ﴾، ففي الآية تأكيدٌ على أن (الظلم ظلمات)، وأن الظلم في هذه الأشهر أشد منه في غيرها. فلنتقِ الله؛ ولا نظلم غيرنا، وننتبه من غفلتنا؛ فلا نميل لظالمٍ ولا حتى بقلوبنا. وإذا كنا قد تورطنا في ظلمٍ للآخرين فلنُسارع فوراً إلى توبةٍ نصوحٍ؛ نوقف الظلم ونمتنع عنه، ونرد المظالم لأصحابها ونطلب منهم الصفح، ونعزم على عدم الوقوع في الظلم أبداً، قبل أن يأتي يومٌ لا مرد له من الله.

اللهم لا تجعلنا من الظالمين، ولا ممن يوالون الظالمين ويرضون بظلمهم. وأعنّا اللهم على تقويم أنفسنا وإصلاح أحوالنا، واجعلنا ربنا من عبادك المُصلحين.

https://bit.ly/4fL0aVY