الجمعة، 11 نوفمبر 2016

وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ

الجمعة 11 نوفمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٥٧
(وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)

دعانا إلى حضور حفل أقامه بمناسبة انتهائه من بناء وتجهيز داره الصيفي الجديدة المطلة مباشرةً على واحدٍ من أجمل شواطئ البحر في مرسى مطروح، لبينا الدعوة، فرأينا داره في أبهى حلة وكأنما قد تزينت وتهيأت لاستقبالنا .. قدمنا التهاني وتمنينا طيب الإقامة والعيش فيها لصاحبنا وأسرته.
جلسنا في الحديقة الأنيقة لتلك الدار لا تفصلنا عن البحر إلا خطواتٌ قليلة .. منظر البحر من أمامنا خلابٌ يسحر ألبابنا بمياهٍ شفافةٍ صافيةٍ تتدرج ألوانها من الأزرق الغامق في خط الأفق إلى الأزرق الفاتح فالأخضر الفيروزي يليه التركواز لتنتهي إلى الأبيض الشفاف عندما يلامس رمال الشاطئ لترسم لوحة بصرية مبهجة بديعة في حُسنها! .. وأمواجٍ هادئةٍ تلقي بنفسها على رمال الشاطئ تغشاها برقةٍ كأنما هما في عناق ثم تتراجع على استحياء فتظل الرمال في اشتياقٍ إلى عناقٍ جديد! .. ونسيمٍ عليلٍ نقيٍ بكرٍ لم تدنسه أجواء المدن وعوادم سياراتها ينعش الأرواح ويطهر النفوس! .. وشمسٍ ساطعةٍ حانيةٍ تبثُ الدفء في أجسام من رموا بأنفسهم في ماء البحر لعباً ومرحاً بعد غياب شهورٍ وتُشاغبُ من استظلوا من أشعتها تحت الشماسي! .. ومن حولنا، في الحديقة التي نجلس فيها، بضع شجيراتٍ خضراء مزهرة بألوان تسر الناظرين، رائحة زهورها الزكية تداعب أنوفنا بعطرٍ فواحٍ يملأ صدورنا بهجةً وانشراحاً، وتحت أقدامنا حشائشُ ممتدةٌ كأنها بساطٌ مُسجى يحمل أقدامنا بحنان ويستقبل خطواتنا بحبٍ وشوق!
جلسنا نمتع أنفسنا بكل هذه النعم التي حبانا الله بها، ورحنا نتسامر معاً حتى ينتهي صاحب الدعوة مالك الدار من إعداد طعام الغداء .. ويا له من غداء .. سمكٌ يُشوىَ على الفحم أمامنا!
سرحت قليلاً مع كل هذا الجمال .. وتركت العنان لأفكاري .. قلت في نفسي: "إذا كان ما نراه ونستمتع به الآن ليس إلا شيئاً قليلاً من نعيم الدنيا، وهو زائل مهما عشنا في الأرض، فما بالنا بنعيم الآخرة؟"، وتذكرت وصف الجنة كما ورد في الحديث القدسي الذي يرويه النبي عليه الصلاة والسلام عن رب العزة: {أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر. واقرؤوا إن شئتم: فلا تعلم نفسٌ ما أُخفي لهم من قرةِ أعينٍ جزاءً بما كانوا يعملون}، وقلت لنفسي: لمثل هذا فليعمل العاملون (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)، فأين نحن من ذلك النعيم المقيم؟
وعندما عاودت النظر إلى هذه الدار التي نحتفل اليوم بمناسبة الانتهاء من عمارتها تداعى إلى ذهني بيتان من قصيدةٍ للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول فيهما:
لا دارٌ للمرءِ بعد الموت يسكُنها * إلا التي كانَ قبل الموتِ بانيها
فإن بناها بخيرٍ طاب مسكنُـه    *     وإن بناها بشرٍ خاب بانيها

وتذكرت أيضاً قول أحدهم: "رواتب السنين" تبني لك بها داراً في الدنيا، و"السنن الرواتب" يبني لك بها الله بيتاً في الجنة! .. تأملت في هذا المعنى .. كم منا يصرف عمره وماله كله في بناء دار له في الدنيا هو مفارقها وراحل عنها، ويغفل عن بناء دار له في الجنة التي هو خالد فيها بإذن الله؟ .. ألم نقرأ قول المولى سبحانه وتعالى وهو يبين لنا أن الحياة الحقيقية الدائمة والخالدة هي الدار الآخرة: ﴿وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾؟

أحبتي في الله .. الإسلام دين الوسطية والاعتدال؛ لم يأمرنا بالاهتمام بعمارة الآخرة فقط والبعد عن عمارة الدنيا، وإنما أمرنا بالجمع بين الدين والدنيا؛ قال تعالى:  ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾، وقال: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، وبين النبي أن المسكن الواسع "ويقصد مسكن الدنيا" أحد أسباب سعادة الإنسان؛ فقال عليه الصلاة والسلام: [أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء ...]، المهم في هذا الشأن ألا تكون الدنيا في قلب المؤمن تشغله عن عبادة الله وذِكره وأداء ما كُلف به من عبادات. أما مسكن الآخرة، مسكن الخلود في الجنة بإذن الله فقد جعله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات؛ قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾، وأورد في وصف الجنة، جعلنا الله من أهلها، الكثير من الآيات؛ قال تعالى: ﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ﴾، وقال تعالى: ﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ﴾، وقال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً.وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ.قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرا.ًوَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً.عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً.وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً﴾، وقال تعالى: ﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ.لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً.فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ.فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ.وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ.وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ.وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ﴾، وقال تعالى: ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾، وقال تعالى: ﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً﴾، وقال تعالى: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ﴾، وقال تعالى: ﴿مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ.فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ.يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ.كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ.يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ.يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ.فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ.كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ﴾، وقال تعالى: ﴿فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ.فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ.حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ﴾، وقال تعالى: ﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
الله الله على وصف الجنة، الله الله على نعيمها، الله الله على الخلود فيها بغير عمل ولا تعب ولا خوف ولا غل ولا مرض ولا موت .. حقاً لمثل هذا فليعمل العاملون (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ).

أحبتي .. إذا سألتكم، ولا أستثني نفسي، "ألا تعلمون أن الفوز بالجنة هو الفوز العظيم؟ ألا تتمنون أن تكون هي داركم؟ ألا تشتاقون لها؟" .. نقول جميعاً: "بلى، علمنا وتمنينا واشتقنا"، .. فإذا سألنا أنفسنا: "ماذا قدمنا من أعمالِ برٍ وتقوى نستحق بها أن نكون من أهل الجنة برحمة الله سبحانه وتعالى؟"، نكسنا رؤوسنا خجلاً لا ندري كيف نجيب من قلة ما قدمنا من عمل قياساً لما ينبغي أن يكون، ونحن نعلم ما قاله الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: [أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ]. 

أحبتي .. هيا نفر إلى الله .. ولنراجع أنفسنا .. ونعيد النظر في أولويات أعمالنا .. فكم هي قصيرة هذه الدنيا .. مهما عشنا فيها فنحن مغادرون إلى دار أخرى .. دار الخلود .. ونحن فيها إما إلى نار جهنم وجحيمها والعياذ بالله .. وإما إلى جنات النعيم، جنات عدن، برحمة الله .. فلنبني دارنا في الجنة بالخير فيما تبقى لنا من عمر .. ولمثل هذا فليعمل العاملون (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) .. الخيار ما يزال أمامنا .. وحبل العمر قد أمده الله لنا .. فكل يوم جديد يشرق علينا هو فرصة جديدة قد لا تتكرر .. منحةً من الله سبحانه وتعالى لنا لنحسن أعمالنا ونصوب مسارنا ونخفف من ذنوبنا ونزيد من حسناتنا ونرفع درجاتنا .. فليس من يومٍ يأتي على ابن آدم إلا يُنادى فيه: يا ابن آدم أنا خلقٌ جديد وأنا فيما تعمل عليك غداً شهيد، فاعمل فيَّ خيراً أشهد لك به غداً فإني لو قد مضيت لم ترني أبداً .. إن كل يوم جديد هو منحة ربانية يستفيد منها كل ذي عقل ليشيد لنفسه وأهله داراً في جنات عدن التي وعد الله عباده المتقين.

جعلنا الله وإياكم ومَن نحب مِن أهل الفردوس الأعلى من الجنة.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/gp49Tv