الجمعة، 11 سبتمبر 2020

رؤيا الحبيب

 

الجمعة ١١ سبتمبر ٢٠٢٠م


خاطرة الجمعة /256

(رؤيا الحبيب)

 

لستُ متأكداً من حقيقة هذه القصة، لا أدري إن كانت قد حدثت بالفعل أم هي من نسج الخيال! وأعتقد شخصياً أن الأسماء الواردة فيها مستعارة.

يقول راوي القصة: أنا من جراحي العظام المشهورين بقصر العيني، أنحدر من أسرةٍ ثرية، وبمجرد حصولي على بكالوريوس الطب أوفدني أبي لجامعة كامبردج ببريطانيا للحصول على الماجستير والدكتوراه بل والزمالة أيضاً. اخترتُ تخصص العظام، وعشتُ في بريطانيا أكثر من عشر سنواتٍ اصطبغت فيها حياتي بالمجتمع الإنجليزي في عاداته وسلوكياته، والذي ساعد على سرعة تكيفي مع البيئة الإنجليزية المحيطة بي، عدتُ إلى مصر وتم تعييني مدرساً لجراحة العظام بقصر العيني، كنت صريحاً لا أقبل المجاملات، وسخياً لأبعد الحدود، وربما كان هذا ما أثار حيرتهم، "فالبخل الشديد هو أول عادات الإنجليز"، ولكن ربما كان ذلك بقايا من شرقيتي المطمورة، لا أحب المزاح والهزل، ورغم ذلك كنتُ محبوباً من طلابي وزملائي، لا أبخل عليهم بعلمي أو بمالي، أنقل اليهم خبراتي ولا أكتم عنهم ما أعرفه، مثلما يفعل بعض الزملاء، كنت مسلماً تقليدياً؛ أصوم رمضان وحججتُ البيت وملازمٌ للقرآن.

تزوجتُ من ابنة عمي، مر على زواجنا عشرة أعوامٍ لم نُرزق فيها بطفلٍ، ولم أدخر جهداً في عرضها على كبار الأطباء داخل مصر وخارجها. استسلمتُ لقضاء الله، كانت زوجتي هي دنيتي وحياتي، معها أنسى كل متاعب الدنيا، تعرف متى تحدثني ومتى تتركني. أعرف كم تتعذب حينما تجد منزلنا خالياً من ضحكات الأطفال ولعبهم، كنتُ أعتبرها ابنتي أدللها، وكانت تناديني دائماً "يا ابني"!

دُعيتُ مرةً إلى مؤتمرٍ لجراحة العظام بجامعة أسيوط، ركبتُ القطار المكيف، وأخذتُ أبحاثي معي، فجأةً جلس بجواري رجلٌ يتضح من هيئته أنه فلاحٌ أو صعيدي، أسمر الوجه واسع العينين، يرتدي جلباباً رمادي اللون، يُغطي رأسه بشالٍ أبيض، يفوح من ثيابه عطرٌ نفاذ. بوجهه ألقٌ محببٌ تُحسه ولا تستطيع وصفه! كان يسير بصعوبةٍ يتوكأ على عصا، ويستند على ذراع شخصٍ آخر عرفتُ أنه ابنه عندما طلب مني مترجِّياً أن أترك له كرسيِّي وأنتقل لكرسيه ليكون بجوار أبيه، ولكني رفضتُ بشكلٍ قطعيٍ فهذا حقي ولا أجامل به، وكان حرياً به أن يحجز كرسيين متجاورين! هَمَّ أن يرفع صوته ولكنه سكت بإشارةٍ من أبيه، الذي راح يتلو أدعيةً وصلواتٍ وأوراداً بجانبي، حتى أحسستُ بالضيق، ولم أعد أركز في القراءة، وكنتُ أختلس إليه النظر غاضباً، وكأنما شعر بهذا، فقال لي مبتسماً: "أزعجك صوتي؟" رددتُ بمنتهى الصراحة: "نعم، وأرجو أن تخفض صوتك"، اعتذر ثم راح يتمتم بصوتٍ غير مسموعٍ فأحسستُ بالراحة.

فجأةً استغرق في نومٍ عميقٍ وعلا شخيره، فشعرتُ بتوترٍ من شخيره، ولكني أشفقتُ عليه أن أوقظه نظراً لما يعانيه. ثم فجأةً سمعته يتكلم بصوتٍ خفيضٍ: "وعليك السلام يا سيدي يا رسول الله، سمعاً وطاعةً يا سيدي، بشرك الله بكل خير، وعليك السلام ورحمة الله وبركاته يا سيدي!". لم يسمعه أحدٌ سواي، وكأنه كان لا يريد أن يسمعه أحد. قلتُ ربما كان ذلك يحدث في لاوعي الرجل، ولكن شخير الرجل علا ثانيةً، يا إلهي، إن الرجل كان مستغرقاً في نومه، لم يكن يتصنع، ربما كانت رؤيا طيبة، ثم قلتُ فليرَ ما يشاء، لا أقحم نفسي فيما يرى لأنه لا يعنيني. استيقظ الرجل بوجهٍ غير الذي نام به، ازداد ذلك الألق، أصبح النور يشع من وجهه، لا تخطئ العين رؤياه. اقترب منه ولده وراح يمسح وجهه الذي تبلل بالعرق. فجأةً سمعته يقول لابنه بصوتٍ منخفضٍ: "الدكتور عبد الرحمن كيلاني راكبٌ معنا هذا القطار، وهو الذي سيجري لي العملية غداً!". صدمتني تلك العبارة بشدةٍ، لكني قلتُ في نفسي ربما هناك من أخبره عن موضوع القطار، ربما ممرض عيادتي، ولكن هذا الأمر لم يكن مطروحاً قبل أن ينام الرجل ويرى ما رأى، أتكون رؤيا وشفافية؟!

سألني: "حضرتك نازل فين؟"، أجبتُ: "أسيوط". سكت الرجل، وأشاح عني بوجهه، أصبح الفضول يقتلني، قررتُ أن أخوض معه الأمر حتى نهايته، ولكن أنا المبادر هذه المرة، خاصةً بعد أن ذكر اسمي وأصبحت بطلاً لرؤياه التي رآها، فرحتُ أسأله بعض الأسئلة فيجيب عنها باقتضاب. لم تُشفِ ردوده غليلي، فقررتُ أن أنزل بآخر ورقةٍ معي؛ فسألته: "هل تعرف الدكتور عبد الرحمن؟"، قال: "لا، ولكني ذاهبٌ إليه"، قلتُ له: "أنا الدكتور عبد الرحمن كيلاني!"، نظر إلى الأرض، وكأنه لم يُفاجأ، راح ينقر أرضية القطار بعصاه، وأنا أسمعه يتمتم بالصلاة والسلام على الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام، تركني أتحرق لمعرفة ردة فعله، لكنه صمت! أحسستُ أنه يلاعبني، وكأنه يريد أن أرفع راية الاستسلام أولاً! باغته بقولي: "لعله رسول الله أخبرك بهذا؟"، ذُهل الرجل وظهر التأثر واضحاً عليه، رفع رأسه واتّسعت عيناه، ونظر إليَّ طويلاً باستغراب ثم سألني متلعثماً: "كيف عرفتَ؟ ومَن أخبرك؟"، ابتسمتُ وقلتُ في نفسي: "ها أنا ذا قد نلتُ منك يا صديقي"، راح في لهفةٍ يسأل ويُلح، وأنا أتصنع الوقار وأرسم الجد على ملامحي، أشحتُ عنه بوجهي مثلما فعل، وقلتُ له: "هذا أمرٌ خاصٌ بي!"، رد مسرعاً: "نعم نعم، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحمَّلني لك رسالةً يقول لك: استوصِ بالشيخ راضي خيراً"، ابتسمتُ نصف ابتسامةٍ وقلتُ: "صلى الله عليه وسلم". أحسستُ أن الرجل أشبه بالغازي الذي دك حصني في ثوانٍ! باغته بالسؤال: "ولكن هل أنبأك الرسول الكريم أني سأجري لك العملية غداً؟!"، نظر إليَّ طويلاً وكأنه أدرك أن الشك يداخلني فيما يقول، قال: "نعم، وأرسل معي أمارةً لك، بالأمس كنتَ تقف مع زوجتك بالشرفة، وترفع يديك بالدعاء أن يرزقك الله بطفلٍ مثلما رزق زكريا بيحيى عليهما السلام، ثم هوَت يدك على كوب الشاي الساخن على حافة الشرفة، فسقط في الشارع بعد أن حرق يدك"، جحظت عيناي، وتجمدت أناملي، وجف ريقي، فالآن لم يعد مجالٌ للشك، صدمتي كانت واضحةً بوجهي، انتابتني رعشةٌ، ورحتُ أتلمس يدي الملتهبة من أثر الشاي الساخن، ووجدتُ نفسي أتهاوى أمام ذلك الرجل البسيط؛ أنا -خريج كامبرديج والحاصل على زمالة الجراحين الملكية- أقبل أن أفكر بهذا الأسلوب؟! أحسستُ أني أقف أمامه مُسَلِّماً ومستسلماً، ولا أدري كيف استيقظت شرقيتي المطمورة فجأةً، فانحنيتُ على يده أقبلها والدموع تملأ عينيّ وسط ذهول مَن يرانا من الركاب. راح يمسح رأسي، ثم قال: "ولك عندي بشرى خاصة أخبرني بها الحبيب الكريم عليه الصلاة والسلام، لقد سمع الله دعاءك وسيمنُّ عليك بيحيى ومحمد معاً"، فأمسكتُ بهاتفي المحمول، اتصلتُ بزميلي رئيس مستشفيات أسيوط لأطلب منه أن يحجز غرفةً باسم الشيخ راضي، لأني سأجري له عمليةً غداً، وأنا من سيتولى كافة تكاليفها.

نزلنا المحطة، كانت تنتظرني سيارةٌ لتقلني إلى مقر المؤتمر، صممتُ أن أذهب للمستشفى أولاً للحجز للشيخ راضي لتجهيزه للعملية، توجهتُ بعد ذلك إلى المؤتمر، وما إن انتهى حتى أغلقتُ هاتفي وعدتُ إلى المستشفى، ودخلتُ غرفة العمليات وأنهيتُ العملية بنجاح. كانت عادتي أن أترك متابعة المريض للفريق الطبي المشارك، ولكني صممتُ أن أتابع حالة الحاج راضي بنفسي في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ تنفيذاً للوصية الكريمة، حتى جاءني زميل دراسةٍ وأخبرني أن زوجتي اتصلت بي عشرات المرات وكان هاتفي مغلقاً، أسرعتُ لأكلمها، فوجدتها منهارةً وتبكي، كاد القلق أن يقتلها عليَّ، اعتذرتُ لها، ثم صاحت في طفولةٍ: "يا عبد الرحمن أنا حامل، أجريتُ اختبار حملٍ بناءً على نصيحة طبيب النساء الذي يتابعني، حيث ذهبتُ إليه بعد أن شعرتُ بألمٍ يُمزق جنبي، والحمد لله أنا حامل"، ابتسمْتُ وتراءى لي وجه الشيخ راضي؛ فقلتُ لها: "عارف، ومش كده وبس أنت حامل بتوأم!"، وجدَتني أكلمها بثقةٍ كاملةٍ، وبجديةٍ تعرفها فيَّ صاحت: "عبد الرحمن، أنت تعبان؟"، أكملتُ حديثي وكأني لم أسمعها: "ستلدين يحيى ومحمد بإذن الله!"، ضحكت وقالت: "وتوأم كمان؟ هو احنا كنا طايلين «برص»، وبعدين إحنا لسة في أول الحمل يا شيخ عبده"!

وضعَت زوجتي بالفعل توأماً، ومن يومها وهي تنظر إليَّ بانبهارٍ وإكبارٍ، كنظر المريد لشيخه، وتقول عني: "سرك باتع، ومكشوف عنك الحجاب يا شيخ عبده!"، فأضحك في نفسي لأني لم أخبرها بشيء، بناءً على طلب الشيخ راضي.

وها هما أولادي: محمد ويحيى، عمرهما الآن خمس سنواتٍ يتشاكسان حولي لا أستطيع منعهما وإلا تعرضتُ لما لا تُحمد عقباه من أمهما.

 

أحبتي في الله .. تلك الرؤيا التي رآها الحاج راضي في منامه؛ (رؤيا الحبيب) المصطفى هل يمكن حدوثها؟ وهل هي مقبولة شرعاً؟

وردت الرؤى -بصفة عامة- في عددٍ من آيات القرآن الكريم منها؛ رؤيا سيدنا يوسف عليه السلام، ورؤيا الملك، ورؤيا الفتيين صاحبي السجن، وغيرها من رؤى. أما أن يرى أحدنا في منامه النبي صلي الله عليه وسلم فهذا أمرٌ آخر؛ قال عنه عليه الصلاة والسلام: [مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي]. يقول أهل العلم إن هذا الحديث صحيحٌ، وهو يدل على أنه صلى الله عليه وسلم قد يُرى في النوم، وأن من رآه في النوم على صورته المعروفة في السُنة والسيرة النبوية فقد رآه، فإن الشيطان لا يتمثل في صورته، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون الرائي من الصالحين، ولا يجوز أن يُعتمد على هذه الرؤية في شيءٍ يخالف ما عُلم من الشرع، بل يجب عرض ما سمعه الرائي من النبي -من أوامر أو نواهٍ أو خبرٍ أو غير ذلك من أمورٍ يسمعها أو يراها الرائي- على الكتاب والسُنة الصحيحة، فما وافقهما أو وافق أحدهما قُبل، وما خالفهما أو خالف أحدهما تُرك. ثم ليس كل من ادعى رؤيته صلى الله عليه وسلم يكون صادقاً، وإنما تُقبل دعوى ذلك من الثقات المعروفين بالصدق والاستقامة على شريعة الله سبحانه. وعلى المسلم قبل أن يدَّعي أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض ما رأى على أهل العلم والدين ـ الذين يُعرف عنهم الصلاح والتقوى ـ ليخبروه إنْ كان ما رأى حقاً أو من الشيطان، حتى لا يقع في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم.

إن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام لا تستوي مع رؤية غيره من البشر، وهي من المبشرات التي تُفرح القلب، وتُسعد النفس، فهي تنطوي على بشرى عظيمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ رَآنِي فَقْدْ رَأىَ اَلْحَقَ] أي الرؤيا الصحيحة الثابتة لا أضغاث أحلامٍ ولا خيالات.

 

وقيل إن أسباب (رؤيا الحبيب) صلى الله عليه وسلم في المنام متوقفةٌ ـ بعد فضل الله تعالى- على طاعة الله سبحانه، وحبَّ النبي صلى الله عليه وسلم، والشوقَ لرؤيته، وكلما كان الإنسان أتقى لله عزَّ وجلَّ، وأكثر اتباعاً لسنة النبي الله صلى الله عليه وسلم كان توقع رؤياه للنبي صلى الله عليه وسلم أكثر احتمالاً من غيره، وأما ما عدا ذلك من أوراد أو أذكارٍ أو صلواتٍ ـ تساعد على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ـ فجميعه غير صحيح، بل حكم العلماء ببدعيته.

(رؤيا الحبيب) صلى الله عليه وسلم في المنام إذن جائزةٌ شرعاً وعقلاً، واقعةٌ فعلاً، وما مِن شكٍ أن رؤيته صلوات الله وسلامه عليه فرحةٌ لا تضاهيها فرحة، وأمنيةٌ غاليةٌ لا تدانيها أمنية، فالمسلم المحب للنبي صلى الله عليه وسلم مستعدٌ لأن يبذل أهله وماله مقابل أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد أخبر النبي عن حال المشتاقين إليه بعد وفاته، ممن لم يروه ولم يدركوا زمانه قَالَ: [مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ].

 

أحبتي .. خلاصة الأمر في مسألة (رؤيا الحبيب) صلى الله عليه وسلم في المنام، أنها "دليل خيرٍ وبشرى لصاحبها، ومع ذلك لا يجوز بناء الأحكام والمواقف والتصرفات عليها، فهي مبشراتٌ تبعث الأمل، يُفْرَح ويُتفاءل بها، ولا يُبنى حُكْمٌ عليها".

اللهم اجعلنا ممن يتشرفون برؤية نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم في المنام في الحياة الدنيا، واجعلنا في الآخرة من المحظوظين الفائزين المفلحين الذين يشربون عند الحوض من يده الشريفة شربة ماءٍ لا نظمأ بعدها أبداً.

 

https://tinyurl.com/y5682drb