الجمعة، 29 مارس 2019

مطهرةٌ للفم مرضاةٌ للرب



خاطرة الجمعة /١٨٠
 (مطهرةٌ للفم مرضاةٌ للرب)

في طابورٍ طويلٍ من طوابير مصلحةٍ حكوميةٍ سأل أحدهم: "هل مع أحدٍ منكم قلم؟"، رد البعض - وأنا منهم - معتذرين، والتزم آخرون الصمت، فكرر السؤال مرةً ثانيةً بصوتٍ أعلى علَّ أحد الواقفين في الطابور يكون معه قلم يفيده في تعبئة نموذجٍ يمسك به في يده، لم يرد عليه أحد. وجدتُه ينظر إليّ نظرةً تجمع بين اللوم والرجاء، وقال موجهاً كلامه لي: "ممكن القلم لو سمحت؟"، كان ردي عفوياً: "آسف؛ ليس معي قلم"، تحولت نظرته لي إلى استنكارٍ يشوبه غضبٌ وقال: "أليس ما في جيبك هذا قلم؟!"، وقتها فقط فهمتُ لماذا خصني أنا شخصياً دون غيري بالسؤال الأخير، تبسمتُ وأخرجتُ من جيبي ما اعتقد صاحبنا أنه قلم، فتحتُ الغطاء فظهر له أنه مسواكٌ موضوعٌ داخل علبةٍ بلاستيكيةٍ على هيئة قلم! اعتذر وقال لي بنبرة خجلٍ لا يخطئها السمع: "لا تؤاخذني؛ ظننتُه قلماً".

أحبتي في الله .. كان ذلك المسواك بعلبته البلاستيكية التي تشبه القلم هديةً من صديقٍ عزيزٍ أهداني إياه بعد عودته من رحلة عُمرة. وهذه العلبة رغم صغر حجمها إلا أنها كبيرةٌ في نفعها؛ فقد قطعت الطريق على كل من كان لا يستعمل السواك بحجة "أنني كأني أضع فرشاة أسنانٍ في جيبي"، وحجة "أنه معرضٌ للتلوث باستمرار". لم تعد هذه الحجة قائمةً بعد اليوم.
هو ذات المسواك الذي رآني أحد المصلين بالمسجد أستخدمه عند كل صلاةٍ؛ فسألني ذات يومٍ متعجباً: "أهو من السنن الصحيحة المؤكدة عن النبي عليه الصلاة والسلام؟!"، فكان ردي بالإيجاب، وقلت له - من الذاكرة - أن النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قال: [السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ].
أحسست أن إجابتي لم تكن كافيةً له؛ فعزمتُ على البحث عن موضوع السواك لأقوم بعرض ما أصل إليه من معلوماتٍ مفصلةٍ عليه في لقاءٍ لاحقٍ؛ فهو من مرتادي مسجدنا المواظبين بتوفيق الله على صلاة الجماعة.
وفيما يلي خلاصة ما قاله أهل العلم في موضوع السواك:

السِواكُ لغةً مِن سَاكَ فمه بالعود يسوكه سوكاً أي: دلكه. والمِسْواكُ: ما يُدلَك به الفم من العيدان. والسواك اصطلاحاً سُنةٌ من السنن المؤكَّدة التي غفل عنها كثيرٌ من الناس؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين﴾، وقال النبي صلى اللهُ عليه وسلم: [السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ]. "المَطْهَرَةُ": كل إناءٍ يُتَطَهَر به، وشُبه السِّواك بِه لأنه ينظف الفم. وهو "مرضاةٌ للرب" بمعنى أنه سببٌ لرضا الله سبحانه وتعالى.

يتأكد السواك كسُنةٍ في مواضع عديدةٍ منها:
عند كل صلاةٍ فرضًا كانت أم نفلًا، لحَدِيثِ النبي صلى اللهُ عليه وسلم: [لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاة].
وعند كل وضوءٍ لِقَولِهِ صلى اللهُ عليه وسلم: [لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ].
وعند القيام من نوم الليل؛ فقد ثبت أن رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم كان إِذَا قَامَ مِنَ الليلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ. "الشَّوْص": الدَّلْك. قال أحد الصحابة أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم كَانَ لاَ يَنَامُ إِلاَّ وَالسِّوَاكُ عِنْدَهُ، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ بَدَأَ بِالسِّوَاكِ.
وعند دخول البيت؛ فعندما سُئلت السيدة عائشة: بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ يَبْدَأُ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ؟ قَالَتْ: بِالسِّوَاكِ.
وعند تغير رائحة الفم مطلقًا لعموم قَولِهِ صلى اللهُ عليه وسلم: [السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ].
وعند قراءة القرآن الكريم؛ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: [إِنَّ العَبْدَ إِذَا تَسَوَّكَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَامَ الْمَلَكُ خَلْفَهُ، فَيْسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِهِ فَيَدْنُو مِنْهُ-أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا-حَتَّى يَضَعَ فَاهُ عَلَى فِيهِ، فَمَا يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ القُرْآنِ إِلاَّ صَارَ فِي جَوْفِ الْمَلَكِ فَطَهِّرُوا أَفْوَاهَكُمْ لِلْقُرْآنِ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ أَفْوَاهَكُمْ طُرُقٌ لِلْقُرْآنِ فَطَيِّبُوهَا بِالسِّوَاكِ].

وكَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم يُكثِرُ استِعمَالَ السِّوَاكِ وَهُوَ صَائِمٌ؛ روى أحد الصحابة قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَسْتَاكُ وَهُوَ صَائِمٌ مَا لَا أُحْصِي وَلَا أَعُدُّ.
ومما يدلُّنا على عظم فضل السِّواك أنه من سُنن الفطرة؛ قَالَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: [عَشْرٌ مِنَ الفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَإعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَاسْتِنْشَاقُ المَاءِ، وَقَصُّ الأظْفَارِ، وَغَسْلُ البَرَاجِمِ، وَنَتف الإبْطِ، وَحَلْقُ العَانَةِ، وَانْتِقَاصُ المَاءِ]، "انْتِقَاصُ المَاءِ": أي الاسْتِنْجَاءِ. قَالَ الراوي: وَنَسِيْتُ العَاشِرَةَ إِلاَّ أنْ تَكُونَ المَضمَضَةُ.

ويدلنا على عظم فضل السواك كذلك قوله صلى اللهُ عليه وسلم: [أَكْثَرْتُ عَلَيْكُمْ فِي السِّوَاكِ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [لَقَدْ أُمِرْتُ بِالسِّواك حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ يَنْزِلُ عَلَيَّ فِيهِ قُرْآنٌ أَوْ وَحْيٌ]، وفي روايةٍ: [لَقَدْ أُمِرْتُ بِالسِّواك حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُوحَى إِلَيَّ فِيهِ شَيْءٌ]. كما قَالَ: [أُمِرْتُ بِالسِّوَاكِ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيَّ].
وكان النبي صلى اللهُ عليه وسلم يحرص على السواك في كل وقتٍ حتى عند احتضاره؛ قالت السيدة عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها: "دَخَلَ عَبْدُالرَّحْمَنِ ابْنُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم وَأَنَا مُسْنِدَتُهُ إِلَى صَدْرِي وَمَعَ عَبْدِالرَّحْمَنِ سِوَاكٌ رَطْبٌ يَسْتَنُّ بِهِ فَأَبَدَّهُ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم بَصَرَهُ، فَأَخَذْتُ السِّوَاكَ فَقَصَمْتُهُ وَنَفَضْتُهُ وَطَيَّبْتُهُ ثُمَّ دَفَعْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فَاسْتَنَّ بِهِ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم اسْتَنَّ اسْتِنَانًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ، فَمَا عَدَا أَنْ فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم رَفَعَ يَدَهُ أَوْ إِصْبَعَهُ ثُمَّ قَالَ: فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى ثَلَاثًا ثُمَّ قَضَى".

أحبتي .. هذا هو السواك الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه (مطهرةٌ للفم مرضاةٌ للرب). هو السواك الذي قال عنه أحد الصالحين: قد ذُكر فيه زيادةً على مائة حديثٍ، فَوَاعَجَبًا لِسُنَّةٍ تأتي فيها الأحاديث الكثيرة ثم يهملها كثيرٌ من الناس. هو السواك الذي أثبتت البحوث العلمية فوائده لصحة الفم والأسنان واللثة. هو السواك الذي من السُنة أن يستخدمه الجميع رجالاً ونساءً. هو السواك الذي من السهل استعماله؛ لا يتطلب وضوءاً ولا استقبال قبلةٍ ولا نبذل فيه جهداً ولا كثير مالٍ. هو السواك نُثاب على حرصنا على استخدامه ليس كواجبٍ وإنما كسُنةٍ حكمها أن يُثاب فاعلها ولا يُعاقَب تاركها. هو السواك الذي حرص على استخدامه دوماً سيد البشر؛ فكيف بمحبي النبي صلى الله عليه وسلم أن يتركوا سُنةً من سُننه ويستغنون عنها؟!

ندعو الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لاستخدام السواك ما استطعنا؛ نحي به سُنة رسولنا ونطهر به أفواهنا ونرضي به ربنا.

اللهم ألهمنا الصواب والسداد، وألزمنا طريق الهدى وسبيل الرشاد.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/cMM2PV