الجمعة، 19 فبراير 2016

فَتَبَيَّنُوا

19 فبراير، 2016م
خاطرة الجمعة /١٩

(فَتَبَيَّنُوا)

سألته: "هل تحب أن يُنسب لك ما لم تقله؟"، رد: "بالتأكيد، لا، هذا كذبٌ عليّ"، سألته: "هل يجوز أن تَنسب لغيرك كلاماً لم ينطق به؟"، رد: "طبعاً لا، فهذا كذبٌ مني على غيري"، وقبل أن أسأله سؤالاً ثالثاً بادرني هو بالسؤال: "ما الأمر يا صديقي؟ هل نسب إليك شخصٌ ما كلاماً ليس لك؟"، قلت: "ليت الأمر كان يتعلق بي، إذن لكان هيناً"، قال مندهشاً: "ما دام الأمر لا يتعلق بك أنت شخصياً فَلِمَ كل هذا الاهتمام؟"، قلت له: "الأمر يتعلق بمن هو أعز علي من نفسي، وهذا ما يؤلمني"، حاول أن يخفف عني فقال: "هون عليك، لم يسبق أن رأيت الغضب بادياً على وجهك كما أراه الآن"، تفهم غضبي عندما قلت له: "ما أغضبني يا عزيزي هو هذا القدر غير المسبوق من الجرأة على حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم"، واستطردت موضحاً: "تصلني، عن طريق الواتس آب والفيس بوك وغيرها من برامج وتطبيقات ومواقع التواصل الاجتماعي، أحاديث تُنسب للحبيب المصطفى، وعندما أبحث عن مدى صحتها يتبين لي أن بعضها مكذوب أو موضوع، وبعضها علامات الكذب واضحة عليه دون بحث؛ كأن تصلك رسالة مع بداية كل شهر هجري تقول لك (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يبارك الناس في هذا الشهر الفضيل يحرم عليه النار)!!! وممن تصلك؟ من أشخاص ذوي مناصب رفيعة وعلى قدر عالٍ من التعليم والثقافة!!! بل يتمادون فيطلبون منك تعميم هذ الكذب الذي أرسلوه ويعدونك بالثواب إن فعلت وإن لم تفعل فشيطانك هو الذي منعك!!!، ألست معي في أن هذا أمر يوجع القلب؟"، رد بسرعة: "بلى والله"، لكنه أردف معقباً: "أغلب الظن أن من يرسلون هذه الأحاديث المكذوبة لا يعلمون أنها موضوعة"، قاطعته قبل أن يُكمل: "لا شك عندي في ذلك؛ أعلم أنهم إنما عمموا نص رسالة وصلتهم فقاموا بنسخها ثم لصقها، لكن عندما بينت لهم أن الحديث مكذوب بادر بعضهم إلى تعميم التصحيح ونشره، وهذا موقف يُحسب لهم؛ فالمؤمن الواعي وقَّافٌ عند الحق مُحبٌ للنصح. لكن البعض ينطبق عليهم قول المولى عز وجل: ﴿وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾؛ أذكر شخصاً نشر دعاءً لتفريج الهم وكشف الغم وقال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من قرأ هذا الدعاء وأخبر الناس به فرج الله همه)، وعندما أوضحت له أن هذا الحديث موضوع جادلني قائلاً إنه مجرد دعاء لا يتعارض مع صحيح الدين في شيء، قلت له يا أخي أنا لا أعترض على الدعاء أنا أعترض على نسبة الكلام الذي يلي الدعاء للنبي عليه الصلاة والسلام وهو لم يقله. وبين من يبادرون إلى التصحيح ومن يجادلون فئة أخرى لا يُحركون ساكناً ولا يُبدون تفاعلاً بعد توضيح الأمر لهم"، قال صديقي: "دعنا نحسن الظن بهذه الفئة الأخيرة، ربما انتبهوا لخطأ لم يقصدوه وعندما بينت الأمر لهم شكروا لك ذلك بينهم وبين أنفسهم ودعوا لك بظاهر الغيب"، قلت له: "لعل وعسى. لكن ما يؤرقني حقاً هو أنني غير متأكد إن كانوا قد قاموا بتصحيح الأمر مع غيرهم ممن عمموا عليهم أم لا؟، فالكلمة أمانة، ونحن محاسبون على كل كلمة نقولها ومسؤولون عنها يوم القيامة؛ قال تعالى: ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾، وقال عز وجل: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ﴾، أفلا نستشعر عظم أمانة الكلمة؟ ثم إن الكذب على النبي عليه الصلاة والسلام ليس كالكذب على غيره من البشر؛ ألا يعلمون أن نار جهنم هي عقوبة الكذب المتعمد على النبي عليه الصلاة والسلام تصديقاً لقوله: [من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار]؟"، قال صديقي: "الكثيرون منهم لا يتعمدون الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم"، قلت: "نعم، لكن الإهمال في تحري الدقة والتثبت من صحة ما ينقلون قد يصل بهم إلى درجة التعمد. ثم ألم يقرأ أحدهم حديثه عليه الصلاة والسلام: [كفى بالمرء إثماً أن يُحَدث بكل ما يسمع]؟ . إن أحدنا لا يقبل أن يُنسب إليه ما لم يقله ويغضب لذلك، أفلا نغضب للحبيب المصطفى؟ إن أياً منا لا يجرؤ أن يَنسب قولاً لوزير أو مدير قبل أن يتثبت، فهل نتجرأ على خير البشر؟".
أقول لهؤلاء الغافلين أو المقصرين: "ألم تنتبهوا إلى الآية الكريمة: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾؟، ألا تعلمون أنكم بنشركم أحاديث مكذوبة وموضوعة يكون المقصود بالقوم الذين تصيبونهم بجهالة نتيجة عدم تبينكم هو النبي المختار سيد الخلق أجمعين؟ إنها والله لمصيبة".
أحبتي في الله .. دعونا نبدأ من اليوم حملة "فَتَبَيَّنُوا" .. ولنتعاهد ألا ننشر أو نعمم قولاً أو فعلاً أو إقراراً وننسبه للرسول صلى الله عليه وسلم دون أن نتأكد أو نتثبت أو "نتبين"، علينا جميعاً أن نلتزم مسئولية "فَتَبَيَّنُوا" الواردة في الآية الكريمة؛ فهي أمرٌ إلهي واضحٌ لا لبس فيه.
قال عليه الصلاة والسلام: [إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان اللَّه تعالى ما يُلقي لها بالاً يرفعه اللَّه بها درجات، وإنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ سبعين خريفاً]، اللهم أعذنا من نار جهنم، واجعلنا اللهم في رضوانك، وارفع درجاتنا، واجعلنا اللهم من أهل "فَتَبَيَّنُوا".
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.