الجمعة، 19 يوليو 2024

مشاهير في السماء

 

خاطرة الجمعة /456

الجمعة 19 يوليو 2024م

(مشاهير في السماء)

 

انتشرت في الأيام الأخيرة على مواقع التواصل الاجتماعي قصةٌ من أعجب القصص الواقعية التي حدثت في موسم الحج الذي انتهي منذ حوالي شهر، نُشرت القصة تحت عنوان: "للسماء رجالٌ!"، كتبها أحد الأمراء المسئولين في «المملكة العربية السعودية»، كتب يقول: خرجتُ للحج هذا العام -مثل الأعوام السابقة- فأنا أُحب الحج كفريضةٍ، وأُحبه أيضاً كرحلةٍ إيمانية. في حج هذا العام حدث شيءٌ مُختلفٌ زلزّل كل مفاهيمي عن الحياة؛ كنتُ في ليلة التروية في مُخيم «مِنى»، وكنتُ أُقيم في مُخيمٍ من أفخم المُخيمات، إن لم يكن بالفعل هو أفخمها. سبحان الله، أحسستُ بضيقٍ في نَفَسي وخنقةٍ في صدري، بعد صلاة العشاء بوقتٍ طويل، وأحسستُ أني أحتاج لأن أمشي؛ خرجتُ وحدي بدون حراسةٍ، معي هاتفي، أسير على غير هدىً نحو الجبال.

هناك وفي الظلام، وعلى صخرةٍ بعيدةٍ، شاهدتُ رجلاً عجوزاً تجاوز السبعين من عُمره يجلس وحيداً، حين اقتربتُ منه ورآني فوجئتُ به يسألني: "هل أنت مَن أحضرتَ اللحم لي؟"، ذُهلتُ من كلامه وسألته: "وهل أنت تنتظر أحداً يوصل لك اللحم في هذا المكان؟ هل طلبتَ اللحم من مطعمٍ مثلاً؟"، قال لي بكل ثقةٍ: "بل طلبتها من الله ربِ كل أصحاب المطاعم؛ فأنا لم آكل أي شيءٍ منذ العصر، وقد طلبتُ من الله اللحم وأنتظر مَن يؤتيني به"، ضحكتُ غصباً عني من هذا العجوز الجائع الذي ينتظر اللحم في عز الليل في منطقةٍ مقطوعةٍ، وقلتُ في نفسي: "والله لأُحضرن له طلبه"، اتصلتُ بأحد المسئولين في المُخيم وطلبتُ منه طبقاً كبيراً فيه أجود أنواع اللحم، وأرسلتُ له موقعي، بعد قليلٍ أتى أحد العمال بطبق اللحم فوضعته أمام الرجل العجوز، فهلّل وكبّر وسمى الله وأكل بنهمٍ شديدٍ يبدو منه أنه كان جائعاً حقاً. بعد أن انتهى من أكل اللحم، سمعته يقول: "شكراً لك يا رب؛ رزقتني اللحم وكان حُلواً، والآن أنا أريد أن أشرب كوباً من الشاي بالنعناع، فأنا لا أحب الشاي من غير نعناعٍ يا رب"، استغربتُ من دعائه؛ هل ينتظر كوب شايٍ وبالنعناع في هذا المكان المقطوع؟! المهم أنه نظر إليّ وسألني: "هل تُريد ما تبقى من الأكل؟"، قلتُ: "لا، شكراً"، فجمع بقية الطعام وأعطاه لأول جماعةٍ مرّت من أمامنا، أعتقد أنهم من أهل الشام، وقال لهم: "هذا رزقٌ من الله لكم"، فشكره الناس ومضوا لحال سبيلهم، الغريب أنه بعد لحظاتٍ عاد أحدهم وفي يده كوب شايٍ وقال للعجوز: "يا شيخ هذا لك؛ أرجو أن تقبله منا كما قبلنا منك اللحم"، فقال العجوز: "وهل في الشاي نعناع؟"، قال له الرجل: "لا، لكن معنا نعناعٌ، ثوانٍ أُحضره لك"، فقال له الرجل العجوز: "هل مُمكن أن تُحضر كوباً آخر لهذا الرجل بجانبي فهو الذي أرسله الله لي ولكم باللحم"، ذهب الرجل وعاد ومعه كوب شايٍ بالنعناع أعطاه لي، كنتُ مذهولاً مما يحدث، ومن شدة ذهولي لم أنطق أو أعترض، أخذتُ كوب الشاي وشربته، وأقسم بالله لم أذق حلاوة مثل هذا الشاي من قبل. بعد أن شرب الرجل العجوز الشاي في صمتٍ وهدوءٍ وسكينةٍ، حمد الله، ودُهشتُ حين سمعته يطلب من الله وسادةً لينام عليها إذ قال: "يا رب ارزقني بوسادةٍ؛ أنت تعلم أني لا أستطيع النوم على الصخر من غير وسادة!"، أُقسم بالله العظيم، إنه ما انتهى من دعائه إلا ومجموعةٌ من الحجاج من دولة «المغرب»، عرفتهم من كلامهم، جلسوا بجانبنا وفرشوا سجادةً ووضعوا وسائدهم عليها، فاستأذنهم الرجل العجوز في واحدةٍ من الوسائد أخذها ونام، وسمعته يقول: "يا رب الجو حرٌ حتى في الليل؛

أرسل لنا نسمة هواءٍ كي أستطيع أن أنام!"، أُقسم بالله العظيم أن نسمة هواءٍ هبّت بالفعل! وقتها لم أتمالك نفسي؛ فقلتُ وعيناي تدمعان: "الله أكبر، الله أكبر، مَن أنت يا شيخ؟!"، قال لي: "عبدٌ من عبيد الله، دعني أنام، فأمامنا غداً يومٌ طويلٌ، دعني وإلا دعوتُ عليك"، تملكني الرعب؛ فأسلمتُ ساقاي للريح جرياً إلى المُخيم، وهناك قابلتُ رجل الدين الشيخ الذي يُرافقنا في المخيم -وهو واحدٌ من أشهر مشايخ المملكة، وهو حيٌ يُرزق وشاهدٌ على ما أقول- حكيتُ له ما حدث، فقال لي: "والله إني لأُحب أن ألتقي بهذا الرجل الذي يدعو بأي شيءٍ فيستجيب له الله سُبحانه وتعالى في الحال"، فذهبتُ أنا وهو إلى الموقع الذي كنتُ أرسلته لطلب اللحم، لنجد أن الرجل العجوز قد قام من نومه وتحرك، فسألته: "إلى أين يا حاج؟" قال لي: "اقترب موعد أذان الفجر؛ سأبحث عن مكانٍ أتوضأ فيه كي أُصلي الفجر"، فقلتُ له: "يا حاج هل تعرف من أنا؟ ومن هذا الشيخ الذي معي؟"، فرد قائلاً: "نعم أعرفكما؛ فأنتما عبدان من عبيد الله، مثلي"، فقلتُ له اسمي واسم الشيخ الذي معي، فقال بدون أي اهتمامٍ إطلاقاً: "عبدان من عبيد الله، مثلي"، فعرضتُ عليه أن يُكمل الحج معنا فرفض، وقال: "أُفضّل أن أحج على طريقتي"، فأعطيته بطاقةً فيها رقم هاتفي الشخصي حتى يتصل بي في أي وقتٍ لو احتاج أي شيءٍ، فقال لي بصوتٍ كله إيمانٌ: "ولِمَ أُكلمك وأطلب منك وأنت عبدٌ فقيرٌ، مثلك مثلي، لو احتجتُ شيئاً فأنا أطلبه من ربي وربك، ولو شاء لجعل الخير يأتيني على يديك، ولو شاء لجعل الخير يأتيني من غيرك"، ومضى في طريقه، ناديتُ عليه وقلتُ له: "لي طلبٌ عندك؛ أرجو أن تدعو لي يا حاج"، فقال لي بلهجة الواثقين: "ولماذا لا تدعو أنت لنفسك؟"، فقلتُ له: "أنت دعاؤك ما شاء الله يُستجاب"، فقال لي: "تقرّب إلى الله حتى يُصبح دعاؤك أنت الآخر مُستجاباً"، ثم قال ونحن نسمعه: "اللهم ارزقني بسيارةٍ تنقلني إلى المسجد؛ فقدماي لا تقويان على المشي"، وبينما هو يتحرك ببطءٍ بسبب سِنه وضعف جسمه، رأينا -أنا والشيخ الجليل الذي معي- سيارة دوريةٍ للحجيج رأته فوقفت له وركب معهم، فالتفتُ لي الشيخ الذي كان معي وقال لي: "يا سيادة الأمير نحن رجالٌ معروفون في الأرض، لكنّ هناك رجالاً (مشاهير في السماء)، وكما أن ترتيبنا في الدنيا مُختلفٌ فكذلك ترتيبنا في السماء مُختلفٌ، وأعتقد أننا التقينا برجلٍ معروفٍ في السماء أكثر مما نحن معروفون في الأرض".

 

أحبتي في الله.. هذا الرجل العجوز واحدٌ من البشر المعروفين في السماء رغم أنهم مجهولون في الأرض، يعيشون بيننا لا نكاد نُدركهم أو نشعر بهم، إنهم من (المشاهير في السماء) يعملون للدار الآخرة التي يجعلها الله سُبحانه وتعالى ﴿لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا﴾؛ فالشُهرة في السماء تحتاج إلى مَن لا يُسابق إلى مواطن العُلو في الأرض، و(المشاهير في السماء) هُم -كما يقول العلماء- الذين عرفوا حقيقة الدنيا، وأبصروا بقلوبهم قبل عيونهم كيف أنها دار فناءٍ، وأن الآخرة هي دار البقاء، فعاشوا في الدنيا يعملون لآخرتهم، عاشوا في الأرض غُرباء لا يبحثون عن شُهرةٍ وإنما يعملون -بإخلاصٍ- كي يُصبحوا مشهورين في الآخرة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّك غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [بَدَأَ الإسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كما بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ]، ومن هؤلاء الغُرباء مَن وصفهم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في حديثه: [رُبَّ أشْعَثَ أغْبَرَ، ذِي طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أقْسَمَ عَلى اللَّهِ لَأبَرَّهُ]، {ذي طمرين أي ذي ثوبين باليين. لا يؤبه له: لا يُهتم بأمره ولا يُحتفل به} وفي حديثٍ آخر قال عليه الصلاة والسلام: [ألا أُخْبِرُكم عَنْ مُلُوكِ أهْلِ الجَنَّةِ؟]، قالُوا: بَلى يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: [كُلُّ ضَعِيفٍ أغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أقْسَمَ عَلى اللَّهِ لَأبَرَّهُ].

وكانت حياته عليه الصلاة والسلام نموذجاً وقدوةً نحتذي بها؛ وهو القائل: [مَا لِي وَلِلدُّنْيَا؟ مَا أَنَا في الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا]، عرضوا عليه صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة المُلك والشُهرة في الدنيا فرفضها.

 

يصف أحد الكُتاب (المشاهير في السماء) فيقول عن أحدهم: بالمنظور الدنيوي، هو مجهولٌ، لكنه كعابر سبيلٍ، لا يأبه إن كان معروفاً أو مجهولاً، مشهوراً أو مغموراً، لا يكمن فرحه في ذِكر اسمه بين أهل الأرض، بل غايته ورجاؤه أن يُذكر في السماء. إنه ذاك التقيّ الذي يعيش في الدنيا بجسده، بينما روحه مُعلقةٌ بالآخرة، يرى فيها حياته وخلوده، يري الحُلم في أسمى معانيه حينما يكون بعيداً عن أنظار الناس. غرس سِكينةً في قلب الرياء، ومزّق رِداء الكِبر، وسقى نبتة الإخلاص بدموع الخشية من الله، والرغبة في الجنة، والصمود في وجه رياح الفِتن العواتي في زمانٍ المتمسك فيه بدِينه، كالقابض على الجمر. غريبٌ كأن الدنيا ليست موطنه؛ فلا يأبه إن كان له نصيبٌ منها أم لم يكن، لا يطمع في مالٍ أو جاهٍ، لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، غِناه في قلبه، يكتفي بالرضا، والقليل من الزاد؛ فإن زاده الحقيقي هو ذِكر الله، موطنه الأصلي هو السماء، لا يشعر بالوحدة؛ إذ هو مستأنسٌ بمعية الله، هو مجهولٌ في الأرض لا يأبه له الناس، فلكأنه في شفافيته ونقائه من ملائكة السماء الذين ﴿لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾.

 

وليست هذه دعوةٌ للانعزال عن الناس والانقطاع عن الدُنيا بالكُلية؛ فلا رهابنية في الإسلام؛ فهو دين الحنيفية السمحاء، دين اليُسر والوسطية بين الإفراط والتفريط، جاء ليُسعد الإنسان في دنياه وآخرته؛ فديننا ينهى عن ترك الاشتغال بأمر المعاش والانقطاع الكامل للعبادة، وينهى عن الغلو في الزهد والتقشف، ويحث على الوسطية ومنهج الإسلام يتمثل في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ . يقول أحد العارفين: الارتباط بالناس والانخراط في المجتمع، ومُكابدة المشاق من طبيعة الحياة، ولا حياة بغير اجتماع الناس والتآلف معهم ومُشاركتهم أفراحهم وأحزانهم، بل لا حياة للمُصلحين إلا بين الناس، يُصلحون أنفسهم ومجتمعاتهم وأوطانهم وأُمتهم. ورد في الأثر: "حُق على العالِم أن لا ينشغل عن أربع ساعاتٍ: ساعةٌ يُناجي فيها ربه، وساعةٌ يُحاسِب فيها نفسه، وساعةٌ يُفضي فيها إلى إخوانه الذين يصدقونه عيوبه وينصحونه في نفسه، وساعةٌ يخلو فيها بين نفسه وبين لذاتها مما يحل ويجمُل؛ فإن هذه الساعة عونٌ للساعات الثلاث الأخرى، واستجمامٌ للقلوب، وعلى العاقل أن يكون عارفاً بزمانه، مُمسكاً بلسانه، مُقبلاً على شأنه".

 

يقول الشاعر:

تَجِدُ الفَتى تَشْتَهيهِ الأرْضُ وَالبَشَرْ

وَما لَهُ في السَماءِ لَوْ ذَرَةُ قَدَرْ

تَطْفو وَجاهَتُه في الأرْضِ مَنْزِلَةً

وَفي القِيامَةِ قَدْ هَشَتْ لَهُ سَقَرْ

 

أحبتي.. اللهم ارفع مقامنا عندك، واجعلنا ممن إذا دَعَوْكَ استجبتَ لهم.. اللهم اجعلنا من (المشاهير في السماء)، ولو كُنا مجهولين في الأرض، وأعنّا على أن نكون من المتقين الصالحين، ومن المُصلحين في الأرض، ومن عبادك الذين ينفعهم صدقهم فتكون لهم ﴿جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾.. وأعنّا اللهم على أنفسنا؛ فلا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، وإنما اجعلها مزرعةً لآخرتنا، نُحسن فيها الحرث والبذر والزرع والري لنجني ثمرة ذلك في الآخرة جنةً ونعيماً أبدياً مُقيماً.

اللهم اجعلنا ممن يُعطَوْنَ صحيفتهم باليمين؛ فيفرحوا ويطوفوا على الناس يقولون لهم: ﴿هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ﴾، إنها البُشرى على الخُلد في الجنة والبقاء في النعيم الأبدي. اللهم اجعلنا من خير العباد، وارزقنا السداد وحُسن الاستعداد، ولا تفضحنا يوم يقوم الأشهاد.

https://bit.ly/4d5fZWu