الجمعة، 10 مارس 2017

أعجب رد!

الجمعة 10 مارس 2017م

خاطرة الجمعة/ ٧٤
(أعجب رد)!

كنا عدة أشخاص في مجلس علم، فطرح شيخنا سؤالاً؛ قال: "ما (أعجب رد) مر عليكم؟". سكت الجميع برهةً يستجمعون أفكارهم، إلا واحدٌ منا سأل: "في أي مجال يا شيخ؟"، أجابه الشيخ: "في القرآن الكريم".
قال الأول: "(أعجب رد) قرأته يا شيخنا هو رد الكافرين على المولى سبحانه وتعالى وهم يقفون بين يديه يسألهم ويحاسبهم، فإذا بهم يكذبون ثم يحلفون على كذبهم كما كانوا يحلفون لغيرهم من خلق الله في الدنيا! ردٌ عجيبٌ منهم والأعجب أنهم يحسبون أنهم على شيء! قال تعالى في سورة المجادلة: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ۖ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ ۚ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾".
قال الثاني: "(أعجب رد) قرأته في الكتاب الكريم هو رد جلود الناس عليهم يوم القيامة، حينما تشهد عليهم، فيسألونهم لم شهدتم علينا، فيكون رد الجلود عجيباً؛ أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء! سبحان الله الخالق القادر العليم الخبير؛ قال في سورة فصلت: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾".
أما الثالث فقال: "(أعجب رد) قرأته في كتاب الله هو رد الكفار على الرسل بطلب العذاب بدلاً من طلب الهداية! يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الأنفال: ﴿اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، وفي سورة هود: ﴿قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾، وما يماثلها كثير".
قال الرابع: "(أعجب رد) مر عليّ في القرآن الكريم قول المفسدين في سورة البقرة: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾، ومثلها ما قاله فرعون عن موسى عليه السلام، في سورة غافر: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾! وكأن المفسدين في الأرض وفرعون منهم على حق وأنبياء الله وموسى عليه السلام منهم على باطل!".
عندما حان دوري، أردت أن أداعب هذه الصحبة الطيبة قليلاً فألتزم بكلمة {رد} وألتزم بأن يكون الرد في {مجال القرآن الكريم} ولكن بصورة مختلفة عما ذهب إليه الآخرون؛ فقلت لهم: "(أعجب رد) حدث أمامي شاهدته وسمعته وأنا أكاد لا أصدق ما أرى وما أسمع كان عندما صليت بأحد المساجد وأخطأ الإمام في قراءة آية، فإذا بأحد المصلين يرده ويصحح له، كان هذا (أعجب رد) في مجال القرآن الكريم شاهدته في حياتي!"، قال شيخنا: "وما وجه العجب في ذلك؟ هذا واجب على المصلي أن يرد الإمام إذا أخطأ، أليس كذلك؟"، قلت: "بلى، هذا أمر عادي لا غرابة فيه ولا عجب في صلاةٍ جهريةٍ يا شيخنا، لكن وجه العجب أن الرد كان في صلاة الظهر!"، نظر الجميع إليّ وهم مندهشون، فانتظرت لحظةً قصدت منها أن يبلغ اندهاشهم مداه، ثم قلت موضحاً وشارحاً: "كان الإمام يقرأ بصوتٍ خافتٍ لكنه مسموعٌ همساً من خلال المجهر ومكبرات الصوت! فالعادي أن يُرد الإمام في صلوات الفجر أو المغرب أو العشاء أو الجمعة، أما رده في صلاةٍ الظهر وهي صلاة غيرِ جهريةٍ فكان (أعجب رد) رأيته في حياتي!".

أحبتي في الله .. الفتح على الإمام هو تلقينه الآيةَ عند التوقُّف فيها، أما رده فهو تصحيح خطأ للإمام إذا أسقط آيةً أو أكثر أو جزءاً من آية، ولو كانت كلمةً أو حرفاً، أثناء التلاوة. 
وقد وردت بعض الأحاديث تدل على أن الفتح مشروع؛ فعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاةً فقرأ فيها فلبس عليه، فلما انصرف قال لأبيّ: [أصليت معنا؟]، قال: "نعم"، قال: [فما منعك؟]" أي: فما منعك أن تفتح علي؟. وعن المسور بن يزيد المالكي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فترك آيةً، فقال له رجلٌ: يا رسول الله آية كذا وكذا، قال: [هلا ذكرتنيها]. فالحديثان يدلان على مشروعية الفتح على الإمام، لإصلاح خطأٍ في قراءته. فيشرع للمأموم إذا وقف الإمام في القراءة أو أخطأ فيها أن يفتح عليه ويصلح له. وعن أنس رضي الله عنه قال: "كنا نفتح على الأئمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم". وصح عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "إذا استطعمك الإمام فأطعمه".
والفتح على الإمام أو رده قد يكون واجباً وقد يكون مستحباً؛ فإذا أخطأ الإمام في القراءة الواجبة كقراءته الفاتحة وجب على المأموم أن يفتح عليه لكونها رُكناً من أركان الصلاة لا تتم الصلاة إلا بها، فلا تصح الصلاة حتى يتم رد الإمام أو الفتح عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب]، ومن باب «مَا لاَ يَتِمُّ الوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ»، وإذا كان في قراءة غير الفاتحة فإن كان يغير المعنى وجب على المأموم أن يرده، وإن كان لا يغير أو يخل بالمعنى يجوز للمأموم الفتح والرد ولا يجب عليه.
ومما يجب التنبه له ألا يُقدم للإمامة إلا القارئ الحافظ المتقن، ولا ينبغي أن يتقدم غيره عند وجوده. كما ينبغي أن يقف خلف الإمام من هو حافظٌ للقرآن حتى يسهل رد الإمام أو الفتح عليه بسهولة.
ولا تجوز المبادرة بالفتح على الإمام فور سكوته؛ فقد يكون سكت عند آيةِ رحمةٍ ليدعو، أو آية عذابٍ ليدعو؛ لحديث حذيفة قال: "صلَّيت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلتُ: يركعُ عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مسترسلاً، إذا مر بآيةٍ فيها تسبيح سبَّح، وإذا مر بسؤالٍ سأل، وإذا مر بتعوذٍ تعوذ"، (ومعنى مسترسلاً؛ أي: متمهلاً). وكذلك لا ينبغي للمأموم أن يتعجلَ بالفتح إذا سكت الإمام لالتقاط نَفَسه، أو لاستحضار ذهنه أو جفاف حلقه، فالواجب إمهاله، وعدم مبادرته.
 ومن المتفق عليه أن الذي له الحق في الردِّ على الإمام هو الذي يصلي بجواره، أو الذي يليه من خلف ظهره، وأما مَن كان في مكانٍ بعيدٍ عن الإمام، فإنه لا يجوز له الفتح على الإمام. كما لا يجوز أن يتولَّى الردَّ والفتح على الإمام أكثرُ من واحدٍ في وقتٍ واحد؛ لأن هذا يؤدِّي إلى اختلاط الأصوات والتشويش على الإمام والمصلِّين، ويجب أن يتركَ الأقل حفظاً وعلماً الرد والفتح لمَن هو أحفظ منه وأعلم. ولا يجوز للمرأة إذا صلَّت خلف الرجال أن تفتح على الإمام، ولا أن تصحِّح له، وهذا مما لا خلاف فيه؛ ذلك أنها مُنِعت من التسبيح تنبيهاً للإمام لئلاَّ يخرج صوتها في الصلاة، فمن باب أولى تمنع من الفتح عليه. ولا يجوز للمأموم أن يحملَ مصحفاً لمتابعة الإمام والتصحيح له، وذلك أنه في صلاة، وليس في تعليم وتعلم، ثم إن الحركة بحمل المصحف، وفتحه عند القراءة وإغلاقه ينافي عمل الصلاة. كما يجب أن تكون نية مَن يفتح على الإمام أو يصوِّب خطأه أنه يفعلُ ذلك إخلاصاً لله وتعبداً له، وأمَّا إذا كان يفعله رياءً وسُمْعَةً ليرى الناس أنه حافظ، فإنه بهذا يُحبِط أجره، وقد تبطل صلاته تبعاً لذلك.
خلاصة القول في هذا الأمر أنه يُشرع للمأموم إذا أخطأ إمامه أو نسي في قراءته أن يفتح عليه ويُلقِّنه الصواب، ويتأكد الفتح في أربع حالات: الخطأ في الفاتحة، الخطأ الذي يُحيل المعنى ويغيره، الخطأ الذي تنبني عليه أخطاء أخرى كما لو خرج الإمام إلى سورة أخرى، وإذا توقّف الإمام يريد أن يفتح عليه أحد. وأمّا غير ذلك فيُرجع الفتح فيه إلى المصلحة، فإن كانت المصلحة راجحةً فُتح عليه، وإن خُشيت مفسدةٌ من كثرة الأخطاء وذهاب الخشوع فلا يُفتح عليه؛ لأن درء المفاسد مقدّمٌ على جلب المصالح.
أحبتي .. أنقل لكم قصةَ (أعجب رد)، وإن كانت لم تَرِد في القرآن الكريم، ولم يكن الرد لإمامٍ أثناء صلاة!
يُروى أن الأصمعي [وهو من علماء اللغة] كان يتحدث في مجلس فأحب الاستشهاد بآية من القرآن الكريم فقال: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ "والله غفور رحيم"﴾، فسأله أعرابي:  يا أصمعي كلام من هذا؟، فرد الأصمعي: كلام الله، فقال الأعرابي بثقة: هذا ليس كلام الله. انتشر اللغط في المجلس وثار الناس على الأعرابي الذي ينكر آية في القرآن، لكن الأصمعي محتفظاً بهدوئه سأله: يا أعرابي هل أنت من حفظة القرآن؟، قال الأعرابي: لا، قال: حسناً، هل تحفظ سورة المائدة؟ (وهي السورة التي تنتمي إليها هذه الآية)، كرر الأعرابي نفيه: لا، قال: إذن كيف حكمت بأن هذه الآية ليست من كلام الله؟، كرر الأعرابي بثقة: هذه ليست من كلام الله. حسماً للجدال ومع ارتفاع اللغط تم إحضار المصحف فتح الأصمعي المصحف على سورة المائدة وهو يقول بنبرة الفوز هذه هي الآية؛ اسمع: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ .. ﴾ .. لحظة .. لقد أخطأتُ في نهاية الآية ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ وليس "غفور رحيم". أُعجب الأصمعي بنباهة الأعرابي الذي فطن إلى الخطأ بدون أن يكون من حفظة القرآن فسأله: يا أعرابي كيف عرفت؟، قال الأعرابي: يا أصمعي عَزَّ فحكم فقطع ولو غفر ورحم لما قطع!

ختاماً، لديّ كلمتان: الأولى للأئمة "لا غضاضة من إصلاح الخطأ؛ فكل أحدٍ يخطئ أو ينسى، فإن أخطأت أو توقفت وردك أحد المأمومين أو فتح عليك فلا يضيق صدرك بذلك، وتذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة رضي الله عنهم كانوا يتوقفون في القراءة ويطلبون الرد". والثانية للمأمومين "لا تتسرع في الرد أو الفتح إذ قد ينتبه الإمام ويتابع. ولا ترد الإمام أو تفتح عليه إلا إذا كنت حافظاً للقرآن واثقاً من صحة ردك أو فتحك؛ فالرد الخاطئ أو الفتح غير الصحيح ضرره أكبر بكثير من عدم الرد أو الفتح".
إن رد الإمام أو الفتح عليه وإصلاح خطئه، من باب قوله تعالى: ﴿تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾، كما أن الرد والفتح على الإمام، بضوابطه، يضمن صحة صلاة الإمام والمأمومين، وهى غاية عظيمة، وهدف نبيل مشروع.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى، وتقبل الله منا أعمالنا خالصةً دون رياء.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.

                                                   http://goo.gl/b465bF