الجمعة، 3 نوفمبر 2023

الله يُحب المحسنين

 خاطرة الجمعة /419

الجمعة 3 نوفمبر 2023م

(الله يُحب المحسنين)

 

يقول شابٌ: أثناء عودتي من عملي في وقتٍ متأخرٍ من الليل -كعادتي- شاهدتُ بائع الموز يقف في البرد الشديد ينتظر زبوناً يشتري آخر ما عنده من موز، فأوقفتُ سيارتي وترجلتُ منها وشرعتُ في عبور الطريق لأشتري منه ما تبقى معه رحمةً به، رغم أن في بيتي كميةً من الموز، وبينما أنا متجهٌ نحو البائع، إذا بشابٍ يظهر على جانب الطريق المقابل، يتجه هو أيضاً إلى بائع الموز؛ تنحيتُ جانباً وأشرتُ إليه ليتقدم فأشار إليّ أن أسبقه، أراد أن يتنحى هو ويُعطيني أنا الفرصة للشراء؛ فأخبرته أنني نويتُ الشراء فقط لأرحم البائع من الوقوف في البرد؛ فإذا بالشاب يُخبرني أنه جاء لنفس السبب، وأن لديه من الموز ما يكفيه، وآثرني على نفسه وأصرّ أن يترك لي فرصة الشراء لكسب الأجر والثواب، فشكرته واشتريتُ بالفعل ما تبقى من الموز من البائع.

لكني تعجبتُ وقلتُ في نفسي: "سبحان الله! أرسل الله لهذا الرجل اثنين في وقتٍ واحدٍ، تُرى ما طبيعة هذا الرجل الذي سخّر الله له رحمة الناس وتعاطفهم؟!". لم تتأخر الإجابة حين شاهدتُ في اليوم التالي عامل نظافةٍ يكنس بجوار عربة بائع الموز، فإذا بالبائع يضع بعض الموز في كيسٍ ويناوله لعامل النظافة! هنا أدركتُ حقيقةً هامةً؛ وهي أن (الله يُحب المحسنين) ويُسخِّر لهم من يُحسن إليهم، ويُجنّد لهم جنداً من عنده دون علمهم! سبحان الله، المحسن قريبٌ من الله عزَّ وجلَّ.

 

أحبتي في الله.. للإحسان إلى الناس أشكال وصور كثيرةٌ ومتنوعةٌ منها هذا الذي حدث في أحد محلات بيع البطاطين، في يومٍ شديد البرودة من أيام الشتاء، إذ دخل المحل رجلٌ يبدو عليه أنه فقيرٌ متعففٌ، وسأل صاحب المحل عن أرخص البطانيات عنده لأنه يحتاج ست بطانياتٍ لأسرته، وليس معه إلا خمسةٌ وعشرون ديناراً فقط؛ فقال له صاحب المحل: "عندي نوعٌ صينيٌ رائعٌ في التدفئة، سعر البطانية رخيصٌ جداً خمسة دنانير فقط، وعليه عرضٌ خاص، فلو اشتريت منها خمساً تأخذ السادسة مجاناً"، انشرح صدر الرجل الفقير وأخرج دنانيره الخمسة والعشرين وأعطاها لصاحب المحل ثمناً لخمس بطانياتٍ كي يأخذ السادسة هديةً، وأخذ البطانيات ومشي والفرحة تقفز من عينيه. بعدما انصرف الرجل الفقير نظر صديق صاحب المحل الذى كان واقفاً وسأله: "أليست هذه البطانية التي قلتَ لي إنها أحسن وأغلى بطانيةٍ عندك وبعتها لي الأسبوع الماضي بستين ديناراً؟!"، رد صاحب المحل: "والله يا صديقي العزيز هي كذلك فعلاً، وقد بعتها لك أنت بستين ديناراً من غير مكسبٍ ولا حتى دينار واحد، فما بالك وأنا أُتاجر مع الله وأُخرجها لوجه الله رأفةً بهذا الرجل المسكين وبأسرته من برد الشتاء؛ فأرجو أن يحفظني ربي بسببها من حر جهنم، والله لولا عزة نفس هذا الرجل لأعطيته البطانيات كلها مجاناً، لكنني لم أُرد أن أحرجه، وأُظهر له أنني تصدقت عليه فأجرح كرامته، ولا تنسَ أن (الله يُحب المحسنين)".

 

عن المحسنين يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويقول جلَّ وعلا: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾، ويقول أيضاً: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويقول كذلك: ﴿وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾، كما يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويقول: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾، ويقول: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ﴾.

 

والإحسان -كما يقول العلماء- مأخوذٌ من الحُسْن، وهو كل شيءٍ جميلٍ، ودين الله يقوم في حقيقته على الإحسان، فهو إما إحسانٌ في عبادة الله، وإما إحسانٌ مع خلقه وإليهم. والإحسان إلى الناس هو بذل النفع إليهم، والسعي في قضاء حوائجهم، وإغاثة ملهوفهم، وإعانتهم كلما تيسر للعبد ذلك، والنصح لهم في جميع أمورهم. إنه بذل الخير للغير دون انتظار مقابل. فهو في أصله محض عطاءٍ وتفضل. وهو عبادةٌ من أفضل العبادات، وقُربةٌ من أجَّل القُربات، بها تنمو المحبة، وتزداد الأُلفة والمودة، وتقوى أواصر الأُخوة، وتنتشر بين أبناء المجتمع روح التعاون والتكاتف والترابط، وهو صفةٌ نبيلةٌ، وخصلةٌ جليلةٌ، يُحبُّها الله، ويُحبُّ أهلها؛ فإذا أحسن المُسلم إلى الآخرين في هذه الدنيا، كانت النتيجة إحسان الله إليه في الدنيا والآخرة، ويُحس المحسنون آثار ذلك في أنفسهم؛ فيجدون الانشراح والسكينة والطمأنينة والراحة التي لا يحدُّها حدّ.

وللإحسان المقبول عند الله تعالى شرطان: أن تكون النية فيه خالصةً لله وحده، وأن يكون موافقاً للشرع ولسُنة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم الذي قال واصفاً بعض صور هذا الإحسان: [..وأَحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سرورٌ تُدخِلُه على مسلمٍ، تَكشِفُ عنه كُربةً، أو تقضِي عنه دَيْنًا، أو تَطرُدُ عنه جوعًا، ولأَنْ أمشيَ مع أخٍ في حاجةٍ؛ أَحَبُّ إليَّ من أن اعتكِفَ في هذا المسجدِ "يعني مسجدَ المدينةِ" شهرًا..]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مَن نَفَّسَ عن مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَن يَسَّرَ علَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عليه في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [وَاللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ].

وعن الآية الكريمة: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ قال أحد العلماء: "من رَفَقَ بعبادِ الله رَفَقَ الله به، ومن رحِمهم رحِمه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليهم جاد الله عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن منعهم خيره منعه خيره، ومن عامل خَلْقه بصفةٍ عامله الله بتلك الصِّفة بعينها في الدنيا والآخرة، فالله تعالى لعبده حسب ما يكونُ العبد لخَلْقه".

 

أحبتي.. يقول تعالى: ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾، فلنُحسن العمل؛ فإن (الله يُحب المحسنين)، وليعرف كلُّ واحدٍ منا الله في الرخاء، ليعرفه في الشدة، ولنبدأ بتفقد أرحامنا وأقاربنا، وجيراننا، ولا نهمل غيرهم من إخواننا المسلمين، ثم ليشمل إحساننا بعد ذلك غير المسلمين. علينا بعيادة المرضى، وإغاثة الملهوفين، وقضاء حوائج المحتاجين، ومساعدة الفقراء والمساكين والعطف عليهم. وأقل ما يُمكن أن نُقدمه لغيرنا؛ حُسن المعاملة، والكلمة الطيبة، وإفشاء السلام، والتبسم في الوجوه، فإن لم نستطع فبكف أذانا عنهم؛ فلا نعتدي ولا نحقد ولا نحسد ولا نفعل أي شرٍ لهم.

اللهم اجعلنا من المُحسنين، وأعِنّا على فعل الخير، واجعله خالصاً لوجهك الكريم، موافقاً لشرعك القويم، وتقبّله منا، وثقِّل به موازيننا، واجعله شفيعاً لنا يا أكرم الأكرمين.

https://bit.ly/3u0D5fK