خاطرة الجمعة /462
الجمعة 30 أغسطس 2024م
(الصبر على أقدار الله)
أحد المشايخ ماتت زوجته -رحمها الله- فحزن عليها حُزناً شديداً.. واشتُهر
حُزنه عليها؛ فأرسلت إليه إحدى صديقات زوجته رسالةً تُصبره فيها. وإليكم رسالتها
إليه:
السلام عليكم يا شيخ.. أنا إحدى صديقات زوجتك. بلغني خبر وفاتها.. وبلغني
حُزنك الذي مرَّ بك.. فاقرأ قصتي.. ليست أول قصةٍ تُحكى عن الفقد والألم؛ فهناك
المئات مثلي يُعانون الفقد والحرمان.. بدأت قصتي يوم 27 من شهر رمضان عام 1431هـ،
في آخر ساعةٍ من ذلك اليوم.. يومها اتفقنا جميعاً على أن نركب سيارةً واحدةً
ونُغادر ذهاباً إلى بيت الله الحرام في «مكة» لنؤدي العُمرة. ومن أقدار الله
-سُبحانه وتعالى- أن إخواني رفضوا يركبون سياراتهم وجاءوا معنا.. فكُنا ثمانية
أشخاصٍ؛ أنا ووالديّ وأخواتي وإخواني.. كان والدي يقود السيارة وأمي تجلس بجانبه..
اتفقنا وقتها على أن يُمسك المُصحف كل واحدٍ منا ويقرأ ويدعي إلى أن نصل.. حتى
نختم القرآن بذلك اليوم.. واستمرينا بقراءة القرآن في صمتٍ وخشوعٍ كأننا لن نقرأه
مرةً أُخرى! كانت أُختي تقرأ وتبكي، والأخرى تنظر إليّ وتبكي وتدعي.. كنتُ أسألهم
لماذا الدموع؟ فقالت إحداهن: "أشعر بأن صوت الله قريبٌ مني وأنا اقرأ"..
أثناء ذلك..
أظن أن الوالد -رحمة الله عليه- غلبه النعاس.. وانحرفت السيارة من أعلى
الجبل.. سقطت بنا السيارة في الوادي.. استمرت في السقوط مسافةً طويلةً، وانقلبت
بنا عدة مراتٍ، وكلما تدحرجت خرج أحد إخواني من السيارة وسقط.. أما أنا فقد وقعتُ
على شجرةٍ، والباقين سقطوا في قاع الوادي.. وقع الحادث وقت أذان المغرب، وكُنا
صائمين.. عندها.. أُغميَ عليّ ونزفتُ كثيراً.. أذكر أني صحيتُ وصرختُ أبحث عن
أهلي.. وكنتُ -رغم ما بي من كسورٍ وإصاباتٍ- أمشي مرةً وأحبو مراتٍ.. لم يشاهدنا
أحدٌ أثناء سقوط السيارة.. بدأتُ أزحف إلى أن وصلتُ إليهم.. حاولت تغطية أخواتي..
وجدتهم فارقوا الحياة وكل واحدةٍ رافعةً السبابة وقد تشهدوا ولله الحمد.. جمعتهم
في مكانٍ واحدٍ.. حينها حلَّ الظلام.. وتملكني الخوف من أصوات الحيوانات ومن
الظلام.. لم أجد إخواني أبداً.. زحفتُ ووجدتُ أمي قد فارقت الحياة وقد تشهدت..
وعباءتها ملتفةٌ عليها كالكفن؛ لم يظهر منها سوى أُصبعها وقد تشهدت.. حتى الغطاء
لم يسقط.. بقيتُ بحضنها أُكلمها لعلها تسمعني.. ولا فائدة.. وصلتُ لأبي ووجدته
مازال حياً وينزف.. فرحتُ وضممته إلى صدري؛ فرحتُ أنه مازال معي.. فقال لي:
"أوصيك بنفسك.. لا تبقين هنا كثيراً.. واطلعي الجبل ونادي على من يساعدك..
ويُساعد أخواتك وأمك".. عندها خفتُ من صوت الكلاب حولي ومن ظلام الليل؛
فبقيتُ بحضن أبي.. وقلتُ له: "أنا أنزف ولا أستطيع الحركة وسأبقى معك"..
وقتها أخذني على صدره.. وكان يوصيني بأن أكون كما عهدني.. وظل يدعي لي.. وسمعته
يتشهد ثم فارق الحياة.. بقيتُ لوحدي أبكي وأدعي إلى أن دخلتُ في غيبوبة.. لم أُحس
بنفسي؛ فقد أُغمي عليّ من النزيف.. مرَّ علينا يومٌ كاملٌ لم يرنا أحد.. وفي عصر
اليوم الثاني وجدنا راعي غنم.. وأبلغ الدوريات.. فجاءت فرق الدفاع المدني
بالطيارات والسيارات.. وتم انتشالنا على دفعات.. لم أَفُق من الغيبوبة إلا بعد
خمسة أشهر.. بقيتُ بعدها أتعالج سنتين في «كندا».. وكنتُ كلما تذكرتُ ما حصل أشعر
وكأنه خيالٌ أو حُلم.. أُصبت بكسورٍ خطيرةٍ في الرأس والرقبة والظهر والحوض،
والأهم من ذلك أني فقدتُ -بسبب النزيف- نعمة أن أكون أمّاً.. رغم محاولاتٍ كثيرةٍ
فشل فيها الأطباء؛ فكان الاختيار إما حياتي.. أو العملية التي قد تُفقدني نعمة
الأبناء.. وكان اختياراً صعباً.. لكني صبرتُ.. وها أنا بخيرٍ وعافيةٍ والحمد الله.
تعمدتُ أن أخبرك بقصتي يا شيخ حتى تعلم أنك لستَ الوحيد الذي فقد عزيزاً
وغالياً.. وأن الدُنيا لن تنتهي بفقد أحدٍ مهما كان حُبنا له وارتباطنا به.. لكن
علينا (الصبر على أقدار الله) التي هي من تمام الإيمان.. والحمد الله ها أنا عُدتُ
لعملي.. وانتقلتُ إلى «الرياض» وبدأتُ أعيش وأتعايش مع حياتي الجديدة.. والحمد لله
على كل حال..
نسيتُ أن أقول لك.. كان قد بقي على موعد زفاف أخواتي أسبوعان.. وكُنا نُريد
أن نعتمر قبل زفافهم.. وإلى الآن ما تزال فساتين زفافهم معي، أحتفظ بها إلى أن
أموت.
أحبتي في الله.. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [انْظُرُوا إلى مَن
أسْفَلَ مِنكُمْ، ولا تَنْظُرُوا إلى مَن هو فَوْقَكُمْ، فَهو أجْدَرُ أنْ لا
تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ علَيْكُم]. يقول شُرَّاح الحديث: القناعة من أجَّل
أخلاق المؤمنين، وهي علامةٌ على الرضا بقَدَر الله، كما أنها تُهَوِّن صعوبة
الحياة. وفي هذا الحديث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [انْظُرُوا إلى مَن
أسْفَلَ مِنكُمْ] أي: من هو أقل منكم في أمور الدنيا وتقسيمها، [ولا تَنْظُرُوا
إلى مَن هو فَوْقَكُمْ]؛ فإن هذا النظر [أجْدَرُ]، أي: أحق [أنْ لا تَزْدَرُوا]،
أي: لا تحتقروا [نِعْمَةَ اللَّهِ علَيْكُم]؛ وذلك أن نظر الإنسان إلى من هو أعلى
منه؛ يؤدي إلى استحقار ما عند نفسه من النِعم، فيستقل النعمة ويُعرِض عن الشكر؛
فيكفر نعمة الله عليه، ولذلك يقول تعالى: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا
مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾، يقول المفسرون: أي لا
تمد عينيك مُعجباً، ولا تُكرر النظر مُستحسناً إلى أحوال الدنيا والممتعين بها، من
المآكل والمشارب اللذيذة، والملابس الفاخرة، والبيوت المُزخرفة، والنساء
المُجَمَّلة، فإن ذلك كله زهرة الحياة الدنيا، تبتهج بها نفوس المغترين، وتأخذ
إعجاباً بأبصار المُعرضين، ويتمتع بها - بقطع النظر عن الآخرة - القوم الظالمون،
ثم تذهب سريعاً، وتمضي جميعاً، وتقتل مُحبيها وعشاقها، فيندمون حيث لا تنفع
الندامة، ويعلمون ما هم عليه إذا قدموا في القيامة، وإنما جعلها الله فتنةً
واختباراً، ليعلم من يقف عندها ويغتر بها، ومن هو أحسن عملاً. وفي الحديث: بيان أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مُداوياً للقلوب، فعلَّمها كيف تصنع، ووصف لها
الدواء. وفيه: إرشادٌ إلى الاعتبار بأحوال الدنيا، وأن السعادة ليست مالاً فقط.
وفيه: أن من أعظم ما يُعين على استشعار النعم كثرة التأمل فيها والنظر في حال من
هُم أقل حالاً منك.
ويقول العلماء إن (الصبر على أقدار الله) والقناعة والرضا بما قسم الله
تشمل جميع نِعم الله؛ ففي مجال الصحة تكون القناعة بأني -مع ما بي من مرضٍ أو
عاهةٍ- أفضل حالاً ممن مرضه أشد من مرضي أو عاهته أصعب من عاهتي، فيكون ذلك سبباً
في شكري لله سُبحانه وتعالى. أما إذا نطرتُ إلى من هو أكثر مني صحةً، فقد يتملكني
-والعياذ بالله- شعورٌ بأني لستُ في نعمةٍ تستوجب الشكر؛ من هنا يكون فهمنا لهذا
التوجيه النبوي العظيم لكلٍ منا إذا رأى شخصاً قد ابتلاه الله سُبحانه وتعالى
بشيءٍ لم يبتلينا به؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ رَأَى مُبْتَلًى
فَقَالَ: "الحَمْدُ للهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ
وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا" لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ
الْبَلَاءُ]. ويقول شُرَّاح الحديث: الابتلاء بأنواعه كلها فيه فتنةٌ واختبارٌ
للعبد، وينبغي عليه الصبر والدُعاء لله، أما العبد الذي عافاه الله؛ فإنه في نعمةٍ
ينبغي شكر الله عليها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: [مَنْ
رَأَى مُبْتَلىً] بأي بليةٍ في البدن كمرضٍ، أو في الدنيا كفقرٍ، أو في الدين
كعصيان، والمُراد برؤياه: النظر إليه أو السماع بحاله، [فَقَالَ] في نفسه بحيث لا
يسمعه المُبتلى؛ لئلا يكون شامتاً به: [الحَمْدُ للهِ الَّذِي عَافَانِي]، أي:
نجاني وأنقذني [مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ] دعا الله عزَّ وجلَّ وحمده على حفظه من
ذلك البلاء، [وَفَضَّلَنِي]، أي: صيرني أفضل منك، وأكثر خيراً، وأحسن حالاً
بالعافية والسلامة من الابتلاء من ذلك أو أعم [عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ
تَفْضِيلًا] وهذا فيه شكرٌ لله على السلامة من الشرور [لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ
الْبَلَاءُ]، أي: كان ذِكر الله وحمده سبباً في أن يحفظ المرء ويحميه من هذا
البلاء الذي وقع بغيره؛ لأنه لا يأمن أن يقع به؛ ولأن الله يُعافيه ويرحمه بدعائه،
فينبغي للعبد أن لا يزال ذاكراً نِعم الله عليه مُعتبِراً في رؤية العباد،
ومُقِراً أن ما به من نعمةٍ؛ فمن الله. وفي الحديث: أن ذِكر الله والثناء عليه
يحفظ الإنسان، ويُعافيه من البلايا. ويؤكد العلماء على أن يقول هذا الذِكر سِرّاً،
بحيث لا يسمعه المُبتلى، لئلا يتألَّم قلبه ويتأذى بذلك، بل إذا لقيه عليه أن
يُحسن خُلُقه معه ويُظهر له التعاطف معه، ويدعو الله له بالشفاء والعافية.
ويمتد مجال الابتلاء ليشمل كل ابتلاءٍ دُنيويٍ: كفقرٍ أو مرضٍ أو عاهةٍ
ونحو ذلك، وكل ابتلاءٍ دينيٍ: كفِسقٍ أو ظُلمٍ أو بدعةٍ أو كُفرٍ وغيرها.
أحبتي.. الرضا بما قسمه الله و(الصبر على أقدار الله) من تمام الإيمان؛
فلنرضى، ونصبر، ونحمد الله عزَّ وجلَّ على كل حال، خاصةً وقت الشدائد والمِحن،
فتنقلب -برحمة الله- إلى عطايا ومِنَح. ومع كل ابتلاءٍ علينا -مع الصبر والشكر- أن
ننظر إلى من كان ابتلاؤه أكثر وأشد وأصعب، لنرضى بما قسمه الله لنا، ونحمده عليه،
لا أن نسخط وننقم ونُعرِض؛ فالابتلاء الأكبر لا يكون في المُصيبة ذاتها وإنما هو
في تصرفنا وسلوكنا بعد حدوثها؛ يقول تعالى على لسان سليمان عليه الصلاة والسلام:
﴿لِيَبْلُوَنِىٓ ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ﴾. فلنحتسب مع كل
ابتلاءٍ، ونشكر ونصبر ونسترجع، عسى الله أن يكتبنا من الشاكرين الصابرين.
اللهم اكتب لنا الخير حيثما كان، وقدِّره لنا، ورضِّنا به، وبارك لنا فيه.
واجعلنا اللهم من الراضين بقضائك وقدرك، الحامدين لك على كل حال.
https://bit.ly/3ADW4jq