خاطرة الجمعة /497
الجمعة 2 مايو 2025م
(قليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ مُنقطع)
رجلٌ سوريٌ صالحٌ كان يرعى أرملةً كبيرةً في السن ومُقعدة، تُقيم في إحدى
الغُرف الملحقة بجامعٍ يقع في حي «المُهاجرين» بمدينة «دمشق». لم يكن لهذه الأرملة
أحدٌ؛ فأخذ الرجل على عاتقه أن يأتيها كل يومٍ بطعامها وشرابها ويُنظف لها
غُرفتها، ثم انتقل إلى سكنٍ جديدٍ بعيدٍ بحي «المزة»، وكَبُر في السن، وصار عُمره
ثمانين سنة، ومع ذلك استمر في الذهاب إلى تلك الأرملة كل يومٍ، رغم أنه -كي يصل
إليها- يُضطر إلى أن يستقل أكثر من حافلةٍ، فضلاً عن سيره مشياً على الأقدام بعد
نزوله من آخر حافلةٍ؛ فأشفق عليه أهله، وقالوا له لقد خدمتها عشرين سنةً، كفى،
اترك هذا الأمر لغيرك؛ فكان رده: "لا أستطيع؛ هذا عملٌ التزمتُ به"،
فلما رأوه مُصِّراً على خدمتها اقترحوا عليه أن يأتي بها لتُقيم معهم في إحدى غُرف
المنزل، فيكونون مُشاركين له في الثواب، ومُخففين عنه ما يُضطر إلى بذله من جهد؛
فجاء بها إلى بيته، وبعد سبعة أيامٍ توفاها الله. هذا عملٌ طيبٌ وَفَّقَ الله
سُبحانه وتعالى هذا الرجل وأسرته لعمله، وختم لهم بالتمام والكمال.
أحبتي في الله.. وعلى العكس من ذلك؛ هناك من يظل الشيطان يُحاول معه حتى
ينتكس؛ فهذا شابٌ خدم والدته اثنتي عشرة سنةً، ثم ضجر، وفي ساعة غضبٍ أسمع أُمه
كلماتٍ قاسيةً؛ قال لها: "أليس لكِ أولادٌ غيري؟"؛ فبكت، واتصلت بأحد
أولادها الآخرين، وطلبت منه أن تنتقل إلى بيته، وبعدها بيومين توفاها الله؛ فخسر
ذلك الشاب ثواب عمله الصالح الذي ظل يُقدمه إلى أُمه كل تلك السنوات.
وهذه شابةٌ كانت نفسها الأمارة بالسوء هي التي تسببت في إنتكاستها؛ فقد
كانت منذ صغرها ترتدي الحجاب إرضاءً لأبيها، فلما مات انتكست وخلعت حجابها! يُعلق
راوي هذا الخبر بقوله: "يا ليتها تمسكت بالحجاب؛ فشتّان ما بين أن تموت وهي
مُحجبةٌ مُلتزمةٌ بتعاليم دينها، أو أن تموت وهي عاصيةٌ تاركةٌ حجابها".
يقول أهل العلم إن الشرائع والعبادات ما شُرِّعت للمشقة على الناس، وإزهاق
الأنفس، ولا لإهلاك الأبدان، وإنما شُرِّعت لتكون مصدر راحةٍ وسعادةٍ وطُمأنينةٍ،
ولإدخال السرور على النفس بالطاعة والعبادة والإنس بالله والإقبال عليه بحُبٍ
ورغبةٍ، ومحبة الوقوف بين يديه؛ يقول الله سُبحانه وتعالى: ﴿طَهَ . مَا
أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾، ويقول تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾؛ فالدِين يُسرٌ لا عُسر.
وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أُمته إلى الطريق الصحيح للدِين
والتدين؛ فأوضح أنه ينبغي على المؤمن أن يقوم بما يُطيقه من العبادة، مع الترغيب
في القصد في العمل؛ حتى لا يُصاب بالملل والفتور؛ فإلزام النفس بما لا تُطيق أمرٌ
لا يستحق الثناء لمخالفته السُنة، والدِين الحق هو في مُتابعة النبي صلى الله عليه
وسلم، والعمل بسُننه، وليس في التشديد على النفس وإرهاقها بالعبادة؛ يقول النبي
صلى الله عليه وسلم: [أَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ أدْومُها وإن قَلَّ]، ويقول
شُرَّاح الأحاديث إن الإسلام حثَّ على مُلازمة الرفق في الأعمال، والاقتصار على ما
يطيق المسلم، ويُمكنه المُداومة عليه؛ فكما قيل (قليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ
مُنقطع)، فقوله صلى الله عليه وسلم: "أدْوَمُها"، معناه العمل المُستمر
غير المُنقطع إلا بعُذر، وقوله: "وإن قَلَّ" معناه وإن كان ذلك العمل
قليلاً.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يُعجبه أن يقسو الإنسان على نفسه في العبادة،
وأن يُحمِّلها ما لا تُطيق؛ لأن مثل هذا العمل لا تستقيم عليه النفس، ولا تستمر
عليه ولا تُداوم؛ يقول النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: [علَيْكُم بما
تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لا يَمَلُّ اللَّهُ حتَّى تَمَلُّوا] أي لا يتوقف الله عن
إعطائكم الثواب، حتى تملوا أنتم من العمل وتتركوه، وقيل إن معناه: "مهْما
عَمِلْتَ مِن عمَلٍ فإنَّ اللهَ يُجازِيك عليه، فاعمَلْ ما بَدَا لك؛ فإنَّ اللهَ
لا يَمَلُّ مِن ثَوابِك حتَّى تَمَلَّ مِن العمَلِ"، والمقصود: لا تكلفوا
أنفسكم من الأعمال ما يشق عليكم، فتتركوه بعد ذلك؛ لأنَّ بالدَّوام على القليل
تدوم الطَّاعة، والذِّكر، والمُراقَبة، والنِّيَّة، والإخلاص، والإقبال على الخالق
سُبحانه وتعالى، ويُثمر القليل الدائم ما يزيد على الكثير المُنقطع أضعافاً
كثيرةً.
ومما يُروى من حديثٍ في هذا الأمر قوله عليه الصلاة والسلام: [إنَّ هذا
الدِينَ مَتينٌ؛ فأوْغِلوا فيهِ برِفقٍ، ولا تُبَغِّضْ إلى نفسِكَ عِبادَةَ اللهِ،
فإنَّ المُنبَتَّ لا أرْضًا قَطَع ولا ظَهرًا أبقَى] فعلى المُسلم أن يتخير عملاً
يستطيعه ويقدر عليه؛ من صلاةٍ أو صدقةٍ أو بِرٍ أو صِلةٍ أو غير ذلك، يتقرب به إلى
الله، ويُداوم عليه؛ حتى يكون من أحب الناس إلى الله، وليتذكر دائماً الحكمة التي
تقول: (قليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ مُنقطع).
ومن أيسر تلك الأعمال ما وصفه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله
"هو خَيْرٌ مِن خادِمٍ" إذا أوى المُسلم إلى فراشه، أو أخذ مضجعه،
[كَبِّر ثَلاثًا وثَلاثِينَ، وسَبِّح ثَلاثًا وثَلاثِينَ، وحَمَد الله ثَلاثًا
وثَلاثِينَ].
وهل أيسر من قولك "الله أكبر" عند كل صعودٍ، وقولك "سُبحان
الله" عند كل نزولٍ، سواءً بمصعدٍ أو على دَرَج؟ أو أن تقرأ السلامَ على من عرفتَ
ومن لم تعرف؟ أو إماطتك الأذى عن الطريق؟ أو إرشادك الغريب والتائه والضال فتكون
له هادياً؟ أو أن تُعوِّد نفسك على قول [سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ،
سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ] في أوقات انتظارك وأوقات فراغك؟
إن الأعمال الصالحة مُحيطةٌ بنا حتى ونحن في منازلنا، وفي أماكن عملنا، بل
وفي طُرقنا، وبالإجمال في كل مكانٍ يُحيط بنا، بإمكاننا أن نُثقِّل موازين أعمالنا
يومياً بما لا يُحصى من الحسنات بالكثير من تلك الأعمال، المُهم: أولاً: إخلاص
النية؛ بأن يكون العمل لوجه الله سُبحانه وتعالى وحده، وثانياً: أن يكون مُوافقاً
لشرع الله وسُنة النبي صلى الله عليه وسلم، مع أهمية تبييت النية، والاستمرار في
العمل دون انقطاع؛ من ذلك: مُحافظتك على الصلاة المفروضة على وقتها مع الجماعة،
وِردك اليومي من تلاوة القرآن الكريم ولو بصفحةٍ واحدةٍ، قيامك الليل وتهجدك ولو
بركعتين، إحياؤك لسُنةٍ من سُنن النبي صلى الله عليه وسلم، ترطيب لسانك بذِكر
الله، توكلك على الله، تصدقك على المحتاجين، استغفارك عن ذنوبك، لزومك أدعية
الصباح والمساء، مُحافظتك على السُنن الرواتب، حرصك على صلة رحمك، دعاؤك لأخيك بظهر
الغيب فيقول لك المَلَك "وَلَكَ بمِثْلٍ"، مشيك في مصلحة الناس، حفظك
حقوق جارك، إصلاحك بين مُتخاصمين، إعانتك المُحتاج، مُساعدتك الفقراء والمساكين،
تبسمك في وجه أخيك، إصغاؤك لحديثٍ مُمِّلٍ لجبر خاطر مُتحدثٍ، مُلاطفتك لطفلٍ،
إكرامك لضيفك، نصيحتك لغيرك، إطعامك الفقراء، دعاؤك لميتٍ، عدم ردك سائلاً، وغير
ذلك من فرصٍ كثيرةٍ ومُتعددةٍ لتثقيل ميزان حسناتك، المهم في الأمر هو المُداومة
والاستمرار؛ وصدق من قال: (قليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ مُنقطع).
أحبتي.. علينا أن نُعمِّر أوقاتنا بكل عملٍ صالحٍ مُمكن، والعزم على
المُداومة عليه، وعدم الانقطاع عنه بغير عُذرٍ، عسى الله أن يجعل ذلك في موازين
حسناتنا.
اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكُفر والفسوق
والعصيان. اللهم اغفر لنا ما مضى، وأصلح لنا ما تبقى، وارزقنا رضاك وحُسن الخاتمة،
والفوز بالجنة والنجاة من النار. اللهم تُب علينا واغفر لنا وارحمنا، وارحم
والدينا، ومن لهم فضلٌ علينا وجميع المسلمين. واجعل اللهم خير أيامنا خواتمها،
وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، وأعنِّا ربنا على ذِكرك وشُكرك وحُسن عبادتك
على الوجه الذي يُرضيك عنا.
https://bit.ly/4iIKqEc