الجمعة، 12 أغسطس 2016

المستوى الرفيع

الجمعة 12 أغسطس 2016م
خاطرة الجمعة /٤٤

(المستوى الرفيع)

"في أسبوع واحد مرت عائلتنا بموقفين، كلاهما حبس الأنفاس، وكلاهما كان بمثابة نهاية مرحلة وبداية أخرى، كان كلا الموقفين فارقاً ومؤثراً .. الموقف الأول كان وفاة أحد شيوخ العائلة رحمه الله .. وأما الموقف الثاني فكان ظهور نتيجة امتحان الثانوية العامة لأحد شباب العائلة حفظه الله". كانت تلك عبارات صديقٍ لي واصفاً ما حملته الأيام له ولأسرته خلال أسبوع مضى.
استمر هو في حديثه، ووجدت نفسي أعطيه جوارحي كلها مُظهراً اهتماماً بما يزال يقول، أما ذهني فكان قد شرد بعيداً وتوقفت بي أفكاري عند تلك العبارة التي بدأ حديثه بها؛ تأملت كلا الموقفين الذَيْن مرت بهما عائلته، وتساءلت بيني وبين نفسي: هل يا تُرى يوجد ما يجمع بينهما؟ هل هناك أمورٌ يتشابهان فيها؟ أم أنهما مختلفان تمام الاختلاف؟
فكرتُ ملياً فوجدتُ في هذين الموقفين أموراً مشتبهة وأخرى غير متشابهة.
فمن أوجه التشابه: أن كلاً منهما اختبارٌ وابتلاء، يقول الله سبحانه وتعالى عن الموت: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾. وكلاهما فيه مفارقةُ معلومٍ إلى مجهول، وانتقالٌ من حالٍ ألفه صاحبه إلى آخر لم يألفه. وفي كلٍ منهما أملٌ ورجاءٌ قد يتحقق وقد لا يتحقق. وفي الحالتين لم ولن ينفع صاحب الموقف إلا عمله هو ولن ينفعه عمل حتى أقرب الناس إليه وأكثرهم حباً له. كما أن في الموقفين انتظاراً وترقباً لشئٍ أهمٍ انتظاراً لتقرير مصير وترقباً لمستقبلٍ لم تتحدد ملامحه النهائية بعد.
أما عن وجوه الاختلافٍ بين كلا الموقفين فمنها: أن امتحان الثانوية العامة اختبارٌ بشريٌ دنيويٌ موضوعه مدى اجتهاد طالبٍ في دراسته في سنواتٍ محددة، أما الوفاة فهي اختبارٌ إلهيٌ أُخرويٌ موضوعه مدى اجتهاد الفرد في جميع مجالات حياته على امتداد عمره كله طال أو قصر. للطالب فرصةٌ أخرى في دورٍ ثانٍ أو إعادة الامتحان، وأما الفرد فقد انتهى الزمن الذي خصصه المولى له للاختبار والابتلاء بغير زيادةٍ ولا نُقصان؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾، ودون عودةٍ أو رجعة؛ يقول عز وجل: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ*لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا﴾. الطالب يعلم موعد الامتحان مسبقاً ويستعد له ويعمل على تحقيق أفضل نتيجةٍ ممكنة ويحرص على تحسين المجموع بالحصول على درجات (المستوى الرفيع)، أما الفرد فلا يعلم موعد انتهاء أجله وتَغُّرُه الحياة الدنيا بالأماني فيغفل عن الاستعداد للآخرة ويوم الحساب ويُلهه الأمل؛ يقول سبحانه: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الْأَمَل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾. الطالب يقوم على ملاحظته وقت الامتحان وفي مكان أدائه ملاحظٌ أو أكثر يلاحظون الظاهر فقط من أعماله، وأما الفرد منا فيقوم على ملاحظةِ أفعاله ونوايا قلبه وخائنة عينه وما يُخفي صدره وكل قولٍ يلفظه رقيبٌ عتيد وملائكةٌ يحفظونه ويكتبون أقواله وأفعاله في كل مكانٍ وزمان لا يفارقونه حتى ينتهي أجله؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ*مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾، ويقول: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ*كِرَاماً كَاتِبِينَ* يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾. كما يلاحظ كلاً منا ويراقبه ويشهد عليه يوم الحساب من لم يكن يتوقع شهادتهم: سمعنا وأبصارنا وجلودنا وألسنتنا وأيدينا وأرجلنا؛ يُنطقهم الله سبحانه وتعالى بالحق؛ يقول المولى: ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، ويقول: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
ومن أعجب أوجه الاختلاف بين الموقفين أن الامتحان أسئلته سريةٌ ومجهولة وإجاباته النموذجية لا يعلمها إلا المصححون، أما الأسئلة التي سوف تُوجه لكل فردٍ منا بعد الموت ووقت الحساب فهي معلنةٌ معلومةٌ سلفاً لنا جميعاً ونموذج إجاباتها مذكورٌ بالتفصيل في القرآن الكريم وتوضحه بجلاء سنة نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام! ليس هذا فحسب بل في تقدير الدرجات يحصل الطالب على درجة معينة لا يتجاوزها مهما كانت صحة إجابته، أما احتساب الحسنات على أعمال الخير والبر فللفرد على كل عمل استوفى شرط الإخلاص لله سبحانه وتعالى عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف والله يضاعف لمن يشاء!
هناك بالتأكيد أوجه تشابهٍ وأوجه اختلافٍ أخرى، لكن المهم في الأمر كيف يتعامل الكثير منا مع كلا الموقفين؟ في امتحان الثانوية العامة نهتم بمجموع الدرجات والنسبة المئوية وهل تؤهل الطالب للالتحاق بالكلية التي يرغبها؟ وما هي الفرص المتاحة له من أجل تحسين المجموع والحصول على درجات (المستوى الرفيع)، أما في حالة الوفاة لا تجد من يسأل هل كان المتوفَىَ صالحاً؟ هل كان تقياً؟ هل كان ملتزماً بفروضه الدينية؟ هل كان يضيف لتلك الفروض نوافل من صلاة وصوم وصدقة يجبر بها ما انكسر من فروضه ويرفع بها درجته؟ هل كان يقرأ القرآن؟ هل كان حافظاً له؟ هل كان يقوم الليل؟ هل كان يسعى في خدمة المحتاجين؟ هل كان يقول الحق لا يخشى لومة لائم؟ هل كان ينتصر للمظلومين؟ هل كان عادلاً؟ هل كان ليناً؟ هل بلَّغ آية؟ هل كان باراً بوالديه؟ هل كان يصل رحمه؟ هل كان أميناً؟ هل كان صادقاً؟ هل .. وهل .. وهل؟ أسئلةٌ كثيرة لا يسألها أحدٌ عن المتوفى .. حياءً، أو خوفاً من معرفة الإجابات عنها، أو رُعباً وهلعاً من طرح هذه الأسئلة على ذواتنا نحن وعلى أنفسنا؛ ونحن أول من يعرف كم نحن مقصرون.
أحبتي في الله .. تمضي بنا الحياة .. وتطول بنا حبال الأمل وهي أوهى من خيوط العنكبوت .. لا يفكر الكثير منا في تحسين المجموع أو الحصول على درجات (المستوى الرفيع) قبل أن تأتي لحظة انتهاء الأجل .. وهي آتيةٌ لا شك فيها ولا رادَ لها؛ يقول العلي القدير: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ﴾ .. إنه وقت انتهاء الابتلاء والاختبار بغير فرصةٍ لدورٍ ثانٍ ولا إعادة امتحان ولا تنفعنا وقتئذ إلا أعمالنا .. إنها بداية مرحلة جديدة هي الانتقال لحياة البرزخ؛ يقول عز وجل: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾، نبقى فيه بغير رجعةٍ إلى يوم الحساب .. والحسابُ يومئذ هو العدل المطلق الذي لا ظلم فيه؛ يقول المولى عز وجل: ﴿وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ .. إنه حساب من نطمع في أن يعاملنا برحمته وغفرانه وبما هو أهلٌ له، وليس بعملنا وما نحن أهلٌ له ..
أحبتي .. الموت حقيقةٌ لا مفر منها، يأتينا في أي زمان ومكان؛ يقول العزيز العليم: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ﴾، فلو أنَّا تعاملنا معه كما نتعامل مع أي اختبار دنيوي، ولله المثل الأعلى، لأحْسَّنا الاستعداد، ولَحَرِصْنا على الحصول على أعلى الدرجات وتحقيق أفضل النتائج، ولكان حرصنا مضاعفاً على تحسين المجموع وكسب درجات (المستوى الرفيع) ما أمكنا ذلك. فلِمَ لا نبدأ الآن؟ ومن هذه اللحظة، دون تأخيرٍ أو إبطاءٍ أو تأجيلٍ أو تسويف، ولتكن بدايتنا بتخصيص وقت محدد في جدول أعمالنا اليومي: خمس دقائق، عشر دقائق، ربع ساعة، ساعة أو أكثر كلٌ حسب ما تسمح به ظروفه، نُسميه وقت (المستوى الرفيع) نشغله بتسبيحٍ وذكرٍ ودعاء، بمحاسبةِ نفس، بصلاةِ نفل، بصدقةٍ، بعيادةِ مريض، ببرِ والدَيْن، بصلةِ رحم، بإماطةِ أذي عن الطريق، بسعيٍ في قضاء حوائج الناس، بشهادةِ حق، بإصلاحٍ بين متخاصمين، بكفالةِ يتيم، برعايةِ أرملة أو فقير أو مسكين، بإغاثةِ ملهوف، بإعانةِ جار، وبأيِ عملٍ من أعمال الخير والبر والتقوى، مهما كان بسيطاً؛ كمسحٍ باليد على شعر يتيم، أو تبسمٍ في وجه الآخرين.
أحبتي .. ما دمتُ أنا، ولله الحمد، ما زلتُ أستطيع أن أكتب .. وما دمتم أنتم، والحمد لله، ما تزالون قادرين على أن تقرأوا فإن فرصة تحسين المجموع والحصول على درجات (المستوى الرفيع) لم تُهدر أو تضيع بعد فلننتهزها، ولننشر هذه الفكرة على أوسع نطاق ممكن بين أفراد أسرنا وأصدقائنا وأحبائنا وجيراننا وزملائنا، ولنستعد لأن نكون من الصالحين قبل أن تأتي لحظة الندم التي تصفها الآية الكريمة: ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾.
أحبتي .. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾، اللهم زحزحنا عن النار، واكتب لنا الفوز بالفردوس الأعلى من الجنة.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

https://goo.gl/k86tp6