الجمعة، 27 يناير 2023

مفاتيح للخير مغاليق للشر

 

خاطرة الجمعة /380


الجمعة 27 يناير 2023م

(مفاتيح للخير مغاليق للشر)

 

وجوهٌ شاحبةٌ تلتف حوله.. ضحكاتٌ ساخرةٌ تهزأ به.. "تمتع بالحياة يا رجل.. تعال معنا وستعرف معنى السعادة.. سهرةٌ واحدةٌ ستُنسيك كل همك.. دع حياة الانعزال هذه.. إنك تُضيِّع عمرك بلا فائدة.. لو تعرف كم نحن سعداء بما نحن فيه؟!".. ويُغريه الشيطان مع هؤلاء وسمعتهم السيئة في كل مكان.. "إذا كنتَ تريد بعض المال سنُعطيك.. خُذ هذا المبلغ لتعرف مدى حُبنا لك".. ويجد نفسه تنساق وراء إغرائهم وتزيينهم.. وتنزلق قدمه في مستنقعات رفاق السوء.. ويمضي قُدماً في مهاوي الردى.. وتتكرر السهرات الآثمة.. ويتمادى في الظُلمات، ويشعر بقلبه ينسلخ عنه الإيمان.. وتمر الأيام وهو يمضي إلى الهاوية.. ويرى أصحابه ينزلقون أكثر فأكثر.. وكلما وقعوا في مُصيبةٍ جروه إليها.. بدأ يضيق ذرعاً بهذه الحال.. جعل يبتعد عنهم شيئاً فشيئاً.. ولكن إلى أين؟!! الناس تعرف أنه منهم.. سمعته غدت في الطين.. شعر بقلبه يتفطر على ما آل إليه من الضياع.. مشى تائهاً في الطُرقات..

تلفت يميناً ويساراً.. لمح مئذنة مسجدٍ تُعانق السماء.. سمع جلجلة التكبير.. أحس بدقات قلبه تتسارع.. شعر بشيءٍ يدفعه إلى المسجد دفعاً.. لابد أن الحل هناك.. يجب أن أذهب.. ولكن.. ماذا سيقول الناس إذا رأوني هناك؟ هل يقبل الله توبتي؟ دخل المسجد ورجلاه ترتجفان.. توجه إلى مكان الوضوء.. شعر ببرد الرحمة مع المياه على جسده.. صلى مع الناس.. جلس يستمع لدرس الإمام.. أنصت لكلماته وأطرق.. ماذا أسمع؟ يا إلهي.. كان موضوع الدرس عن جريمة اللواط ورفاق السوء.. استمع إلى تلك الموعظة.. واهتز قلبه وارتجف.. انزوى جانباً وجعل يبكي.. شعر بألم الذنب والمعصية.. مرّ به رجلٌ من الصالحين.. رقّ لحاله.. "ماذا أصابك.. ما لك تبكي؟".. التفت إليه.. شعر براحةٍ وهو يتأمل قسمات وجهه الوضيء.. "حدثني عن شأنك لعلي أستطيع المساعدة".. ويبث الشاب له ما في قلبه.. ويتألم الرجل لحاله.. ويعزم على مساعدته وانتشاله من المُستنقع الذي وقع فيه.. يُرشده الشاب إلى المكان الذي يجتمع فيه أصحابه.. ينطلقا سوياً لرؤية أولئك التائهين.. يجتمع بهم الرجل ويُخبرهم بأنه لا يُريد سوى مصلحتهم ونفعهم.. ويجلس معهم ويبدأ الحديث.. تنساب كلماته لتخترق القلوب الميتة فتبعث فيها الحياة بإذن الله.. وتنشرح الصدور لكلمات الرجل.. ويشعر كلٌ منهم بأن باب التوبة مفتوحٌ.. وتنهمر الدموع على الوجنات.. وينتحب الأصدقاء لتكون فاتحة الخير للجميع!!

أحبتي في الله.. ما أثار انتباهي أكثر من توبة الشاب هو موقف ذلك الرجل الصالح الذي رآه على تلك الحال فلم يتركه وشأنه، بل اهتم بأمره وبادر إلى سؤاله عما يُبكيه، ثم لم يكتفِ بذلك بل وتألم لحاله وقام بمساعدته، ولم يقف عند ذلك الحد وإنما تحمل مسئولية إصلاح أحوال أصدقائه، فأي صنفٍ من الرجال هو؟ وأية روحٍ إيجابيةٍ يتمتع بها في زمنٍ ينأى فيه الكثيرون عن الإقدام على مثل ما أقدم عليه؟ لو لم يهتم لحال الشاب ومضى في حال سبيله لما لامه أحدٌ، لكنه آثر أن يسلك الطريق الصعب، قاصداً وجه الله سبحانه وتعالى، مُخلصاً له، ساعياً في الخير، فذاك من الذين هُم (مفاتيح للخير مغاليق للشر)، ونحسبه من المُفلحين؛ يقول تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.

 

قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيحَ الخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ]. وفي روايةٍ: [عندَ اللهِ خزائنُ الخيرِ والشرِّ، مفاتيحُها الرجالُ، فطوبَى لمنْ جعلهُ اللهُ مِفْتَاحًا للخيرِ، مِغْلَاقًا للشرِّ، وويلٌ لمنْ جعلَهُ اللهُ مِفتاحًا للشرِّ مغلاقًا للخيرِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [ألا أخبركم بخيرِكم من شرِّكم؟] فقالوا: بلى يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: [خَيْرُكُمْ مَنْ يُرْجَى خَيْرُهُ وَيُؤْمَنُ شَرُّهُ، وَشَرُّكُمْ مَنْ لَا يُرْجَى خَيْرُهُ وَلَا يُؤْمَنُ شَرُّهُ].

يقول شُراح الأحاديث إن النبي صلى الله عليه وسلم يُخبرنا بأن من الناس من يكون كالعافية لغيرهم، فإن حضر أفاد وأحسن، وإن تكلم نفع وأرشد، وإن وَجّه أخلص وصدق‏، سبّاقٌ للعمل الذي يُرضي الله جلَّ وعلا، وخصوصاً في زمنٍ كثر فيه أهل الشر والباطل وتسلطوا على أهل الخير والفضيلة، فهو مفتاحُ خيرٍ، ودلّالُ معروفٍ، وسفيرُ هِدايةٍ، ورسولُ صلاحٍ، مغلاقُ شرٍّ، ودافعُ بلاءٍ، ومانعُ نِقمةٍ، وصمامُ أمانٍ من غضب الرحمن. وبهذا يعيش المسلم في مجتمعه ينبوعاً يفيض بالخير والرحمة، ويتدفق بالنفع والبركة، يفعل الخير ويدعو إليه؛ ويبذل المعروف ويدل عليه، فهو مفتاحٌ للخير، ومغلاقٌ للشر.

 

يقول العلماء إنّ أعمال الخير التي يُمكن للمسلم أن يكون بها ممن هُم (مفاتيح للخير مغاليق للشر) لا تقتصر على تقديم المُساعدات المادية المُباشرة بالمال، لكن هناك وسائل أخرى وأشكالاً غير ماديةٍ عديدةً ومُتنوعةً، تكون في بعض الأحيان أبلغ أثراً وأعمق تأثيراً من الماديات؛ كمساعدة الناس على الحصول على وظيفةٍ أو عملٍ أو فرصةٍ للعلاج، ورفع معنوياتهم، وإسعادهم، ونُصحهم، وهدايتهم، وتسخير جهده ووقته وإمكانياته وعلاقاته لخدمة ذوي الاحتياجات الخاصة وقضاء مصالحهم.

كما أنَّ من أهمِّ مفاتيح الخير تعليمَ العلوم النَّافعة وبثَّها في النَّاس، ونشرَ العلم، والدعوةَ إلى الله، وتعليمَ الناس التوحيد، والأمرَ بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وصلة الأرحام، وإحياء السُنن المتروكة، وسنَ السُّنن الحسنة؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلاَ يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ]، وقال أيضاً: [مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا]، وقال كذلك: [فَوَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِىَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ].

 

إن طريق الخير هو طريق العز؛ وفي ذلك قال الشاعر:

طريق العزِّ مفتوحٌ       لكل الناسِ والخَلقِ

هي الأيامُ تخبرُنا        بأنَّ المجدَ كالرزقِ

فلا تُغلقهُ في وجهٍ      طموحٍ طيِّبِ العرقِ

وكُن للخيرِ مفتاحاً     ولا تعجلْ إلى الغَلقِ

 

أحبتي.. مَن منا لا يتمنى أن يكون من خير الناس الذين هُم (مفاتيح للخير مغاليق للشر)؟ كلنا نتمنى أن نكون كذلك؛ إذاً علينا بالعمل؛ يقول تعالى: ﴿وقُلِ اعْملُوا فسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ ورَسُولُهُ والمُؤمنونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿لَيْسَ بِأمَانِيِّكُمْ ولاَ أَمانِيِّ أَهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ولاَ يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا ولاَ نَصيرًا ومَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يدخُلونَ الجَنّة ولا يُظْلَمُونَ نَقيرًا﴾. وورد في الأثر عن بعض التابعين قوله: "ليس الإيمان بالتمنِّي، ولكن ما وقَر في القلب وصدّقه العمل، وإن قوماً خرجوا من الدُّنيا ولا عمل لهم، وقالوا: نحن نحسن الظَّنَّ بالله وكَذَبُوا، لو أحسنوا الظَّنّ لأحسنوا العمل".

ابدأ ولو بأبسط الأمور؛ منها: حفَّظ غيرك سورةً، فهمه آيةً، اشرح له مسألةً شرعيةً، أسمعه حديثاً دينياً، اصحبه معك إلى درسٍ مُفيدٍ، لخِّص له مُحاضرةً استفدتَ منها، اهده شريطاً عليه مادةٌ قيمةٌ، أعره كتاباً مميزاً، قدِّم له نصيحةً يحتاجها. ومنها كذلك: أغث ملهوفاً، اهدِ ضالاً، ارشد حائراً، ادعم تائباً، ساعد فقيراً، أعن محتاجاً. ومنها أيضاً: أن تكتب مقالاً، أو تُلقي محاضرةً، أو تُصمم موقعاً على شبكة الإنترنت لنشر الحق والتعريف بالإسلام، أو تُرسل للمضافين لديك على مواقع التواصل الاجتماعي مواد دينيةً مُفيدةً، أو تُصحح أخطاء اطلعتَ عليها مما يُرسل إليك من منشوراتٍ بواسطة برامج وتطبيقات الهاتف. كما أنّ منها: أن تتصدق بمالٍ، أن تقاوم بدعةً، أن تُنكر مُنكراً، أن تُطعم مسكيناً، أن تتبع جنازةً، أن تكسو عارياً، أن تعود مريضاً، أن تبني مسجداً، أن تُصلح طريقاً، أن تنصر مظلوماً، أن تُنفذ مشروعاً للخير. خلاصة القول: لا تكتفِ بأن تكون صالحاً، أدخل نفسك في دائرة المُصلحين تكن من المُفلحين الفائزين. واعلم أنك كلما أغلقتَ باباً من أبواب الشر كلما زاد رصيدك من أعمال الخير، واعلم أن [أَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ أدْومُها وإن قَلَّ] كما أخبرنا الحبيب المُصطفى.

جعلنا الله وإياكم (مفاتيح للخير مغاليق للشر)، وجعل أعمالنا خالصةً لوجهه الكريم بغير رياءٍ ولا كِبرٍ ولا سعيٍ إلى شُهرةٍ وسُمعة.

 

https://bit.ly/3HBR0x6