الجمعة، 17 يوليو 2020

رُبَ ضارةٍ نافعة

الجمعة 17 يوليو 2020م


خاطرة الجمعة /٢٤٨

(رُبَ ضارةٍ نافعة)

 

هذه قصة شابٍ يقول فيها: أنا أحب الأطفال جداً، وأحلم طول عمري بأن أتزوج وأنجب أطفالاً ألعب معهم ويلعبون معي، أحببتُ فتاةً وخطبتها، تصورتها في خيالي دائماً أماً لأطفالي، لم أتخيل -للحظة- حياتي بدونها. كنتُ أعمل في شركةٍ براتب 800 جنيه في الشهر، أخبرتني خطيبتي ذات يومٍ عن إعلانٍ لوظيفةٍ في شركة استيرادٍ وتصديرٍ براتب 1500 جنيه، انبهرتُ جداً بالمبلغ؛ فهو يقترب من ضعفي راتبي، فاستأذنت من مديري، وخرجتُ مسرعاً في طريقي إلى شركة التصدير والاستيراد، لا أحلم إلا بالحصول على الوظيفة التي أعلنوا عنها. من شدة لهفتي على الوظيفة لم أكن أنظر حولي، وكان هدفي هو الحصول على الوظيفة كي أُسعد خطيبتي وأُلبي لها كل احتياجاتها خصوصاً أنها كثيرة المطالب. أثناء ذلك، إذا بسيارةٍ تصدمني بقوة، لم أشعر بنفسي إلا وأنا على سرير المستشفى، في حالة غيبوبةٍ، جسمي كله يؤلمني. عندما بدأتُ أسترد وعيي رأيتُ فتاةً جميلةً تقف أمامي وتنظر إليّ والدموع في عينيها، سألتها: "من أنتِ؟ وأين أنا؟"، قالت: "اهدأ، وستعرف كل شيءٍ في أوانه"، صرختُ وقلتُ رجلي تؤلمني؛ فدخل الطبيب عندما سمع صراخي وأعطاني حقنةً مهدئةً، وقال لي: "اهدأ، لقد تم قطع رجلك اليُمنى بسبب قوة الاصطدام"، بكيتُ وانهارت أعصابي من هول الصدمة، وإذا بالفتاة تأتي وتجلس بجواري على السرير قائلةً لي: "آسفة.. أنا السبب"، وحكت لي كل ما حدث، وأنَّ الخطأ كان مني بسبب قطعي الطريق بغير انتباه.

سارعتُ بالاتصال بخطيبتي في الهاتف، وأخبرتها بما حدث؛ فأتت مسرعةً إلى المستشفى، وعندما رأتني في هذا الوضع صُدمت، ولم تنطق بكلمةٍ غير "آسفة، أتمنى لك الشفاء"، ثم انصرفت.

وبعد أقل من نصف ساعة وصلتني رسالةً منها على هاتفي تقول فيها: "آسفة؛ لا أستطيع إكمال المشوار معك"، أغلقت هاتفها، ثم قامت بعد ذلك بتغيير رقم الهاتف.

استمر وجودي بالمستشفى حوالي أسبوعين، والفتاة الجميلة بجواري يومياً، كانت معي لحظةً بلحظةٍ، وتعرفت على أهلي. وبعد أن سمح لي الطبيب بالخروج على كرسي عدتُ إلى منزلي. عندما دخلتُ المنزل صرختُ بأعلى صوتي وقلت: "لماذا يا رب؟ لماذا يا رب تجعل خطيبتي تتركني؟ لماذا تجعل الوظيفة تذهب مني؟ لماذا تجعلني طول عمري عاجزاً؟ لماذا يا رب؟"، وكانت دموعي تنساب من عينيّ كانسياب المطر في الشتاء.

لم يدم حزني طويلاً، خصوصاً أني لم أكن وحيداً، حيث كانت تلك الفتاة تأتي إليّ وتزورني يومياً، واليوم الذي كانت تتأخر فيه أشعر كأني يتيمٌ ووحيد.

بعد مرور شهرين عرفتُ من أحد الأصدقاء أن خطيبتي السابقة تزوجت من أحد جيرانها، وهي على خلافٍ معه يومياً لأنها تعاني من عُقمٍ، فحزنتُ عليها وعلى حالها، ولكن شكرتُ ربي وخصوصاً أني أحب الأطفال ومتعلقٌ بهم.

طوال هذه الفترة، التي دامت أكثر من 70 يوماً، كانت تلك الفتاة الجميلة تزورني باستمرار، وتُحضر معها الكثير من احتياجات ومستلزمات المنزل، تعرفت على أفراد أسرتي الذين ارتاحوا لها، وأحسوا بمدى حنانها وعطفها وسمو أخلاقها وكرمها وأصلها الطيب؛ فأحبوها وطلبوا مني أن أُلمِّح لها بفكرة الزواج، لكني كنتُ أخشى أن ترفض فأخسر أجمل ملاكٍ تعودتُ أن أراه أمام عيني. ولا أنسى أبداً ذلك اليوم عندما حضرت وكانت تقوم بعمل الشاي، وقررتُ أن ألمح لها عن موضوع الزواج، وإذا بها تسبقني بسؤالٍ هزَّ كياني كله: "هل تقبل الزواج مني؟"، ارتعش جسمي وقلتُ لها: "ماذا تقولين؟"، أعادت عليّ السؤال بدلالٍ ورجاءٍ وهي ممسكةٌ بكلتا يديّ: "هل تقبل الزواج مني؟"، قلتُ لها مختبراً صدق مشاعرها: "أنا لا أقبل الشفقة من أحد"، قالت: "واللهِ ليست شفقةً، ولكني أحببتك حقاً ولا أستطيع أن أعيش بدونك"، قلتُ لها: "ساقي المقطوعة سوف تُعجزني عن العمل"، قالت: "سوف تعمل في منصب مديرٍ في إحدى شركات والدي، وكل عملك سيكون على مكتبٍ، ولا يتطلب الحركة"، فاندهشتُ، ولم أقل -والدموع تجري من عينيّ جريان السيول- غير عبارةٍ واحدةٍ: "سامحني يا رب". صدق مَن قال: (رُبَ ضارةٍ نافعة).

أصاركم القول، لم أكن ملتزماً، ولا راضياً عن نفسي؛ كنتُ أحس دائماً بتقصيري في حقوق ربي، لكن بعدما حدث لي، خجلتُ من نفسي، وتساءلتُ: "إذا كان هذا كرم الله مع غير الملتزمين، فكيف يكون كرمه مع المتقين؟".

 

أحبتي في الله .. كانت هذه قصةً حقيقةً حدثت لشابٍ، ونشرها على بعض مواقع التواصل الاجتماعي، نقلتها لكم بتعديلاتٍ طفيفةٍ مني اقتضاها سياق القصة.

في القصة تصديقٌ للمثل المشهور (رُبَ ضارةٍ نافعة)، يُقال إن القصة الحقيقية التي ضُرب بها هذا المثل تعود إلى رجلٍ كان على متن سفينةٍ مع آخرين، فهبت عاصفةٌ قويةٌ أغرقت السفينة ولم ينجُ سوى بعض الركاب، من بينهم هذا الرجل الذي تلاعبت بجسده الأمواج حتى رمته على شاطئ جزيرةٍ نائيةٍ ومهجورةٍ. عندما أفاق من غيبوبته، سأل الله أن يُرسل له المعونة ويُنقذه من هذا الحال الصعب والأليم. وخلال تواجده في الجزيرة، أصبح يقتات على ثمار الشجر وما يصطاده من أرانب، وبنى له كوخاً من أعواد الشجر ليحميه برد الليل وحر النهار. وذات يومٍ وبينما هو يتجول حول كوخه بانتظار طعامه أن ينضج، شبَّت النار في الكوخ وما حوله فأحرقته. فأصبح يبكي بحرقةٍ ويصرخ: "حتى الكوخ احترق ولم يتبقَ لي شيءٌ، لِمَ يحدث هذا معي يا رب؟". ونام ليلته تلك وهو جائعٌ وحزين، لكنه في الصباح استيقظ على مفاجأةٍ سارةٍ للغاية، فقد اقتربت سفينةٌ من شاطئ الجزيرة وأرسلت للرجل قارباً صغيراً لتُنقذه، وعندما صعد الرجل إلى السفينة، سأل طاقمها كيف عثروا عليه، فأجابوه: "لقد رأينا دخاناً، فعرفنا أن شخصاً ما يطلب المساعدة"؛ فاحتراق كوخه كان سبباً في إنقاذه، ولولا النار لبقي في الجزيرة إلى ما شاء الله. وهكذا، أصبح هذا المثل يُضرب في الظروف السيئة لدفع الخوف والجزع، والثقة في أن لله حكمةً في تدبير الأمور، ومن بين ظلام الليل يُولد نهارٌ جديد.

يقول أهل العلم إن الإنسان ينظر إلى الظاهر ويترك الباطن، فينظر إلى آلام المخاض وينسى فرحة الميلاد، إن الذهب حينما يُستخرج خاماً لابد أن يُوضع في النار حتى يُنقى من الشوائب ويصير ذا قيمةٍ، كذلك تفعل المحن بالمسلم، قال تبارك وتعالى: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾.

ولأن (رُبَ ضارةٍ نافعة) فللمحن فوائد كثيرةٌ منها: أنها تُظهر الصديق من العدو، وتُعرِّف الإنسان محبيه من مبغضيه وقت الشدة؛ أما المحب فيقف بجانبك منصفاً، وأما المبغض فيقف وراءك شامتاً، قال الشاعر:

جَزى اللهُ الشَدائِدَ كُلَّ خَيْرٍ

عَرَفتُ بِها عَدوِّي مِنْ صَدِيقي

وفي المحن يبحث لك المحبون عن عذرٍ، والمبغضون يبحثون لك عن عثرةٍ، والمنصفون يوازنون الأمور حتى يحكموا بالعدل.

ومن فوائد المحن أنها تؤدي إلى مراجعة النفس؛ فيصحح الإنسان مساره ويقاوم عيوبه فيصبح شخصاً آخر يُقر بالحق ولا يُعاند بالباطل، فيُسلِّم بخطئه ويعترف بذنبه ويتوب إلى ربه.

ومن فوائد المحن أنها تُكفر الذنوب وتُقرب من رب العباد؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَا يَزَالُ الْبَلاَءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ]. 

ومن فوائد المحن أنها تكسر القلب لله، وتُزيل الكبر من النفس فيعود العبد ذليلاً بين يدي الله تعالى، وحينئذٍ يعود القلب قريباً من الله.

ومن فوائد المحن أن الإنسان يحب من كان سبباً في تنبيهه من غفلته؛ فلولا أن الله سخره لبقي التراب على السطح ولظل المعدن مدفوناً في الشوائب.

 

أحبتي .. صدق مَن قال: "مِن المحن تأتى المنح"، وأصدق منه مَن قال: (رُبَ ضارةٍ نافعة)؛ فعلينا بالصبر على قضاء الله وقدره، وشكره سبحانه وتعالى في السراء والضراء. شُكر الله في السراء على نعمه وآلائه، أما في الضراء فهو لتسليمنا بأن ما نراه شراً لنا هو في حقيقة الأمر خيرٌ لكننا لا ندركه؛ يقول تعالى: ﴿وَعَسى أَن تَكرَهوا شَيئًا وَهُوَ خَيرٌ لَكُم وَعَسى أَن تُحِبّوا شَيئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُم وَاللَّهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لا تَعلَمونَ﴾، ويقول في موضعٍ آخر: ﴿ما يَفعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُم إِن شَكَرتُم وَآمَنتُم﴾.

فلنرضى بالقدر خيره وشره، وهذا من أركان الإيمان؛ كما أوضح ذلك نبينا عليه الصلاة والسلام في حديثه: [أنْ تُؤْمِنَ باللَّهِ، ومَلائِكَتِهِ، وكُتُبِهِ، ورُسُلِهِ، والْيَومِ الآخِرِ، وتُؤْمِنَ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ].

وبالتسليم بقضاء الله والرضا بقدره تطمئن القلوب وتسكن الأرواح وتهدأ الجوارح؛ فتتحول المحنة إلى منحة، وتتحول المصيبة إلى فرصةٍ للاقتراب أكثر من الله سبحانه وتعالى.

اللهم اجعلنا من ﴿الَّذينَ إِذا أَصابَتهُم مُصيبَةٌ قالوا إِنّا لِلَّهِ وَإِنّا إِلَيهِ راجِعونَ﴾، فننال صلواتٍ من ربنا ورحمةً، ويكتبنا من المهتدين.

 

https://tinyurl.com/y4ctm4ct