الجمعة، 2 يونيو 2017

أهلاً رمضان/1

الجمعة 2 يونيو 2017م

خاطرة الجمعة/ ٨٦
(أهلاً رمضان)

في آخر جمعةٍ من شعبان، وبعد الصلاة، تجمع عددٌ كبيرٌ من المصلين خارج المسجد، تبادلوا التهاني فيما بينهم بمناسبة قرب حلول شهر رمضان المبارك للعام الهجري ١٤٣٨هـ.
بعضهم كانت تبدو على وجهه علامات الفرحة والاستبشار، وبعضهم كانت إمارات التجهم ظاهرةً على محياه، وبعضهم كان استقباله لهذا الشهر الكريم محايداً، لا هو فرحٌ مستبشرٌ، ولا هو عابسٌ متجهمٌ.
هكذا حال البشر مع كل حدث أو موقف، ينقسمون غالباً إلى ثلاث فرق: فرقةٌ مع، وفرقةٌ ضد، وفرقةٌ ثالثة لا هي مع ولا هي ضد، تقف في المسافة الفاصلة بين الاثنين!
هل هذه قاعدةً عامة؟ هل هي سنةٌ من سنن الحياة؟ تبدو لي كأنها كذلك؛ فقد حدثنا التاريخ عمن سارعوا بالإيمان عندما سمعوا دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام للإسلام، وحدثنا عمن اتخذوا موقف العداوة والكفر من أول لحظة، كما حدثنا عمن كانوا مترددين يؤمنون تارةً ثم يتراجعون عن إيمانهم تارةً أخرى، وأولئك الذين عادوا الدعوة في بدايتها ثم تفكروا فآمنوا، وأولئك الذين اختاروا لأنفسهم أن يكونوا من المنافقين.
لذلك علاقةٌ مباشرةٌ بظاهرة تُسمى الاستقطاب، حيث يكون الانجذاب الشديد لأحد رأيين بينهما اختلافٌ كبيرٌ أو تعارضٌ ظاهرٌ وملموس.
إنها طبيعةٌ في الإنسان تظل خاملةً حتى يُظهرها موقفٌ محفز، وكلما كان الموقف المحفز هاماً ومؤثراً كلما زادت حالة الاستقطاب ما بين من هو مع ومن هو ضد، ما بين موافقٍ ورافض، ما بين مؤيدٍ ومعارض، ما بين مستبشرٍ ومتجهم، وبين كلا الفريقين دوماً يكون المحايد.
الأمر لا يقتصر فقط على المسائل الفقهية الخلافية بل إنه ينسحب على مجالاتٍ أخرى من مجالات الحياة كالرياضة والسياسة والفكر والثقافة وغيرها.
ربما كانت هذه فطرةً فُطر الإنسان عليها؛ تأمل قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، ثم تأمل قوله تعالى في موضع آخر: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ﴾.

عوداً إلى موضوعنا الخاص باستقبال شهر رمضان، كنت تستطيع أن ترصد بين أولئك الذين كانوا يتبادلون التهاني ويقولون (أهلاً رمضان) وكانت تبدو على وجوههم علامات الفرحة والاستبشار جماعاتٍ ثلاثاً: جماعة تتحدث عن الشعائر الخاصة بالشهر الكريم وأين سيصلي كلٌ منهم التراويح وأين سيصلي التهجد ومن هو الشيخ الذي سيصلون خلفه، وكم يعتزمون أن يحفظوا من أجزاء القرآن الكريم. وجماعة تتحدث عن مسلسلات رمضان التي تتسابق القنوات الفضائية في بثها؛ فيسألون عن أسماء تلك المسلسلات وأبطالها وتكلفة إنتاجها ومواعيد بثها ويتبادلون فيما بينهم ترددات القنوات التي تقوم بالبث. وجماعة تتحدث أحاديث عادية ليس لها علاقة بالشهر الفضيل لا من قريبٍ ولا من بعيد!
كلٌ منهم يقول في نفسه أو لصاحبه (أهلاً رمضان) ولكن بطريقته الخاصة!

أحبتي في الله .. يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُـونَ﴾، ويقول عز وجل: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. يقول عز وجل: "إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به"، ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان، فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه. ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غُفر له ما تقدم من ذنبه]، ويقول: [إذا جاء رمضان فُتّحت أبواب الجنة، وغُلّقت أبواب النار، وصُفّدت الشياطين]، ويقول: [في الجنّة ثمانية أبواب، فيها باب يُسمى الريّان، لا يدخله إلا الصائمون]، كما يقول: [الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربِ، منعته الطعام والشهوات بالنهار، فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل، فشفعني فيه، فيشفعان]. 
إنه رمضان شهر الخير والبركات، شهر القرآن، نزل فيه القرآن في ليلة القدر قال المولى عز وجل: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ . لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾، حل علينا فكيف نستقبله؟ هل نقول بألسنتنا وأفواهنا (أهلاً رمضان)؟ أم نعبر عن ذلك بأعمالنا وأفعالنا؟

أحبتي .. يقول أهل العلم أن من أهم الأعمال الصالحة التي تتأكد في رمضان:
الصوم: لا شك أن الثواب الجزيل للصيام لا يكون لمن امتنع عن الطعام والشراب فقط، وإنما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه]. وقال صلى الله عليه وسلم: [الصوم جُنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق ولا يجهل، فإن سابّه أحد فليقل إني امرؤ صائم].
الصلاة: المحافظة على صلاة جميع الفروض في أوقاتها في المسجد مع جماعة المسلمين، والالتزام بالسنن الرواتب، والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالنوافل كلما أمكن ذلك. والحرص على الخشوع في الصلاة.
القيام: يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾. وقالت السيدة عائشة رضي الله عنها: "لا تدع قيام الليل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدعه، وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعداً". وصلاة التراويح وصلاة التهجد جماعةً في المسجد هي من صلوات القيام التي يحرص على أدائها المسلمون في شهر رمضان.
الصدقة: كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، كان أجود بالخير من الريح المرسلة. قال صلى الله عليه وسلم: [أفضل الصدقة صدقة في رمضان..]. للصدقة في رمضان مزية وخصوصية، ولها صور كثيرة منها: إطعام الطعام؛ قال الله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام]، ومنها كذلك تفطير الصائمين؛ قال صلى الله عليه وسلم: [من فطر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء].
الاجتهاد في قراءة القرآن: ويكون ذلك بكثرة قراءة القرآن؛ شهر رمضان هو شهر القرآن فكان جبريل يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان، فينبغي أن يكثر العبد المسلم من قراءة القرآن، وأن يبكي أو يتباكى عند تلاوة القرآن، تدبراً وفهماً وتأثراً بكلام الله عز وجل وخشوعاً وخشية؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يلج النار من بكى من خشية الله].
الجلوس في المسجد حتى تطلع الشمس: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة]، هذا في كل الأيام فكيف بأيام رمضان والأجر والثواب فيها يتضاعف أضعافاً مضاعفة؟
الاعتكاف: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام؛ فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يوماً. فالاعتكاف من العبادات التي تجمع كثيراً من الطاعات من التلاوة والصلاة والذكر والدعاء وغيرها.
العمرة في رمضان: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [عمرة في رمضان تعدل حجة]، وفي رواية [حجة معي].
تحري ليلة القدر: قال صلى الله عليه وسلم: [من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه]. وورد عن بعض السلف من الصحابة والتابعين الاغتسال والتطيب في ليالي العشر تحرياً لليلة القدر التي شرفها الله ورفع قدرها، وهي في العشر الأواخر من رمضان، وهي في الوتر من لياليه الآخرة، وأرجى الليالي ليلة السابع والعشرين. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر ما أقول؟"، قال: [قولي اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعفُ عني].
الإكثار من الذكر والدعاء والاستغفار: أيام وليالي رمضان أزمنةٌ فاضلةٌ علينا أن نغتنمها بالإكثار من الذكر والدعاء خاصةً في أوقات الإجابة ومنها: عند الإفطار فللصائم عند فطره دعوةٌ لا تُرد، وفي ثلث الليل الآخر حين ينزل ربنا تبارك وتعالى ويقول: {هل من سائلٍ فأعطيه، هل من مستغفرٍ فأغفر له}، الاستغفار بالأسحار: قال تعالى: ﴿وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾.
فلنحرص أحبتي على هذه العبادات وأعمال البر والتقوى ما استطعنا و﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾.

هذا هو رمضان الذي قال الشاعر فيه:
يَا بَاغَيَ الخَيْرِ هَذَا شَهْـرُ مَكْرُمَـةٍ
أقْبِلْ بِصِـدْقٍ جَـزَاكَ اللهُ إحْسَانَـا
أقْبِـلْ بجُـودٍ وَلاَ تَبْخَـلْ بِنَافِلـةٍ
واجْعَلْ جَبِينَكَ بِِالسَّجْـدَاتِ عِنْوَانَـا
أعْطِ الفَرَائضَ قدْراً لا تضُـرَّ بِهَـا
واصْدَعْ بِخَيْرٍ ورتِّـلْ فِيـهِ قُرْآنَـا
واحْفَظْ لِسَاناً إذَا مَا قُلتَ عَنْ لَغَـطٍ
لاَ تجْرَحِ الصَّوْمَ بالألْفَـاظِ نِسْيَانَـا

أحبتي .. إن إضاعة الوقت في غير طاعة الله هي الغفلة التي نبهنا إليها ونهانا عنها الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾.
وكم تتألم النفس ويتقطع القلب حسراتٍ على ما نراه من بعض المسلمين الذين امتلأت بهم الأرصفة والمقاهي والملاعب في ليالي رمضان الفاضلة، وكم من حرماتٍ ومعاصٍ يُجاهَر بها في ليالي رمضان المباركة، وكم يضيع من وقت رمضان الثمين في مشاهدة المسلسلات والأفلام والفوازير، فاحذروا أحبتي أن يكون من بيننا مسلمٌ غافلٌ معرضٌ عن ذكر الله عز وجل خاصةً في هذه الأيام الطيبة المباركة؛ فرمضان كسوقٍ قام ثم انفض، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر.
اللهم اجعلنا من الرابحين في شهرك الكريم.
تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وجميع أعمال الخير والبر، و(أهلاً رمضان).

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/8oTaJg