الجمعة، 21 سبتمبر 2018

يُمهِلُ ولا يُهمِل/2


الجمعة 21 سبتمبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٥٣
(يُمهِلُ ولا يُهمِل)

من القصص المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي قصة وزيرٍ ظلم امرأةً فأخذ بيتها ومزرعتها؛ فهددته أن تشكوه إلى الله، فقال مستهزئاً: "لا تنسي الثلث الأخير من الليل". فقامت تدعو عليه في الثلث الأخير من الليل؛ فابتلاه الله بحاكمٍ فوقه، أخذه وسجنه وعذبه، وكل يومٍ يخرجه ويضربه ويجلده، فمرت المرأة فرأته فشكرته على وصيته بقيامها الثلث الأخير من الليل، وقالت:
إذا جارَ الوزيرُ وكاتباه ...
وقاضي الأرضِ أجحفَ في القضاءْ
فويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ ...
لقاضي الأرضِ من قاضي السماءْ

وكتب أحدهم يقول: كنت في عزاء إحدى الأسر، وجلست أواسيهم وأصبرهم وأدعو لميتهم بالرحمة والمغفرة؛ فقام أبو الميت وجلس بجانبي، وأمسك بيدي، وقال: هذا ظلمٌ اقترفته قبل ثلاثين عاماً وما زلت أحصد عقوبته وويلاته ومصائبه إلى يومي هذا؛ فقبل ثلاثين عاماً كنت في ريعان شبابي مزهواً بقوتي، كانت لي سيارةٌ أختال بها على عباد الله. وذات يوم صادفت كلبةً معها جراؤها الصغار، فقلت في نفسي: أصدمُ إحداها؛ لأرى مدى صياح أمها ونباحها. وبالفعل صدمت جرواً منهم بسيارتي؛ فتناثرت دماؤه وأشلاؤه على أمه وهي تعوي وتصيح، وأنا أطالعها وأضحك! منذ ذلك الحين والمصائب تلاحقني دون انقطاع، وكان آخرها البارحة. أوقفت سيارتي على جانب الطريق وطلبت من ابني، ذي الثمانية عشرة عاماً، أحب وأغلى أبنائي إلى قلبي، أرى فيه زهرة شبابي وجميع أحلامي، طلبت منه أن يقطع الشارع ليصور لي بعض الأوراق، ومن شدة حبي له وحرصي عليه نزلت بنفسي ولما تأكدت من خلو الشارع من السيارات قلت له: اعبر، فإذا بسيارةٍ تمر بسرعة البرق تخطفه من أمامي، وتناثرت دماؤه على ثوبي وأنا أطالعه وأبكي وأصيح. وحينها والله تذكرت الكلبة وما فعلتُه بها قبل ثلاثين عاماً.
أحبتي في الله .. إن الله ينتقم للمظلوم ولو بعد حين؛ فهو سبحانه (يُمهِلُ ولا يُهمِل)؛ فهاهو ينتصر للحيوان من إنسانٍ ظلمه، فما بالنا نحن وقد انتشر بيننا ظلم الناس بعضهم لبعض؟! ألم نقرأ قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ﴾؟ ألم نفهم مقصود قوله سبحانه: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾؟ أم لا ننتبه إلى وعيده عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾.
إن الله سبحانه وتعالى يُمهل من عصاه، ويُملي له، فإن تاب إلى ربه ورجع وآب كان ذلك رحمةً من الله تعالى عليه، وإن استمر في طغيانه كان ذلك استدراجاً له، لكن الله لا يهمله؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ]، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.

كتب أحدهم يقول: أيها الظالم إن الله (يُمهِلُ ولا يُهمِل)، اعلم أن دعوة المظلوم مستجابةٌ لا تُرد، مسلماً كان أو كافراً؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ]، فالجزاء يأتي عاجلاً من رب العزة تبارك وتعالى، وقد أجاد من قال:
لا تظلمنَ إذا ما كنتَ مُقتدراً ...
فالظلمُ آخرُه يأتيكَ بالندمِ
نامت عيونُك والمظلومُ منتبهٌ ...
يدعو عليكَ وعينُ اللهِ لم تنمِ
فتذكر أيها الظالم: قول الله عز وجل: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدَىً﴾، وقوله تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ . وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾. وتذكر أيها الظالم الموت وسكرته وشدته، والقبر وظلمته وضيقه، والميزان ودقته، والصراط وزلته، والحشر وأحواله، والنشر وأهواله. تذكر إذا نزل بك ملك الموت ليقبض روحك، وإذا أُنزلت في القبر مع عملك وحدك، وإذا استدعاك للحساب ربُك، وإذا طال يوم القيامة وقوفك. وتذكر أيها الظالم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: [لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ]. والاقتصاص يكون يوم القيامة بأخذ حسنات الظالم وطرح سيئات المظلوم؛ قال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَلَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُن لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟]، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: [إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ].
إن الله سبحانه وتعالى (يُمهِلُ ولا يُهمِل)، ولا يحنث في وعده بنصر المظلومين والانتقام لهم ممن ظلموهم أياً كانت ملتهم، طال الزمن أم قصر، لا شيء يُنسى، ولا شيء يُترك، وكل شيءٍ محفوظٌ، صغيره قبل كبيره، وحقيره قبل عظيمه؛ فهذه سُنة الله في خلقه: ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا﴾، ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا﴾.

أحبتي .. ليتقي كلٌ منا الله سبحانه وتعالى ولا يظلم غيره .. كل واحدٍ منا معنيٌ بهذا الأمر، لا أستثني أحداً؛ فلا يجوز للرجل أن يظلم زوجته، ولا للأب أن يظلم أبناءه، ولا للأخ أن يظلم أخواته، ولا للرئيس أن يظلم مرؤوسيه، ولا للمدير أن يظلم موظفيه، ولا للمعلم أن يظلم طلابه، ولا للتاجر أن يظلم زبائنه. وبالإجمال؛ لا ينبغي لأي مسلمٍ رجلاً كان أو امرأةً أن يظلم إنساناً أو حيواناً أو طائراً، ولا أن يظلم شخصاً أياً كان دينه أو عمره أو لونه أو مكانته الاجتماعية. وليتذكر كلٌ منا أن الله سبحانه وتعالى بِعَدْلِه وقدرته (يُمهِلُ ولا يُهمِل).

اللهم لا تدعنا في غمرة، ولا تأخذنا على غرة، ولا تجعلنا من الغافلين، اللهم نسألك أن تتوب علينا، وألا تؤاخذنا بسوء أفعالنا، ولا بما يفعله السفهاء منا. اللهم جَنِّبْنا أن نكون من الظالمين، وأَنِر بصائرنا حتى لا نؤازرهم أو نبرر أفعالهم أو أن نرضى عنهم ونميل إليهم فيشملنا وعيدك: ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ﴾. وأَلزِمنا اللهم سبيل العدل واجعلنا من أهله، ومن الداعين للتمسك به ونشره. اللهم امنحْنا التقوى، وارزقنا الرشاد، واهدنا وسَدِّدْ خُطانا على طريق الحق والخير يا رب العالمين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/8mE3HV