الجمعة، 14 سبتمبر 2018

شؤم المعصية


الجمعة 14 سبتمبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٥٢
(شؤم المعصية)

صديقٌ لي، في أوسط العمر، لا يكاد يخلو لقاءٌ أو مكالمةٌ هاتفيةٌ معه من ذكر مشاكله: فالأمراض قد تكالبت عليه، وسيارته لا تنفك في حاجةٍ إلى إصلاح، علاقته مع زوجته سيئةٌ، وابنه الوحيد متأخرٌ دراسياً، عمله لا هو مرتاحٌ فيه ولا يستطيع أن يتركه، مرتبه لا يسد احتياجاته، حتى ناديه الرياضي الذي يشجعه تسببت هزائمه المتوالية في إصابته بارتفاع في الضغط ويخشى أن تصيبه جلطةٌ من نتائجه السيئة!
ذكَّرني في آخر لقاءٍ جمع بيننا بالمقولة الشهيرة لوليم شكسبير: "المصائب لا تأتي فرادى كالجواسيس، بل سرايا كالجيش!"، فقلتُ له أن شعراء العرب قالوا هذا المعنى قبل أن يُولد شكسبير؛ فقد قال المتنبي:
مَصائِبُ شَتّى جُمّعَتْ في مُصيبَةٍ
ولم يَكفِها حتى قَفَتْها مَصائِبُ
وقال الشافعي:
محنُ الزمانِ كثيرةٌ لا تنقضي
وسرورُها يأتيكِ كالأعيادِ!
وقال كذلك:
تأتي المكارهُ حين تأتي جملةً
وأرى السرورَ يجيءُ في الفلتاتِ!
ثم باغتُّه بسؤالٍ لم يتوقعه مني: "كيف ترى علاقتك باللهِ سبحانه وتعالى؟"، رد باقتضابٍ: "عادية"، لم أرغب في إحراجه أو الضغط عليه؛ فاكتفيت بالقول: "راجع علاقتك بالله سبحانه وتعالى، أصلح ما بينك وبين ربك تنصلح بإذن الله أحوالك. قال بعض السلف: إني لأعصي الله، فأرى ذلك في خُلُق دابتي وامرأتي، وها أنت تشكو من دابتك التي هي سيارتك، وتشكو من امرأتك التي هي زوجتك، فراجع نفسك وابتعد عن المعاصي والذنوب".
استأذن في الانصراف متعللاً بأن لديه موعداً قد تأخر عنه!

أحبتي في الله .. للمعاصي آثارٌ وخيمةٌ، ولها ما يُسمى (شؤم المعصية) التي أشار العلماء إلى أن من مظاهرها:
حرمان العلم؛ فإن العلم نورٌ يقذفه الله في القلب، والمعصية تُطفئ ذلك النور. وحرمان الرزق؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الرَجُلَ لَيُحْرَمُ اَلْرِزْقَ بِالْذَنْبِ يُصِيبُه]. ووحشةٌ تحصل للعاصي بينه وبين ربه، وبينه وبين الناس. وتعسير أموره عليه؛ فلا يتوجه لأمرٍ إلا ويجده مغلقاً دونه أو متعسراً عليه. كما يجد العاصي ظلمةً في قلبه، يُحس بها كما يُحس بظلمة الليل، وتقوى هذه الظلمة حتى تظهر في العين، ثم تقوى حتى تعلو الوجه، وتصير سواداً يراه كل أحد. ويُحرم الطاعة؛ إذ تنقطع عنه بالذنب طاعاتٌ كثيرةٌ، كل واحدةٍ منها خيرٌ له من الدنيا وما فيها.
والمعاصي تزرع أمثالها، ويُولِّد بعضها بعضاً، حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها. كذلك فإن المعاصي تُضعف القلب عن إرادته، فتقوى إرادة المعصية، وتضعف إرادة التوبة شيئاً فشيئاً. ثم ينسلخ من القلب استقباح المعصية فتصير له عادةً، لا يستقبح من نفسه رؤية الناس له، ولا كلامهم فيه. والذنوب إذا تكاثرت طُبِعَ على قلب صاحبها، فكان من الغافلين؛ كما في قوله تعالى: ﴿كَلّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.

والمصائب التي تصيب الإنسان هي في الغالب نتيجةٌ لمعاصيه؛ قال الله عز وجل: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾، وقال تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾.
عندما يبتعد الإنسان عن سبيل الله وعن الطريق المستقيم فإنه يُسَّلِم نفسه للشيطان يقوده إلى أوخم العواقب وهو لا يشعر؛ فيكون من الأخسرين أعمالاً الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً وأنهم مهتدون؛ يقول تعالى: ﴿الَّذينَ ضَلَّ سَعيُهُم فِي الحَياةِ الدُّنيا وَهُم يَحسَبونَ أَنَّهُم يُحسِنونَ صُنعًا﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ﴾.
يقول العلماء إن الإعراض عن ذكر الله، بعدم الالتزام بالعبادات التي أوجبها علينا وبكثرة الذنوب والمعاصي، سببٌ في معاناة الإنسان وكثرة مشاكله وشقائه؛ فالله سبحانه وتعالى يتوعد أولئك الذين يُعرضون عن ذكره بالمعيشة الضنك في الحياة الدنيا وبالعقوبة في الآخرة؛ يقول تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾.
والمعيشة الضنك تكون بأمورٍ كثيرةٍ يشعر بها العاصي في الدنيا؛ فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره؛ تجد صدره ضيِّقاً حَرَجاً لضلاله، وإن تنعَّم ظاهرُه، ولَبِسَ ما شاء وأكلَ ما شاء، وسكنَ حيث شاء؛ فإنَّ قلبه ما لم يَخْلُص إلى اليقين والهُدى فهو في قلقٍ وحيرةٍ وشَكٍّ، فلا يزال في ريبه يتردَّد، فهذا من ضَنَك المعيشة.
إن آثار المعاصي والسيئات أمرٌ مشهودٌ في القلوب والأبدان والأموال، لا ينكره ذو بصيرة؛ فإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمةً في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق. وذلك كله من (شؤم المعصية).
وفي المقابل نجد عز الطاعة في وعد الله سبحانه وتعالى من آمن به وعمل الصالحات بالحياة الطيبة في الدنيا وبحسن الجزاء في الآخرة؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾، ويقول عز وجل: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾، وفي هذا كما ذكر المفسرون وعدٌ من الله تعالى لمن عمل صالحاً بأن يحييه الله حياةً طيبةً في الدنيا، فسرها البعض بالرزق الحلال الطيب، وآخرون فسروها بالقناعة، وقال غيرهم أنها هي السعادة، والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله. إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسعةً في الرزق، وقوةً في البدن، ومحبةً في قلوب الخلق؛ إنها عز الطاعة التي أشار إليها علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله: "مَنْ أَرَادَ عِزَّاً بِلا عَشِيرَةٍ، وَهَيْبَةً بِلا سُلْطَانٍ، وَغِنىً بِلا مَالٍ، فَلْيَخْرُجْ مِنْ ذُلِّ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَى عِزِّ طَاعَتِهِ".

إنهما طريقان لا ثالث لهما، يختار الإنسان لنفسه أحدهما؛ إما طريق المعصية، وإما طريق الطاعة .. إذا اختار طريق المعصية فليحذر قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلعُسْرَى﴾، وإذا اختار طريق الطاعة فليستبشر بقوله تعالى: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِليُسْرَى﴾، وليعلم أن طريق الطاعة يبدأ بالمشقة والمكاره، لكنها ما تلبث أن تزول ويحل محلها إحساسٌ بالراحة والطمأنينة، على عكس طريق المعصية الذي يبدأ بالشهوات والملذات لكن نهايته الخسران المبين؛ يقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ]. وفي هذا المعنى يقول أحد الصالحين: "إن مشقة الطاعة تذهب ويبقى ثوابها، وإن لذة المعاصي تذهب ويبقى عقابها، فانظر أيهما تختار لنفسك". ولأن الصبر مطلوبٌ ومهمٌ فقد قيل:"‏الصبر على الطاعة أعلى مقاماً من الصبر على البلاء؛ لأن الصبر على الطاعة صبر اختيارٍ، والصبر على البلاء صبر اضطرار".

أحبتي .. المسلم الذكي يختار لنفسه طريق الطاعة ويصبر على مشقتها، وهو يعلم يقيناً أنه الطريق إلى مرضاة الله فتكون له المعيشة الطيبة في الحياة الدنيا، ويكون في الآخرة من الفائزين.
علينا أحبتي أن نراجع دائماً علاقتنا بالله سبحانه وتعالى، فنقلل من ذنوبنا وسيئات أعمالنا؛ لنبعد عن أنفسنا (شؤم المعصية)، ونزيد من طاعاتنا؛ لنضمن الفوز بثمراتها في الدنيا والآخرة؛ فهي السبيل إلى الحياة الطيبة، وهي السبيل إلى تحصيل مرضاة الرب عزَّ وجلَّ والبعد عن سخطه وغضبه والفوز برضوانه ونعيمه المقيم.

هدانا الله وإياكم للبعد عن السيئات، والمحافظة على العبادات، والتقرب إلى الله بالنوافل والأعمال الصالحة والطاعات عسى أن يتقبل الله منا ومنكم.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/BUv7Ye