الجمعة، 9 فبراير 2024

جَزَاءً وِفَاقًا

 

خاطرة الجمعة /433

الجمعة 9 فبراير 2024م

(جَزَاءً وِفَاقًا)

 

قال: لا أعرف من أين أبدأ رواية مأساتي التي أُعاني منها الآن، وعمري يُقارب السبعين عاماً؟! هل يُعيد الزمان نفسه معي فتدور الدائرة عليَّ لأشرب من نفس الكأس التي أذقتها لوالدتي من قبل خلال فترة شبابي؟!

وحتى تفهموا قصة ما أعانيه أعود بكم خمسين عاماً إلى الوراء... وقتها كنتُ شاباً في حوالي العشرين من عمري حيث فُجعت بموت والدي التاجر الكبير... ولما كنتُ ابنه الوحيد فقد وضعتُ يدي على كل ما يمتلكه من نقودٍ ذهبيةٍ وثلاثة محلاتٍ تجاريةٍ مليئةٍ بأفخر أنواع الأثاث، ووافقتني والدتي -رحمها الله– على ذلك لأنها كانت غير راغبةٍ في شيءٍ من حُطام الدنيا سوى ما يُقيم صلبها من طعامٍ وشراب.

عشتُ مع والدتي ردحاً من الزمان حتى اختارت لي زوجةً من قريباتي لمستُ فيها الطيبة وحُسن الخلق. لكن يبدو أن والدتي –رحمها الله– لم تكن تدري لطيبتها المفرطة بذلك المكر والدهاء المتمثليْن في قلب تلك الزوجة؛ فما إن وضعت ابني الأول حتى طالبتني بشراء منزلٍ خاصٍ لنا بعيداً عن والدتي، وتحججت زوجتي بأنها تريد الاستقلال بحياتها لتُحس بأنها سيدة المنزل! حاولتُ الاعتراض في البداية.. لكن تحت إلحاحها بادعاء أن والدتي تتدخل في شؤونها الخاصة، وافقتُ على بناء دارٍ جديدةٍ لنا تبعد عدة أميالٍ عن منزل والدتي.. ولم أستجب وقتها لتوسلات والدتي العجوز التي كانت في حاجةٍ إلى من يرعاها، أو يتولى شؤونها بالاستمرار معها في المنزل، وانسقتُ وراء رغبة زوجتي في الاستقلال بمنزلها! وكنتُ أتوجه لزيارة والدتي في بداية انفصالي بالمنزل الجديد بشكلٍ أُسبوعيٍ لشراء احتياجاتها من الطعام والشراب.. لكن تحت ضغط زوجتي وإلحاحها بدأتُ أقلل من زياراتي لوالدتي؛ لتصبح بشكلٍ شهريٍ نظراً لبُعد المسافة بين منزلينا في ظل عدم وجود وسائل سريعةٍ للمواصلات. أصاب والدتي المرض.. وعندما عرضتُ على زوجتي ضرورة عودتنا للحياة مع والدتي مرةً أُخرى لإعداد طعامها والإشراف على تطبيبها؛ رفضت زوجتي بحُجة أنها ليست خادمةً لوالدتي أو لغيرها، وهكذا لم أستجب لتوسلات أُمي بالبقاء إلى جوارها مُكتفياً بتوصية جيرانها على الاهتمام بحالها.. وفي أحد الأيام بلغني خبر وفاتها من أحد هؤلاء الجيران.

ومضت الأيام والسنون فنسيتُ واقعة أمي وواصلتُ الحياة السعيدة مع زوجتي وولديّ.. وبعد وفاة أُم أولادي منذ عامين أحسستُ بأنني وحيد. فاتحتُ ولديّ الاثنين في أمر الزواج من امرأةٍ أُخرى؛ فلم يوافقا، وعندما رفضتُ رأيهما عازماً على الزواج فوجئتُ بمعاملتهما تتغير تجاهي بشكلٍ لم أكن أتخيله. نسيتُ أن أذكر أنني وكلتُ أولادي في مسؤولية كل شيءٍ أمتلكه لاقتناعي بأن الموت لا مفر منه وسوف يرثون ما أملك يوماً ما.. فلا مانع من تكليفهما بإدارة المؤسسة التي أمتلكها في حياتي، وعندما لاحظتُ هذا التغيير في المعاملة منهما هددتهما بإلغاء الوكالة المقدمة، ففوجئتُ بأن معاملتهما ازدادت سوءاً لدرجة أنهما أصبحا يُقاطعاني ولا يُرسلان لي مبالغ ماليةٍ تكفي لإعالتي كما كان يفعلان من قبل. وكلما أتذكر ما كنتُ أفعله مع والدتي من قبل تتساقط الدموع من عينيّ على تكرار نفس المأساة في حياتي التي فعلتها من قبل مع والدتي -رحمها الله- وأخشى أن أموت مثل أُمي دون أن يكون أحد أولادي إلى جواري.. وما أرجوه الآن أن تتسع رحمة الله -عزَّ وجلَّ- لتشملني وتغفر خطيئتي فلا أموت وحيداً منعزلاً كما حدث مع والدتي".

 

أحبتي في الله.. هذه قصةٌ واقعيةٌ تُظهر لنا من جانبٍ عقوق الأبناء لأبيهم، كما تُظهر من جانبٍ آخر عقوق الأب لأمه وما وصل إليه من إحساسٍ بالندم بعد فوات الأوان، كما تُبين لنا عدل الله سُبحانه وتعالى إذ أن ما يُعامَل به الأب الآن من أبنائه (جزاءً وِفاقاً) لما قام به مع أمه.

تُذكرني هذه القصة بأخرى حدثت مع أُمٍ كانت جالسةً مع أبنائها تُساعدهم في واجباتهم المدرسية، وكان من بينهم طفلها الصغير الذي لم يدخل المدرسة بعد، بعد الانتهاء من الواجبات الدراسية قامت الأُم لتحضير الغداء لوالد زوجها الذي كانت له غرفةٌ منعزلةٌ في الخارج في حديقة المنزل، ذهبت إليه وقدمت له الغداء واطمأنت عليه وتأكدت أنه لا يُريد شيئاً آخر، أثناء عودتها إلى المنزل أصابها الفضول فيما كان يفعله ابنها الطفل، لاحظت الأم قبل إحضار الطعام لوالد زوجها أن ابنها كان مُمسكاً بقلم أحد إخوته ويرسم مربعاتٍ ودوائر على ورقةٍ فتجاهلت الأمر، لكنها تفاجأت بعد عودتها من عند والد زوجها أن ابنها ما يزال مُمسكاً بالقلم ويرسم؛ فاقتربت منه وسألته: "ماذا يرسم الحبيب؟"؛ فقال لها: "أرسم بيت المستقبل الذي سأسكنه أنا وزوجتي وأطفالي"، فرحت الأُم لما سمعته، لكنها لاحظت أن ابنها رسم مُربعاً منعزلاً خارج المنزل فسألته: "لِمَ هذا المربع هنا؟ ولِمَ هو منعزلٌ عن باقي المربعات والممرات في المنزل؟"، فكان وقع جوابه كالصاعقة عليها؛ إذ كان قال ببراءة الأطفال: "هذه ستكون غرفتك يا أمي عندما تكبرين"، فسألته: "وهل ستجعلني في غرفةٍ وحدي ولا أحد يؤنسني؟"، فقال لها: "لا؛ سأزورك، ولكنني سأجعلك في غرفةٍ مُنعزلةٍ مثل غرفة جدي". ما إن سمعت الأُم هذا الجواب من ابنها حتى فاضت عيناها بالدموع؛ فقامت فوراً بإعداد غرفة الجلوس في البيت ليقيم فيها والد زوجها، ونقلت غرفة الجلوس إلى الخارج، وما إن دخل والد الزوج إلى غرفته الجديدة بالمنزل حتى تفاجأ الابن لما يراه فغيّر رسم بيت المستقبل وأضاف غرفة والدته من المكان المنعزل في الحديقة إلى داخل بيته.

لقد عرفت الاُم أن الدنيا صغيرةٌ جداً، وما تفعله اليوم سوف يُفعَل مثله معها، وما فعلته مع والد زوجها سوف ترى مثله من أبنائها وبنفس الطريقة؛ فحقاً تلك الدنيا صغيرةٌ جداً ودوارةٌ، وكما تدين تُدان.

 

ورد في الأثر: "البِرُّ لا يَبْلَى، وَالِإثْمُ لَا يُنْسَى، وَالدَّيَّانُ لَا يَمُوتُ، فَكُن كَمَا شِئتَ، كَمَا تَدِينُ تُدَانُ". وقيل إنه مكتوبٌ في التوراة: "كَمَا تَدِينُ تُدَانُ، وَكَمَا تَزرَعُ تَحصُدُ"، أي: كما تَفعل يُفعل بك، وكما تُجازِي تُجازَى، أي: تُجَازَى بفعلك وبحسب ما عملت.

يقول العلماء إن عبارة "كما تدين تُدان"، وعبارة "الجزاء من جنس العمل"، تُعبران بدقةٍ عن التعبير القرآني الفريد والمتميز (جَزَاءً وِفَاقًا). يقول المفسرون أن هذا التعبير يعني جزَيْناهم جَزَاءً مُوافِقا لأعمالِهِم؛ فقد استحق أهل الكُفر عقوباتٍ فظيعةً جزاءً لهم ووفاقاً على ما عملوا من أعمالٍ سيئةٍ موصلةٍ إليها، لم يظلمهم الله، ولكن ظلموا أنفسهم؛ فتعذيبُ الله الناسَ إنما هو مَحضُ عدلٍ منه سبحانه، فلا يُعاقَب إلا من استحقَّ العقاب بجُحوده. أي: جوزوا جزاءً موافقاً لأعمالهم القبيحة التي كانوا يعملونها في الدنيا، حيث كانت أعمالهم سيئةً، فأتاهم الله بما يسوؤهم.

 

فقاعدة (جَزَاءً وِفَاقًا) فيها حكمةٌ بليغةٌ جاءت الشواهد من الكتاب والسنة دالةً على صدقها، وهي سنةٌ كونيةٌ جعلها الله سبحانه وتعالى عظةً وعبرةً للناس، وهي قاعدةٌ عظيمةٌ مطردةٌ في جميع الأحوال، وبالتأمل في الكتاب والسنة نجد شواهد ذلك؛ فقد عاقب الله تعالى المنافقين بجنس ما أذنبوا وارتكبوا؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ فعاقبهم على استهزائهم بدين الله عقاباً من جنس عملهم؛ فقال سبحانه: ﴿اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾. ويقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ، سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ يقول أهل العلم: ﴿سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ﴾ من باب المقابلة على سوء صنيعهم واستهزائهم بالمؤمنين؛ لأن الجزاء من جنس العمل. وكذلك الحدود التي شرعها الله تعالى، كان الجزاء فيها من جنس العمل؛ يقول تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي مجازاةً على صنيعهما السيء في أخذهما أموال الناس بأيديهم، فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك، والجزاء من جنس العمل. كما يظهر ذلك في أمورٍ أخرى؛ يقول تعالى: ﴿هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ لأن الجزاء من جنس العمل، فكما أحسنوا بأعمالهم أحسن الله إليهم برحمته. كما رتّب الله تعالى من الأجور والثواب على بعض الأعمال ما هو مُناسبٌ للعمل نفسه؛ ومن ذلك:

يقول تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾، ويقول أيضاً: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾، ويقول كذلك: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾. كما يقول: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾. ويقول: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا﴾.

ويقول في الحديث القُدسي: {يا عِبَادِي إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ، فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ}.

ومن السُنة الشريفة أحاديث كثيرةٌ؛ منها: قال صلى الله عليه وسلم: [ارحَمُوا مَن فِيْ الأَرضِ يَرحَمْكُمْ مَن فِي السَّمَاءِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [احفَظِ اللَّهَ يَحفَظْكَ]. كما قال: [.. مَن كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَن فَرَّجَ عَن مُسلِمٍ كُربَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنهُ بِهَا كُربَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ]. وقال أيضاً: [مَن ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَن شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيهِ]. وقال كذلك: [مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ].

وذلك من مُقتضى عدل الله عزَّ وجلَّ وحكمته؛ فمن عاقب بجنس الذنب لم يظلم، ومع ذلك فلابد من أن نذكر هنا أن وعيد الله وعقابه قد لا يقع؛ لأن الله سبحانه وتعالى عفوٌ يُحب العفو، ويصفح عمن ارتكب الذنوب والمعاصي، فلا يُعجّل له الحساب إذا تاب من ذنبه واستقام حاله.

 

قال الشاعر:

المَرءُ يُجزى بِمَا يُسديهِ مِنْ عَملٍ

للنَّاسِ مَهما تَولَّى عنهُ وامتنعا

يومًا سيلقاهُ لو طالَ الزَّمانُ بِهِ

خيرًا وشرًّا سَيَجنِي كُلَّ ما زَرعا

فاصنَعْ لِنَفسِكَ بعدَ الموتِ منزِلَةً

إنْ مَرَّ ذِكرُكَ قَالُوا ذَاكَ مَن صَنَعا

واستَنهِضِ النَّفسَ واشغِلها بفَائِدَةٍ

لَا يَبلغُ المَرءُ إلَّا ما إلَيهِ سَعَى

 

أحبتي.. قال النبي صلى الله عليه وسلم: [الكَيِّسُ مَن دان نفسَه وعمِل لما بعدَ الموتِ، والعاجِزُ مَن أتبَع نفسَه هَواها وتمنَّى على اللهِ الأمانِيَّ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [اعمَلْ ما شئتَ فإنَّك مجزِيٌّ به]؛ فليُراجع كلٌ منا أفعاله وعلاقاته، وليُسارع إلى تصحيح وتصويب ما قد يكون عليه من أخطاءٍ، ويعمل بنيةٍ خالصةٍ للتوبة من كل ذنبٍ، والعودة إلى الطريق المستقيم الذي ارتضاه لنا ربنا سبحانه وتعالى، ووجهنا إليه رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وليحمد الله أن أعطاه فرصةً للتوبة قبل أن يحين الأجل فيقول وقتها: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ فيأتي الرد حاسماً: ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾.

 

https://bit.ly/3usBKyR