الجمعة، 9 مايو 2025

لا تغضب

 

خاطرة الجمعة /498

الجمعة 9 مايو 2025م

(لا تغضب)

 

يقول الراوي: كنتُ في زيارةٍ لأحد الأصدقاء في السجن المركزي بمدينة «الرياض» قبل سنتين، وجلس معنا سجينٌ مُدانٌ بالقتل، وكانت قضيته أن شخصاً لطمه في السوق؛ فقام بسحب مُسدسه وقتله. قال لي ناصحاً: "إذا معك سلاحٌ آليٌ أو مُسدسٌ، وجاء شخصٌ ولطمك على خدك، أعطه خدك الثاني وقُل له زِدني كفاً، أما إذا لم يكن معك سلاحٌ ولطمك فتضارب أنت وهو بالأيدي والأقدام ما شئتما؛ فذلك أهون لكما؛ فإذا أنت سحبتَ السلاح في حالة الغضب، فلا تلومن إلا نفسك؛ فستجد أصابعك قد أسرعت بالضغط على الزناد، ثم تُفاجئ بأنك تحولتَ في لحظة إلى قاتل. سيكون استخدامك للسلاح وقتها سبباً في ذُلِّك، وذُل أُمك وأبيك وزوجتك وأبنائك وأهلك أجمعين، وستجد نفسك بعد لحظة الغضب مُنتظراً لصدقاتٍ من الناس حتى تأكل، وتبرعاتٍ من فاعل الخير حتى تستطيع أن تلبس، ويجعل أهلك يقبِّلون أقدام الناس حتى يُسامحوك، وتكون نتيجة ذلك أن تظل حبيس أربع جُدرانٍ لسنواتٍ قبل يأتوا بك إلى ساحةٍ واسعةٍ، يطرحونك على بطنك مُقيد اليدين والقدمين، معصوب العينين، ويقطعون رأسك بالسيف أمام الناس. ضربك بالكف ليس ذُلاً، إنما الذل يكون لحظة رقودك على بطنك، وأبوك وعائلتك ينظرون إليك، هذا أكبر ذُلٍ في حياتك، ذُلٍ أكبر كثيراً من مليون لطمة، والقصة كلها حملك السلاح، واستخدامه وقت الغضب؛ فنصيحتي لك (لا تغضب)".

 

أحبتي في الله.. يقود الغضب إلى الانفعال والتصرف دون تبصرٍ وبغير رويةٍ، وكأن العقل قد شُل؛ ما يؤدي إلى سوء العاقبة، مثلما حدث مع هذا الرجل السجين المحكوم عليه بالإعدام نتيجةً لقتله شخصاً لطمه على خده.

ويُمكن للغضب أن يؤدي إلى نتائج أُخرى؛ منها مثلاً هذه القصة المؤثرة لرجلٍ كان يُنظف سيارته الجديدة، فشاهد ابنه الصغير يُمسك بمسمارٍ ويخدش به في جانب السيارة؛ فأخذ الأب -وبغضبٍ بالغٍ- يضرب يد ابنه من دون أن يشعر بأنه كان يضربها بشدةٍ بأداةٍ حادةٍ صادف أنها كانت في يدهّ! ومع صُراخ الابن انتبه الأب مُتأخراً لما حصل منه تحت تأثير الغضب، نظر فرأي يد ابنه تنزف فأسرع باصطحابه إلى المُستشفى، وفي الطوارئ كان قرار الأطباء هو بتر أصابع يد الابن فوراً حتى لا تمتد الغرغرينا إلى باقي اليد، ولم يجد الأب بُداً من المُوافقة، وافق وقلبه يكاد يتوقف من شدة الندم. تم البتر وفقد الابن أصابع يده اليُمنى بسبب الكسور الكثيرة التي أحدثها الضرب، لم يتمالك الأب نفسه فأُجهش بالبكاء، ظل يبكي وقت لا يفيد البكاء في شيء. عاد الأب وابنه إلى المنزل، وعندما أراد الأب أن يقوم بالتغيير على الجرح نظر الابن إلى يده وسأل أباه ببراءةٍ: "متى ستنبت أصابعي يا أبي؟!"، كان للسؤال وقع الصاعقة على الأب؛ فخرج وتوجه إلى سيارته وضربها عدة مراتٍ، وجلس أمام سيارته وكله ندمٌ على ما بدر منه في لحظة غضبٍ، ثم نظر إلى المكان الذي خدشه ابنه في جانب السيارة؛ فإذا به يُفاجئ بأن ابنه كان يكتب بالمسمار "أُحبك يا أبي"!

 

ومن عواقب الغضب أن يفقد الشخص احترام الناس له، وتنزل مكانته في عيونهم؛ فهذا مُديرٌ لأحد المصانع ترك مكتبه ونزل لتفقد أحوال العمال، وخلال تجواله في المصنع لاحظ وجود شابٍ يستند إلى الحائط، ولا يقوم بأي عملٍ، استشاط المُدير غضباً حينما رأى الشاب ينظر إليه ولا يأبه لوجوده، ومما زاد في غضب المُدير أن الشاب لم يُبادر بالاعتذار أو حتى يتظاهر بالعمل؛ فاقترب منه وسأله بعصبيةٍ: "كم هو مُرتبك في الشهر؟"، كان الشاب هادئاً، ويبدو على وجهه أنه مُتفاجئ بهذا السؤال، لكنه أجاب: "500 دولار شهرياً"، لماذا تسأل يا سيدي؟"، لم يُجب المُدير، لكنه أخرج محفظته وسحب منها 500 دولار نقداً وأعطاها للشاب -بمثابة إنهاء خدمةٍ- ثم قال للشاب: "أنا أدفع للناس هنا ليعملوا، لا ليقفوا بلا عمل، الآن هذا راتبك الشهري مُقدماً، اخرج ولا تعد"، استدار الشاب وأسرع في الابتعاد عن الأنظار. نظر المُدير إلى باقي العمال -المُندهشين مما يحدث-وقال لهم بنبرة تهديدٍ: "هذا ينطبق على الكل في هذه الشركة؛ من لا يعمل نُنهي عقده في الحال"، ثم اقترب من أحد العمال وسأله: "مَن هذا الشاب الذي قُمتُ بطرده للتو؟"، فجاءه الرد الذي لم يكن يتوقعه أبداً: "ذلك الشاب يا سيدي هو عامل توصيل الطلبات ويعمل في محل البيتزا المُجاور"!

 

هذا بعض ما يجر إليه تصرف الإنسان وقت الغضب، ومع ذلك، ومع غيره من النتائج الوخيمة للغضب، فإنه وللأسف صار شائعاً بين الناس أن المُدير لا يكون مُهاباً بين الموظفين وناجحاً في إدارته إلا إذا كان من أهل الغضب والعبوس، وأن الأب لا يكون مسموع الكلمة في البيت إلا إذا كان غضوباً، وأن الزوج لا يكون قوي الشخصية مع أهله إلا إذا كان شديد الغضب.

 

يقول العُلماء إن الشريعة الإسلامية قد ذمّت الغضب ونهتْ عنه، إلا إذا كان في الحق، وأرشدتْ مَنْ يقع فيه ويصير سلوكاً مُضراً له ولغيره أن يبتعد عنه وعن أسبابه، وأن يستعين بالله تعالى ويتوكل عليه في كلِّ شؤونه، ويتخذ الإجراءاتِ المساعدةَ له على دفع الغضب؛ كالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وأن يسكتَ، ويتوضأ إذا غضب، وأن يُغَيِّرَ هيئته، وأن يتحلَّى بخُلق العفو، وألَّا يتسرع، وأن يكظم غيظه ليتمكن من التحكم في نفسه، وأن يعلم أن كلامه محسوبٌ عليه ولو في وقت الغضب، وإن وجد سبيلاً آخر مُباحاً يُساعده فلا بأس به؛ وأولاً وآخراً يدعو الله تعالى أن يقيه شرَّ ما يضرّه؛ فلا مِراء في أن الشخص إذا تصرف وهو على حال الغضب فإن تصرفه لن يكون محموداً؛ بل سيفعل ما لا تُحمد عواقبه، ويندم عليه بعد ذلك غالباً؛ لأن الغضب نارٌ تشتعل في الجسم فلا يكون الإنسان معها مُتحكِّماً في انفعالاته وتصرفاته؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَلَا وَإِنَّ الغَضَبَ جَمْرَةٌ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، أَمَا رَأَيْتُمْ إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ]، لهذه الخطورة التي يُحدثها الغضب ذمَّت الشريعة الإسلامية الغضب وحذَّرت منه ومن عواقبه؛ قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: [إِياكَ وَالْغَضَبَ، فَإِنَّ الغَضَبَ يُفْسدُ الإِيمَانَ كَمَا يُفْسِدُ الصَّبْرُ العَسَلَ]؛ فلخطورة ما يترتب على الغضب، وما قد يَؤُول صاحبه إليه، كان الغضب من حيث الأصل منهيّاً عنه شرعاً؛ لذلك حينما قال رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: [لاَ تَغْضَبْ] وردد مراراً، قال: [لاَ تَغْضَبْ]؛ فهذا يدل على أن الغضب في أصله منهيٌّ عنه شرعاً، كما يدل الحديث الشريف على أن الابتعاد عن أسباب الغضب وعدم التعرض له وسيلةٌ من وسائل اجتنابه.

إن تطبيق سياسة (لا تغضب) يتطلب وسائل تُساعد الشخص على التخلص من الغضب؛ ومن ذلك:

الابتعاد عن أسباب الغضب؛ بمحاولة التحكم في النفس وكظم الغيظ؛ يقول الله تعالى في وصف عباده المُتقين الذين يستحقون مغفرته: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ أي: المُمسكين ما في أنفسهم من الغيظ بالصبر، ولا يظهر له أثر]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إِنْفَاذِهِ؛ مَلأَ الله قَلْبَهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا]. وفي روايةٍ: [مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُؤوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ].

ومما يُساعد على تطبيق سياسة (لا تغضب) مُداومة الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم؛ فإنها تُذهب عن الإنسان كل ما يجد من ضيق النفس والغضب؛ يقول تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.

كذلك السكوت؛ فإن الإنسان إذا سكت فقد حافظ على نفسه من الغضب، وساعد نفسه على تهدئة الروع؛ ولذا أوصت السُنة بذلك؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ].

والوضوء أيضاً؛ فإن الوضوء يطفئ لهيب الغضب، ويقضي على شرارته؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ].

ومن الوسائل كذلك، ذِكر الله سُبحانه وتعالى؛ فذِكر الله يبعث في القلب خشيةً تُعين الإنسان على التأدب والتحكم في الغضب.

وأن يُغيِّر الإنسان هيئته؛ فإنَّ في ذلك عوناً له على الخروج من حالة الغضب التي هو عليها؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ، وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ].

وأيضاً التحلي بخُلُق العفو؛ فمن صارت هذه الصفة خُلُقاً من أخلاقه، صار يصفح عن زلات الناس؛ مما يجعل وقوعه في دائرة الغضب صعباً؛ لذا فقد حثت الشريعة على التحلي بالعفو؛ يقول الله تعالى عن المستحقين لمغفرته: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾.

ومن أساليب تطبيق سياسة (لا تغضب) التأني وعدم التسرع؛ فإذا غضب الإنسان فعليه ألا يقوم بردّ الفعل على الفور، وأن يمتلك نفسه، وأن يُؤجّل قراره إلى حين زوال الغضب؛ فيكون ذلك أنفع له؛ قال صلى الله عليه وسلم: [لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ].

وكذلك أن يعلم الإنسان أن الكلمة محسوبةٌ عليه ولو في وقت الغضب؛ وليتذكر أن المؤمن عليه ألا يُخرج من فمه إلا الكلام الطيب.

 

قال الشاعر:

وَلَم أَرَ فَضلاً تَمَّ إِلّا بِشيمَةٍ

وَلَم أَرَ عَقلاً صَحَّ إِلّا عَلى أَدَب

وَلَم أَرَ في الأَعداءِ حينَ خَبَرتُهُم

عَدُوّاً لِعَقلِ المَرءِ أَعدى مِنَ الغَضَب

وقال آخر:

لا تغضبنَّ وتعتذرْ

لكنْ تَحَلّمْ وادّكِرْ

غضبٌ يؤول إلى اعتذارٍ

مِنك ضَعفٌ فافتكرْ

ومع ذلك فإن هناك حالاتٍ يكون الغضب فيها مطلوباً، وهي إذا كان هذا الغضب من أجل إحقاق حقٍّ أو إبطال باطلٍ ونحو ذلك؛ فالغضب فيه قد يكون واجباً، وهو: الغضب على أهل الباطل وإنكاره عليهم بما يجوز، وقد يكون مندوباً إليه، وهو الغضب على المخطئ إذا علمتَ أن في إبداء غضبك عليه ردعاً له وباعثاً على الحق.

 

أحبتي.. يُقال إن الغضب الشديد ليس من أخلاق الرجال الكاملين، وأهل الفضائل العاقلين، وإنما يتخلق به أهل اللؤم والعجز والنقص والضعف، فيعوضون عن عجزهم بسرعة غضبهم؛ فلننأى بأنفسنا أن نكون منهم، وذلك بأن نُلزم أنفسنا بسياسة (لا تغضب)، ولا يكون ذلك إلا بأمرين: أولاً أن نتجنب أسباب الغضب، وثانياً -إذا غضبنا- أن نكظم غيظنا، ونضبط أعصابنا، ونستعيذ بالله من الشيطان الرجيم؛ يقول تعالى: ﴿وّإمَّا يّنزّغّنَّكّ مٌنّ الشَّيًطّانٌ نّزًغِ فّاسًتّعٌذً بٌاللَّهٌ إنَّهٍ سّمٌيعِ عّلٌيمِ﴾، ولنتذكر أن الله سُبحانه وتعالى قد امتدح المؤمنين الذين من صفاتهم أنهم: ﴿يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾.

اللهم اجعلنا أكثر حِلماً وأوسع صدراً، وأكثر قدرةً على ضبط النفس، واجعلنا اللهم ممن يملكون أنفسهم عند الغضب، وأعنِّا على أن نكون من عبادك الصالحين.

https://bit.ly/4d6yWt2