الجمعة، 25 نوفمبر 2016

لا تقنطوا من رحمة الله

الجمعة 25 نوفمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٥٩
(لا تقنطوا من رحمة الله)

اتصل بي هاتفياً بعد أن قرأ خاطرة الأسبوع الماضي بعنوان "تزودوا" .. قال لي أن فقرة استوقفته كثيراً في نهاية الخاطرة .. سألته عن اسمه، رد متهرباً من الإجابة: "وهل يهم الاسم؟"، قلت: "أبداً، أردت فقط أن أخاطبك باسمك، المهم أخبرني ما هي الفقرة التي استوقفتك في خاطرة الأمس؟"، قال: "تلك التي قلت فيها: {أما أحبتنا الذين ما تزال حقائبهم خاوية أو قليلة المتاع، فبادروا أعزتنا إلى توبةٍ نصوحٍ أخلصوا فيها النية وصححوا مسيرة حياتكم، ارجعوا إلى قائمة التحقق، نفذوا ما تستطيعون تنفيذه منها، فلا يعلم أحدٌ منا موعد سفره أو تاريخ رحلته!}"، قلت: "لعلك ممن تزال حقائبهم قليلة المتاع"، قال: "يا ليت حقيبتي قليلة المتاع، بل يا ليتها كانت خاوية، أنا يا سيدي ليس لدي حقيبة من الأساس!"، سألته: "أليس لديك قلب ينبض؟"، قال: "بلى"، قلت: "فذلك هو الحقيبة .. قلبك هو حقيبتك، لا تعتقد أنها خاوية؛ اتصالك بي الآن يعني أن بذرة الإيمان في قلبك صالحة للنمو"، قال معقباً: "أحمد الله أنني في أعماق قلبي أشهد وأؤمن بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"، قلت: "هذه بداية طيبة، علينا أن نعبر عنها بالعمل"، قاطعني قائلاً: "هذه هي المشكلة: {العمل}، ما يؤلمني أن كثيراً من أعمالي سيئة"، وبصوتٍ أحسست الصدق في نبراته قال: "لن أقول لك كما يقول غيري: {الشيطان شاطر}، لكني أعترف لك بأني كنت أختار العمل السئ عن عمدٍ أستمتع وأتلذذ به"، قلت له: "وما الذي جعلك الآن تفكر في التغيير وترك ما كنت عليه من مُتعٍ وملذات؟"، قال: "شئٌ ما في داخلي طالما قال لي أنني أسير في الطريق الخطأ، لكني كنت أتجاهله حتى خَفَتَ وصار همساً، ثم إن الهمس بدأ هو الآخر يخفت شيئاً فشيئاً، إلى أن قرأت خاطرتك فراودني شعورٌ بأنها ربما تكون الفرصة الأخيرة لي لتوبةٍ نصوح، لكن لا أدري هل يقبل الله توبتي بعد كل ما فعلت؟"، رددت بحسم: "إن الله غفورٌ رحيم"، وقلت له: "ألم تقرأ قول الله عز وجل: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾؟"، سكت برهة ثم أجاب: "للأسف لم أقرأ القرآن الكريم ولا مرة واحدة في حياتي"، قلت مخففاً عنه: " كذلك كنا من قبل فَمَنَّ الله علينا، فأنت لست وحدك مَن عَبَرَ هذا الطريق من الظلمات إلى النور"، قال وكأنه وجد ضالته: "تماماً، هذا هو ما أبحث عنه: {طريق النور}، هذا هو الذي أرغب في السير فيه، كفاني ما عشت في الظلمات"، قلت ملاطفاً: "أعاذنا الله من الظلمات وجعلنا من أهل النور".
استمرت المكالمة الهاتفية مع هذا الشخص، الذي لا أعرفه، فيها من الوضوح والصدق والرغبة في التطهر ما لم أُحسه أو ألمسه في غيره، وكانت الآية التي أَثَّرَت فيه كثيراً طوال هذه المكالمة (لا تقنطوا من رحمة الله)، قال لي أنه يُحس أن هذه الآية تخاطبه هو شخصياً، وأنها قد أيقظت ذلك الشئ في داخله الذي كان دوماً يحدثه بأنه يسير في الطريق الخطأ.

أحبتي في الله .. كثيرٌ ممن يعيشون معنا في محيط الأسرة أو الجيرة أو العمل ما زالوا في طريق الظلمات يحتاجون إلى من يأخذ بأيديهم إلى طريق النور .. يزين لهم الشيطان أعمالهم، فإذا أرادوا التوبة والعودة إلى طريق الحق والاستقامة وسوس لهم الشيطان أن الله لن يقبل توبتهم بعد كل ما فعلوه من سيئات واقترفوه من آثام .. هؤلاء يحتاجون إلى من يذكرهم بأرجى آية في كتاب الله: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ .. يقول العلماء أن فيها نَهْيٌ عن القنوط من رحمة الله تعالى، وإنْ عَظُمَت الذنوب وكثرت، فلا يَحِلُّ لأحدٍ أن يقنط من رحمة الله وإن عَظُمَت ذنوبه. والقنوط هو اليَأْس، واليَأْس نقيض الرجاء،
أمرنا الله عز وجل بعدم اليأس من روحه ووصف من يفعل ذلك بأنه من القوم الكافرين؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾، ووصف مَن يقنط مِن رحمته بأنه من الضالين؛ قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾.
 القنوط يكون بأن يعتقد أحدنا أن الله لن يغفر له، وأنه إذا تاب لن يقبل الله توبته ويمحو ذنوبه، رغم أن الله سبحانه أخبرنا أنه يقبل التوبة؛ قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾، وقال إن الاستغفار من الذنوب يوجب المغفرة والرحمة؛ قال عز وجل: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، ثم وصف نفسه في كتابه الكريم بالقول: ﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾، وبالقول: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾.
ما أكرمك يا الله، طلبتَ من نبيك المصطفى عليه الصلاة والسلام أن يُنبئ عبادك بأنك أنت الغفور الرحيم؛ فقلتَ: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، وأكدتَ على أن رحمتك وسعت كل شئ؛ بقولك: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾، حتى مع ظلم الناس تفضلتَ عليهم بالمغفرة؛ فقلتَ: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾، تغفر كل شيء إلا أن يُشرك بك: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾.

أحبتي .. (لا تقنطوا من رحمة الله).. كلنا مقصرون .. وجميعنا مذنبون .. ليس منا من لم يظلم نفسه .. فماذا نحن فاعلون يا تُرى؟ حدد لنا عز وجل الطريق وبيَّن السبيل بالاستغفار وعدم الإصرار على المعصية، ووعدنا سبحانه بالمغفرة والجنة في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾.
ومن كرم المولى عز وجل ورحمته أنه ألزم نفسه ليس فقط بأن يغفر لنا، بل بأن يبدل سيئاتنا حسنات، شرط أن نُتبع التوبة بالإيمان والعمل الصالح، فهل هناك كرمٌ ورحمةٌ أكثر من ذلك؟ قال تعالى: ﴿إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً﴾، وفي الحديث القدسي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتَني ورجوتَني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغَتْ ذنوبك عَنَان السماء، ثم استغفرتَني غفرْتُ لك، يا ابن آدم، لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتَني لا تشركُ بي شيئًا لأتيتُك بقرابها مغفرة]، وقال عليه الصلاة والسلام: [لَوْ أَخْطَأْتُمْ حَتَّى تَبْلُغَ خَطَايَاكُمُ السَّمَاءَ ثُمَّ تُبْتُمْ لَتَابَ عَلَيْكُمْ]، أي كرمٍ ورحمةٍ أكثر من ذلك؟ وأي توبةٍ أوسع من ذلك؟.
أحبتي .. كثيرٌ منا، وأنا منهم، خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فإذا اعترفوا بذنوبهم شملهم الله بغفرانه ورحمته؛ قال تعالى: ﴿وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآَخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، فاللهم تُب علينا وأنت الغفور الرحيم.
هلم أحبتي إلى التوبة و(لا تقنطوا من رحمة الله)، وليكن لسان حالنا كما قال الشاعر:
إلهي أتيتُ بصدقِ الحنين .. يناجيكَ بالتوبِ قلبٌ حزين
إلهي أتيتكَ في أضلعي ... إلى ساحةِ العفوِ شوقٌ دفين
إلهي أتيتُ لكم تائباً ....... فألحق طريحَكَ في التائبين
أعنه على نفسهِ والهوى ..... فإن لم تُعنه فمَن ذا يُعين
أتيتُ وما لي سوى بابِكم ... فرحماكَ يا ربِ بالمذنبين

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/toShZV