الجمعة، 24 مارس 2023

بركات رمضان

 خاطرة الجمعة /388

الجمعة 24 مارس 2023م

(بركات رمضان)

عنوان هذه الخاطرة ليس -كما يبدو لأول وهلةٍ- اسماً لشخص! وإنما هو صفةٌ لشهر رمضان المبارك الذي تتجلى بركاته على المسلمين في كل عامٍ فتُغيّر أحوالهم من حالٍ إلى حالٍ أفضل؛ فهذا شابٌ كان قد دخل عليه شهر رمضان وهو مقيمٌ على كثيرٍ من الذنوب والآثام؛ نظرٌ للمحارم، أكلٌ للحرام، تضييعٌ للصلوات، تفريطٌ للطاعات، وغفلةٌ عن عبادة ربه ومولاه. استقبل شهر رمضان وفي قلبه قسوةٌ، وفي نفسه وحشةٌ، يعيش في ضيقٍ وهمومٍ مما يُخالطه من المعاصي والآثام، لكن (بركات رمضان) كانت في انتظاره! فقد أدركته رحمة ربه فسمع أنّ لله في كل ليلةٍ من ليالي رمضان عتقاء من النار؛ فتحركت مشاعر التوبة في نفسه، وعلم أنّ ربه يغفر الذنوب، ويستر العيوب، ويُقيل العثرات، ويمحو السيئات، و[أنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ باللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِهَا]، وأنه [إذا كان ثُلُثُ الليلِ أو شَطْرُه يَنزِلُ اللهُ إلى سَماءِ الدُنيا فيقولُ هل مِنْ سائلٍ فأُعطيَه؟ هل مِنْ داعٍ فأستجيبَ له؟ هل مِنْ تائبٍ فأتوبَ عليه؟ هل مِنْ مستغفِرٍ فأغفرَ له؟ حتى يَطْلُعَ الفجرَ].

أعلنها الشاب العاصي توبةً نصوحاً لله، بكى بين يدي ربه ومولاه، أقلع عن ذنبه، واستغفر ربه وناجاه فقال: "ربِ إنْ عظمتْ ذنوبي كثرةً فلقد علمتُ بأنّ جودك أعظمُ، وإنْ كان لا يرجوك إلا مُحسنٌ فبمن يلوذ ويستجير المذنب؟ ومَن الذي أدعو وأهتف باسمه إن كان بابك عن فقيرٍ يوصد؟ حاشى لجودك أن تُقنط عاصياً، الجود أجزلُ والمواهب أوسع"; فإذا به يجد راحةً وانشراحاً ولذةً، يبكي لقراءة القرآن، يتلذذ بالقيام، يسعد بالصيام سعادةً ما عهدها من قبل، همومٌ زالت عنه وحلّ محلها رجاءٌ في رحمة الله وعفوه ومغفرته.

 

وهذا رجلٌ طاعنٌ في السن قد احدودب ظهره، وشاب شعر رأسه ولحيته، وبلغ من الكبَر عِتياً، كان من أهل المسجد، بل وكان من أهل الصف الأول، مكانه في الصف الأول معلومٌ، كان له مُصحفٌ خاصٌ به يقرأ فيه. كان إذا دخل شهر رمضان يذهب إلى مسجد حيه ويجلس في مكانه في الصف الأول ثم ينشر مُصحفه بين يديه، يُرتل القرآن من بعد صلاة الظهر وحتى يؤذن المؤذن لصلاة المغرب، كم من ختمةٍ ختمها في ذلك المسجد؟ كم من آياتٍ رتّلها بشفتيه ولسانه؟ عاش مع القرآن في شهر رمضان لأنه يعلم أن شهر رمضان هو الشهر الذي أُنزل فيه القرآن، وهو يعلم أن [الصيامُ والقرآنُ يشفعانِ للعبدِ يومَ القيامَةِ، يقولُ الصيامُ: أي ربِّ إِنَّي منعْتُهُ الطعامَ والشهواتِ بالنهارِ فشفِّعْنِي فيه، يقولُ القرآنُ ربِّ منعتُهُ النومَ بالليلِ فشفعني فيه، فيَشْفَعانِ] فيدخل الجنة. كان من أهل القرآن الذين يعلمون أن رسولهم صلى الله عليه وسلم كان يختم القرآن مع جبريل، ويعلمون أنه [يقالُ لصاحِبِ القرآنِ اقرَأ وارقَ ورتِّل كما كُنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلتَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها]. وفي رمضان المُنصرم، وبعد مُرور عشرين يوماً من أيامه، ذهب ذلك الرجل إلى مسجده لصلاة الظهر، ولما صلى الظهر مع المُصلين أخبر مؤذن المسجد بأنه سيُسافر بعد صلاة العصر إلى «مكة المكرمة» ليقضي ليالي العشر الأواخر بالبيت الحرام، وأن ابنه سيُقابله في الحرم. وجلس يُرتل القرآن إلى وقت صلاة العصر، وما إن أذّن المؤذن لصلاة العصر إلا وخرج ذلك الشيخ ليُجدد الوضوء، لكنه أبطأ عن المُصلين، أُقيمت الصلاة ثم انتهت والرجل لم يعد لمكانه، خرج المؤذن ومعه حارس المسجد ليتفقدوا الرجل ويبحثوا عنه فوجدوه قد مات وهو يستعد للوضوء للصلاة. فما أحسنها من ميتةٍ؛ كانت بلا شك من (بركات رمضان).

 

أحبتي في الله.. إنّ رمضان شهرٌ مبارك؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ: [أَتَاكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مِرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ]. وفي روايةٍ: [إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أبْوَابُ الجَنَّةِ، وغُلِّقَتْ أبْوَابُ جَهَنَّمَ، وسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ].

يقول أهل العلم إنّ من أهم (بركات رمضان) أنْ اختصه الله -جلَّ جلاله- وأعلى منزلته بين الشهور بأن فرض صيامه؛ يقول تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه﴾. وصومه ركنٌ من أركان الإسلام؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [بُنِيَ الإسْلَامُ علَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، وإقَامِ الصَّلَاةِ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ، والحَجِّ، وصَوْمِ رَمَضَانَ]. كما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد بشّر من يصومه بمغفرة الذنوب؛ فقال: [مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ]. ومن أعظم بركات هذا الشهر أنه الشهر الذي أُنزل فيه القرآن على نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ يقول تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾. ومن (بركات رمضان) أنه شهرٌ تتجلى فيه عبادةٌ عظيمةٌ هي تفطير الصائمين؛ قال صلى الله عليه وسلم مُبشراً أمته: [مَن فطَّرَ صائمًا كانَ لَهُ مثلُ أجرِهِ، غيرَ أنَّهُ لا ينقُصُ من أجرِ الصَّائمِ شيئًا]. ومن بركاته أيضاً تناول السحور؛ قال صلى الله عليه وسلم: [تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً]. ومن بركاته كذلك أنّ أيامه ولياليه كلها مباركةٌ، وأفضل أيامه ولياليه العشر الأواخر منه، وأعظم تلك الليالي بركةً الليلة التي أُنزل فيها القرآن، وهي ليلةٌ خيرٌ من ألف شهرٍ، إنها ليلة القدر؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ . لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ﴾.

إنّ رمضان فرصةٌ سنويةٌ لتذكير الناس بما يجب أن يكونوا عليه؛ فهو نموذجٌ ربانيٌ يُعلمنا قيم التوافق والتسامح وتحمل المسؤولية الاجتماعية وصلة الأرحام والمبادرة إلى الخير، وعلى الناس -إذا أرادوا أنْ ينصلح حالهم وحال أمتهم- أن يلتزموا هذه القيم باقي شهور العام.

 

أحبتي.. أنعم الله علينا أن بلّغنا رمضان، فلنصمه إيماناً واحتساباً حتى تشملنا (بركات رمضان)؛ فتغشانا رحمة الله، ويمُّن علينا بعفوه ومغفرته ورضاه.

اللهم إنا نسألك أن تُعيننا على ذِكرك وشكرك وحُسن عبادتك، خاصةً في شهر رمضان الفضيل، وأن تتقبل طاعاتنا قبولاً حسناً وتجزينا خير الجزاء.

https://bit.ly/42GeOZl