الجمعة، 21 أبريل 2023

تكبيرات العيد

 خاطرة الجمعة /392

الجمعة 21 إبريل 2023م

(تكبيرات العيد)

كتب يقول: أُحب ليلة العيد وصباحه، وبعد ذلك أفقد الإحساس به؛ فيتشابه معه عندي مع بقية الأيام، وما أكثر ما قضيتُ العيد خارج «مصر» خلال زياراتي لعديدٍ من دول العالم، لكني وجدتُ نفسي ذات ليلة عيدٍ في أبعد مكانٍ عن بيتي وأُسرتي وبلدي، في «هلسنكي» عاصمة «فنلندا»، في أقصى الطرف الشمالي من الكُرة الأرضية. وليلة العيد في «هلسنكي» ذكرتني بصباح أول أيام عيد الأضحى في «لندن» الذي تصادف أن شهدته هناك أكثر من مرةٍ، فلقد رغبتُ في أن أُصلي العيد في المسجد الكبير بشارع «بارك رود» واتفقتُ مع صديقٍ لي على أن يوقظني بالهاتف في موعدٍ مُناسبٍ لكي نلتقي فيه، لكن صديقي لم يتصل بي، ونهضتُ في الثامنة صباحاً؛ فاكتأبتُ لفوات صلاة العيد وسماع تكبيراته التي أتفاءل بها، واتصلتُ بصديقي مُعاتباً، وجاءني صوته ضاحكاً: "ولا يهمك؛ تستطيع أن تُصلي العيد في مسجد «بارك رود» حتى الساعة الثانية بعد الظُهر، فالمسجد لا يستوعب أعداد الراغبين في الصلاة؛ لهذا يُضطر إمام المسجد إلى أن يُكرر صلاة العيد خمس أو ست مراتٍ بنفس مراسمها لكي يستطيع الجميع الصلاة.

سعدتُ بذلك كثيراً، وأسرعتُ بالخروج، وركبتُ سيارة أُجرةٍ وأنا مُبتهجٌ، وأنزلني السائق الإنجليزي بالقُرب من المسجد فأعطيته خمسة جُنيهاتٍ بقشيشاً فرح بها كثيراً وسألني: "ما المناسبة؟"، فأجبته: "عيد الأضحى عند المسلمين"، فضحك وسألني: "كم عيداً عندكم؟"، فأجبته: "اثنان فقط: عيد الفطر، وعيد الأضحى"، فقال: "يا خُسارة؛ تمنيتُ لو كان لديكم عشرون عيداً"، وضحكنا معاً. اقتربتُ من أسوار المسجد الخارجية فرأيتُ زحاماً كزحام يوم الحشر، رغم أن الساعة كانت تقترب من الثانية عشرة ظُهراً، وشققتُ طريقي وسط الزحام، فأعطاني أكثر من شخصٍ قُصاصةً صغيرةً، نظرتُ فيها فوجدتها تحمل صيغة تكبيرات العيد بالحروف اللاتينية، وجلستُ بين مُصلين أوروبيين ومن «إفريقيا» و«الهند» و«باكستان» وكل أنحاء الأرض، يُمسك كلٌ منهم بمثل هذه القُصاصة ويُردد منها التكبيرات، ولاحظ بعضهم أني أُرددها من الذاكرة؛ فنظروا إليّ بإكبارٍ كأني حُجة الإسلام أبو حامد الغزالي، أو سُلطان العلماء العز بن عبد السلام! وانتهت الصلاة وخرجنا، وعلى باب المسجد توادعنا، وسعى كلٌ منا في الأرض وقد استزاد زاداً روحياً جميلاً يجعل الإنسان أكثر رغبةً في أن يكف أذاه عن الآخرين، وأكثر فهماً لآلامهم، وأكثر استعداداً لمعاونتهم على أمورهم، وأكثر حُباً في خدمة الحياة والإضافة إليها وإعلاء مُثُلها العُليا، واحترام القيم الأخلاقية، والالتزام بها لينال سعادة الأرض ونعيم الآخرة.

ويا ليلة العيد في «هلسنكي» آنستينا وقلّبتِ علينا الذكريات والمباهج والأحزان!

 

أحبتي في الله.. كنتُ قد ذكرتُ قصةً مشابهةً تماماً عاينتها بنفسي وقت صلاة عيد الأضحى في أحد مساجد ولاية «نيوجرسي» في «الولايات المتحدة الأمريكية»، ونشرتها بالعدد رقم ٣٥٢ من خواطر الجمعة بتاريخ ١٥ يوليو ٢٠٢٢م تحت عنوان: "حُسن التصرف".

أما ما استوقفني في قصة اليوم فهو ما أشار إليه صاحب القصة من تفاؤله بسماع (تكبيرات العيد)؛ حيث أنّ لها وقعاً خاصاً في نفوسنا نحن الكبار، ووقعها في نفوس الأطفال أكبر؛ فهو يبقى محفوراً في ذاكرتهم طوال العمر.

وعن ذلك كتب أحدهم يقول: إحساسٌ مملوءٌ بالجمال يعترينا عند سماع (تكبيرات العيد)، شيءٌ من السعادة والأمل، ممزوجٌ بالارتقاء إلى أعلى، ذلك أنّ لها مشاعر بنكهةٍ خاصةٍ يشعر بها السامع لها في صباحات العيد المُفعمة بالمودة والمحبة مع الأقارب والجيران، حتى ولكأنها تحمل طاقةً تبثها في السامعين.

 

وعن قصة (تكبيرات العيد) قال أحد العلماء: عندما همّ سيدنا إبراهيم بذبح ابنه سيدنا إسماعيل ووضع السكين على عُنقه ليذبحه، لم يكن يعلم بمشيئة الله، وعندها جعل سيدنا إبراهيم وجه سيدنا إسماعيل للأرض؛ خشية أن يرى عينيه فيصعب عليه تنفيذ أمر الله، فقد كان ذلك أعظم ابتلاءٍ يبتلي به الله إنساناً. وعندما بدأ سيدنا إبراهيم بنحر سيدنا إسماعيل وبدأ بتحريك السكين بكل قوةٍ لنحر ابنه إسماعيل، فإذا بالسكين لا تقطع مع أنها حادةٌ كالسيف؛ فقد أمرها الله عزَّ وجلَّ بألا تقطع، وسمعا حينها صوت جبريل عليه السلام مُجلجلاً جميلاً قادماً من السماء وهو يحمل كبش الفداء، ويقول: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر"، هنا رفع سيدنا إبراهيم رأسه وقال: "لا إله إلا الله"، كرر سيدنا جبريل عليه السلام قوله: "الله أكبر الله أكبر"، هنا رفع سيدنا إسماعيل رأسه قائلاً: "ولله الحمد". هذه العبارات تُحيي في الأذهان ذكرى نجاح إبراهيم وابنه إسماعيل -عليهما السلام- في الامتحان الكبير، وهو الانتصار على النفس، وتُعطي العبرة لكلِّ المسلمين، بأن الخير -كل الخير- في الاستجابة لأوامر الله سُبحانه وتعالى.

 

وتروي الآيات هذا المشهد العظيم في تسع آياتٍ مُحكماتٍ، فيقول تعالى: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ . فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَر سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ . فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ . وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ . وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ . وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ . سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ . كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾.

 

يقول أهل العلم إن التّكبير لغةً: هو التعظيم، والمُراد به في (تكبيرات العيد) تعظيمٌ الله عزَّ وجلَّ، والشهادة بوحدانيته؛ لذلك شُرع التكبير في الصلاة لإبطال السجود لغير الله، وشُرع التكبير عند نحر البُدْن في الحج لإبطال ما كانوا يتقربون به إلى أصنامهم، وكذلك شُرع التكبير عند انتهاء الصيام بقوله تعالى: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾؛ لذلك مضت السُّنَّة بأن يُكبِّر المسلمون عند الخروج إلى صلاة العيد، ويُكبِّر الإمام في خطبة العيد وفي صلاة العيد. والتكبير في العيدين سُنَّةٌ يقول تعالى بعد آيات الصيام: ﴿وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ علَى مَا هَدَاكُمْ﴾، وحُمِل التكبير في الآية على تكبير عيد الفطر. ويقول سُبحانه في آيات الحج: ﴿وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ ويقول أيضاً: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ علَى مَا رَزَقَهُمْ مِن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ﴾، ويقول تعالى: ﴿كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ علَى مَا هَدَاكُمْ﴾.

 

و(تكبيرات العيد) لم يرد شيءٌ بخصوصها في السُنة المطهرة، ولكن درج البعض على التكبير بصيغة: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد". والأمر فيه سعةٌ؛ لأن النص الوارد في ذلك -كما يقول العلماء- مطلقٌ، وهو قوله تعالى: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾، والْمُطْلَقُ يُؤْخَذُ على إطلاقه حتى يأتي ما يُقيده في الشرع، لذا فليس من البدعة التكبير بصيغة: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسُبحان الله بكرةً وأصيلاً، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزّ جُنده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون، اللهم صلِ على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أنصار سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمد، وسلِّم تسليماً كثيراً". وهي صيغةٌ شرعيةٌ صحيحةٌ؛ قال عنها الإمام الشافعي: "وإن كُبِّر على ما يُكبر عليه الناس اليوم فحسنٌ، وإن زاد تكبيراً فحسنٌ، وما زاد مع هذا من ذِكر الله أحببتُه".

 

أحبتي.. ليكن العيد فرصةً لنشر الحب والمودة والصفح والسماح والتصالح، وفرصةً لصلة الأرحام، وفرصةً للتواصل مع الأهل والجيران والأصدقاء. لنترك خلافاتنا وراء ظهورنا، ونُطهِّر نفوسنا ونعمل على إشاعة السعادة والبهجة في حياتنا. وليكن العيد فرصةً للاهتمام بالفقراء والمساكين، والعناية باليتامى، والسؤال عن المرضى، إن لم يكن بتقديم الصدقات والهدايا فليكن على الأقل بالسؤال عن أحوالهم وقضاء مصالحهم والتبسم في وجوههم وإدخال السرور على نفوسهم؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [أَحَبُّ الناسِ إلى اللهِ أنفعُهم للناسِ، وأَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سرورٌ تُدخِلُه على مسلمٍ].

اللهم تقبّل صيامنا وصلاتنا وقيامنا وزكاتنا ودعاءنا وسائر طاعاتنا. اللهم اختم لنا شهر رمضان برضوانك، والنجاة من نيرانك، اجعلنا فيه من المقبولين، ومن النار معتوقين. اللهم اجعلنا ممن شملتهم الرحمة، وعمتهم المغفرة وحازوا العتق من النار. اللهم لا تجعل رمضان هذا آخر عهدنا بشهرك الكريم، وأعده علينا أعواماً عديدة، وأزمنةً مديدة، ونحن في صحةٍ وعافيةٍ وحياةٍ سعيدة، واجعلنا فيه من المرحومين، ولا تجعلنا فيه من المحرومين. اللهم لا تجعله آخر عهدنا بالصيام والقيام والقرآن، واجعله شاهداً لنا لا علينا يا أرحم الراحمين.

https://bit.ly/3LlIsw0