الجمعة، 15 يوليو 2016

العبادة الصامتة


15 يوليو‏، 2016م
خاطرة الجمعة /٤٠

 (العبادة الصامتة)

ما أجمل لحظات ما بعد الفجر .. لحظات الشروق .. عندما تنظر إلى السماء وتطيل النظر إذا بسواد الليل ينسحب بالتدريج ليحل محله بياض النهار .. تترك الظلمة مكانها بهدوء ليعم ضوء النهار وجه الأرض ويكسوها نوراً .. وما بين السواد والبياض درجاتٌ وألوان .. يشدك اللون الأحمر وهو يتوسط هذين اللونين .. كأنه وسيطٌ بينهما .. يتسلم الأمانة من اللون الأسود ويسلمها إلى اللون الأبيض .. لوحةُ بكورٍ قبل الضحى خلابةٌ ساحرة .. تتكرر كل يوم .. كثيرٌ من الناس يحرمون أنفسهم من رؤيتها ..
وما أروع لحظات ما قبل الغروب .. لحظات الشفق .. وأنت ترى الشمس في الأفق وقد تحول لونها من الأصفر المتوهج إلى الأحمر المشوب بالبياض .. وتأتي لحظات الغسق حيث تلملم الشمس أشعتها وتقل حرارتها ويخفت ضياؤها وتستعد لمغادرة المشهد الذي نراه كل يوم .. يغادر اللون الأبيض رويداً رويداً ليدخل اللون الأسود ويتحول إلى عتمةٍ تغطي سماء الليل شيئاً فشيئاً .. هادئاً صامتاً كأنما يمشي على أطراف أصابعه .. مصحوباً بدرجاتٍ متفاوتةٍ من اللون الفضي الجميل لنورٍ يغزله القمر غزلاً .. ويستمر على هذا الحال إلى وقت السحر حين يستعد الكون كله لاستقبال صباحِ يومٍ جديد.
سبحان الله .. ثم سبحان الله .. ثم سبحان الله .. جمالٌ ما بعده جمال .. ولوحتان إحداهما في الصباح والأخرى في المساء .. ما أروعهما .. لوحتان لا تخلوان من لمساتِ جمالٍ تشبعُ الأنظار وتغذي الوجدان وتريح القلوب وتُبهج النفوس.
إنها معجزةُ النهار والليل، معجزةُ الشمس والقمر، وتتابعهما، معجزةٌ إلهيةٌ لو تَفَكَّرَ فيها الإنسان لاهتدى من تلقاء نفسه إلى أن من خلق الشمس والقمر وأوجد النهار والليل هو الإله الواحد الأحد المستحق للعبادة وحده دون سواه .. أولم يكن هذا ما خطر على قلب أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام حينما نظر إلى السماء متفكراً في ملكوت الله سبحانه وتعالى؟ قال تعالى:  ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾.
الليل والنهار من سنن الله خلقها سبحانه وتعالى وسخرها لخدمة البشر .. لم تتعطل يوماً منذ أن خلق الله الكون .. ولن تتوقف يوماً إلى أن يشاء الله أمراً كان مفعولاً.
انظر يا رعاك الله إلى دقة الوصف القرآني المحكم للغشيان والتجلي: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى*وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾، وانظر إلى روعة وصف الشمس والقمر وهما "يَسْبَحان" في هذا الفضاء الهائل وهذا الكون العظيم: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾، وانظر إلى هذا النظام الدقيق المبهر: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾، وكل ذلك بحساب: ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾، ثم انظر إلى إظلام الليل وهو يلحق بالنهار سريعاً: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً﴾.
إنها من آيات الله عز وجل: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾، قال سبحانه: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ﴾، أوجدهما من عدم ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾، وهما رحمة من الله جل وعلا ﴿وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ لماذا؟ ﴿لِتَسْكُنُوا فِيه..﴾ أي: في الليل، ﴿وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ﴾ أي: في النهار.
أقسم بهما عز وجل:﴿وَالضُّحَى*وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾، وأوضح الحكمة من خلقهما وهي تبَيَّنَ الحق ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾، وابتغاء فضل الله، ومعرفة عدد السنين والحساب ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً﴾، وعَرَّفَنا السبيل إلى ذلك ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾.

أحبتي في الله .. إنه التفكر في خلق الله، إنه (العبادة الصامتة)؛ فالتفكر عبادة تتعلق بالقلب ولا يُستعمل فيها اللسان، وإنما هي من أعمال الفؤاد والوجدان، إنها "إِعمال العقل في أسرار ومعاني الآيات الشرعية والكونية عن طريق التأمل والتدبر وملاحظة وجه الكمال والجمال ومشاهدة الدقة وحسن التنظيم والسنن الكونية والتماس الحكمة والعبرة من وراء ذلك".
وقد ورد في التفكر فضلٌ عظيم؛ قال تعالى في مدح المؤمنين: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، وقال عز وجل: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم ۗ مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾.
وعن عطاء قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها فقال بن عمير: "حدثينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فبكت وقالت: "قام ليلةٌ من الليالي فقال: [يا عائشة ذريني أتعبد لربي]، قالت: "قلت: والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك"، قالت: "فقام فتطهر ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بَلَّ حجره، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بَلَّ الأرض، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: [أفلا أكون عبداً شكوراً؟ لقد نزلت علي الليلة آياتٌ ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾]". وقال أحد الصالحين: "تَفَّكُرُ ساعةٍ خيرٌ من قيامِ ليلة".
أحبتي .. التَفكرُ والتأمل في ملكوت الله وفي هذا الكون العظيم يزيد من إيمان المسلم ويقوي يقينه؛ فما أروع هذا الكون الواسع الفسيح، وما أحكم اللطيف الخبير، وما أعظم الله أحسن الخالقين، فهو ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾، وهو المتقن لكل ما صنع وخلق وأوجد وأنشأ ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾، وصدق من قال: "الكون قرآنٌ صامت، والقرآن كونٌ ناطق".
ومع فضل (العبادة الصامتة) وعظيم أثرها في زيادة الإيمان واليقين إلا أن كثيراً من الناس غافلون عنها معرضون عن العمل بها لاشتغالهم بالدنيا وقلة علمهم وطول أملهم وغلبة الأماني الكاذبة على نفوسهم، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾. اللهم لا تجعلنا من الغافلين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.