الجمعة، 3 فبراير 2023

حُب الدنيا

 

خاطرة الجمعة /381


الجمعة 3 فبراير 2023م

(حُب الدنيا)

يُحكى أنّ فتىً قال لأبيه: "أريد الزواج من فتاةٍ رأيتها؛ وقد أعجبني جمالها وسحر عيونها"، فرد عليه وهو فَرِحٌ ومسرورٌ وقال: "أين هذه الفتاة حتى أخطبها لك يا بُنيّ؟"، فلما ذهبا ورأى الأب الفتاة أُعجب بها وقال لابنه: "اسمع يا بُنيّ؛ هذه الفتاة ليست لك، وأنت لا تصلح لها؛ هذه يستحقها رجلٌ مثلي له خبرةٌ في الحياة ويُعتمد عليه". اندهش الولد من كلام أبيه وقال له: "كلا؛ بل أنا الذي سيتزوجها يا أبي وليس أنت". تخاصما وذهبا إلى مركز الشرطة ليحل ضباطه لهما المشكلة؛ وعندما قصا للضابط قصتهما قال لهما: "احضرا الفتاة لكي نسألها من تُريد الابن أم الأب؟"؛ فلما رآها الضابط انبهر بحُسنها وفتنتها وقال لهما: "هذه لا تصلح لكما؛ بل تصلح لشخصٍ مرموقٍ في البلد مثلي". تخاصم الثلاثة وذهبوا إلى الوزير ليفصل بينهم؛ وعندما رآها الوزير قال: "هذه لا يتزوجها إلا الوزراء مثلي". ولم يكن لهم جميعاً إلا أن يتخاصموا إلى الأمير حاكم البلدة، وعندما حضروا وأخبروه بالأمر قال لهم: "أنا سأحل لكم هذه المشكلة؛ احضروا الفتاة"، فلما رآها الأمير قال: "هذه لا يتزوجها إلا أميرٌ مثلي، وأنا من سيتزوجها".

اختلفوا جميعاً وتجادلوا؛ فقالت الفتاة: "أنا عندي الحل! سوف أركض وأنتم تركضون خلفي، والذي يُمسكني أولاً أكون من نصيبه ويتزوجني".

وفعلاً ركضت وركض الجميع خلفها؛ الشاب والأب والضابط والوزير والأمير، وفجأةً وهُم يركضون سقط الخمسة في حُفرةٍ عميقةٍ؛ فنظرت إليهم الفتاة من أعلى وقالت: "هل عرفتم من أنا؟ أنا الدنيا! أنا التي يجري خلفي جميع الناس ويتسابقون للحصول عليّ،

ويلهون عن دينهم في اللحاق بي، حتى يقعوا في القبر، ولن يفوز بي أيٌ منهم، فهل من مُتعظ؟!".

 

أحبتي في الله.. هذه قصةٌ رمزيةٌ تُبين لنا كيف يُسيطر (حُب الدنيا) على نفوس البشر، رغم أنّ الله سبحانه وتعالى أوضح لنا أن متاع الدنيا زائلٌ وأن الآخرة هي مرجعنا جميعاً؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾. وأكّد على أن كل ما في الأرض زينةٌ مصيرها إلى انتهاءٍ، وأن الدار الآخرة هي الباقية؛ يقول تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾. قال المفسرون إن ذِكر الدُّنيا جاء في القرآن الكريم في أكثر من مائة موضعٍ، وليس من بين هذه المواضع ما تُمدح فيه الدنيا؛ وإنما هو التحذير منها، وإظهار حقيقتها بقلة شأنِها؛ فعن ذم (حُب الدنيا) وتفضيلها على الآخرة يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ﴾، ويقول أيضاً: ﴿أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾، ويقول كذلك: ﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾. ووصف المولى عزَّ وجلَّ الذين انشغلوا بالحياة الدنيا عن الآخرة بالغفلة؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ﴾، ووصفهم بالكُفر؛ يقول تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ۘ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾. وحثنا سبحانه على حُسن العمل؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾. وعرّفنا أن الموت هو مصير كل إنسانٍ ثم يكون الحساب، والأجر -على أعمالنا في الدنيا- إما الجنة أو النار؛ يقول تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾. كما بيّن لنا أن الخير في الدار الآخرة يكون للمتقين؛ يقول تعالى: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى﴾، وأكّد على نفس المعنى بقوله تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾. وليس معنى ذلك الانصراف عن الدنيا بالكُلية؛ يقول تعالى: ﴿وَٱبْتَغِ فِيمَآ ءَاتَاك ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلْآخِرَةَ ۖ،وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا﴾.

 

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَن كانتْ نيتُه طلبَ الآخِرَةِ؛ جعل الله غِناه في قلبِه، وجَمَع له شملَه، وأتَتْه الدنيا وهي راغِمةٌ، ومَنْ كانت نيتُه طَلَبَ الدنيا؛ جعل اللهُ الفقرَ بين عينيه، وشَتَّتَ عليه أمرَه، ولا يأتِيه مِنها إلا ما كُتِبَ له].

وقال عليه الصلاة والسلام: [... فَوَاللَّهِ لا الفَقْرَ أَخْشَى علَيْكُم، ولَكِنْ أَخَشَى علَيْكُم أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا وتُهْلِكَكُمْ كما أَهْلَكَتْهُمْ].

ووصف صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ علاقته بالدنيا وصفاً مُعبراً حين نام على حصيرٍ فقام وقد أثَّرَ في جنبه فقال له صحابته: يا رسولَ اللَّهِ لوِ اتَّخَذنا لَكَ وطاءً، فقالَ: [ما لي وما للدُّنيا، ما أنا في الدُّنيا إلَّا كراكبٍ استَظلَّ تحتَ شجرةٍ ثمَّ راحَ وترَكَها].

 

يقول أهل العلم إنّ الله سبحانه وتعالى قد زهَّد في الدنيا، وبيَّن أن الرضا بها والركون إليها ليس سبيل الموفَقين. والدنيا لا تُذم بإطلاقٍ، وإنما تُذم لما قد تجر إليه من معصية الله تعالى، وإلا فهي قنطرة الآخرة، والسبيل لتحصيل السعادة الأبدية فيها؛ فمن لم يبلغ (حُب الدنيا) في قلبه أن يوقعه في الكُفر، بل أوقعه في المعصية، فعليه إثم ما ارتكبه؛ فإن تاب تاب الله عليه. فالمُعتبَر هو نوع الحُب وما يؤدي إليه؛ فمن أحب الدنيا لكونه يعبد الله فيها، ويُعمِّرها بطاعته، فهو على خيرٍ. ومن أحبها وتمتع بما فيها من المُباحات، فلم يخرج عن واجبٍ، ولم يقع في مُحرمٍ؛ فهذا لا له، ولا عليه. ومن أوقعه ذلك الحُب في مخالفةٍ؛ فحكمه بحسب ما وقع فيه من تلك المخالفة. والواجب على المسلم أن يجعل الآخرة أكبر همه، وغاية قصده، وأن يعلم أنه لم يُخلق لهذه الدنيا، بل هي مجرد مرحلةٍ سيتجاوزها ثم ينتقل إلى ما وراءها؛ فالحياة الدنيا بمثابة محطة عبورٍ للآخرة، ومن الناس من ينشغل بالدنيا ولهوها، وينسى دار المعاد وما أعدّه الله تعالى من جنات النعيم لأهل الطاعة والإحسان، مع أن نعيم الجنة خيرٌ من نعيم الدنيا بأضعاف كثيرةٍ؛ لذلك فإن علاج (حُب الدنيا) والانغماس في شهواتها أن يتذكّر الإنسان الجنة وما فيها من النعيم، فيتّخذ من الدنيا زاداً له لآخرته.

 

وقال الشاعر عن الدنيا:

النَفسُ تَبكي عَلى الدُنيا وَقَد عَلِمَت

إِنَّ السَلامَةَ فيها تَركُ ما فيها

لا دارَ لِلمَرءِ بَعدَ المَوتِ يَسكُنُها

إِلّا الَّتي كانَ قَبلَ المَوتِ بانيها

فَإِن بَناها بِخَيرٍ طابَ مَسكَنُها

وَإِن بَناها بَشَرٍّ خابَ بانيها

 

أحبتي.. الاعتدال في كل شيءٍ مطلوب، والقاعدة أنه لا إفراط ولا تفريط؛ لذا فإن الصحيح أن يُراجع كلٌ منا نفسه ويتدارك أمره؛ فلا تكون الحياة الدنيا بزينتها وزخارفها هي مُنتهى أمله فيتفرغ لها ويتلهى بها عن دينه وينسى أنه مخلوقٌ لعبادة الله سبحانه وتعالى، ولا أن يترك دنياه التي أُمر أن يُعمِّرها ويتفرغ بالكامل للعبادة ويعزل نفسه عن العالم كله برهبانيةٍ لم يأمر بها المولى عزَّ وجلَّ ولا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. وإنما علينا أن نلتزم بنهج المؤمنين الصالحين الذين قالوا: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾؛ ولا نكون ممن قال فيهم سبحانه وتعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾. وكما ورد في القول المأثور: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً" بمعنى المُبادرة والمُسارعة في إنجاز أعمال الآخرة ، والتباطؤ في إنجاز أمور الدنيا؛ فلنعمل ونجتهد في عبادة ربنا وإعمار الأرض بغير انغماسٍ في ملذات الدنيا وشهواتها، دون أن يغيب عن ذهننا -ولا للحظة- أننا نبني لأنفسنا منازلنا وقصورنا في جنة الخُلد التي هي حياتنا الحقيقية؛ مصداقاً لقول الخبير العليم: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾؛ فلنتخذ الدنيا مزرعةً للآخرة، نُكثر فيها من الزرع الطيب ليكون الحصاد بإذن الله ورحمته حصاد الفائزين المُفلحين.

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همّنا، ولا مبلغ علمنا، وأعنّا على أنفسنا، واهدنا سواء السبيل.

https://bit.ly/3XXIkqy