الجمعة، 15 أكتوبر 2021

من صور البر بالوالدين

 

خاطرة الجمعة /313


الجمعة 15 أكتوبر 2021م

(من صور البر بالوالدين)

 

للبر بالوالدين صورٌ كثيرةٌ منها ما يرويها هذا الزوج؛ كتب يقول:

أم زوجتي كبيرةٌ في السنّ، وهي أميةٌ لا تقرأ ولا تكتب، ومنذ أن تزوجتُ وزوجتي في كل رمضان، تتصل على أمها بالهاتف -لبُعد المسافة بيننا- قرابة الساعة 12 ليلاً، وتقرأ زوجتي القرآن كلمةً كلمةً، وأمها تُردّد خلفها كلمةً كلمةً، حتى تُنهي معها جزءاً کاملاً، ويستغرق هذا الجهد من الوقت قُرابة الساعة والنصف. وهذه حالهما ما شاء الله كل ليلةٍ، وفي ختام التلاوة تَغمر الأم ابنتها بالدعوات الطيبات المباركات، التي وأنتَ تسمعها لا تتمنى إلا أن تكون أنت المدعو له بها! فإذا جاءت آخر ليلةٍ من رمضان، تختم زوجتي وأمها القرآن كاملاً؛ فلا أستطيع أن أُحدّثك عن شدة تلك المشاعر الإيمانية، وذلك البكاء والفرح الذي لا تقوم له الدنيا بأسرها، لختمهما القرآن، وكأنك ترى معنى قول الله عز وجل يتمثل أمامك واقعاً حياً: ﴿قُل بِفَضلِ اللَّهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذلِكَ فَليَفرَحوا هُوَ خَيرٌ مِمّا يَجمَعونَ﴾ أي وربي فبذلك فليفرحوا حق الفرح!!

يعلق ناشر هذه القصة قائلاً: هل أتعجب من صبر البنت وإحسانها لأمها، كنوعٍ فريدٍ من البرّ؟ أم من صبر الأم ومكابدتها لتنال أجر تلاوة القرآن بالرغم من أنها أُمية؟ أم من صبر الزوج وإكرامه لهما بوقته وتشجيعه لزوجته على أن تبرّ بأمها بهذا الأسلوب؟ أم أتعجب من توفيق الله لهم جميعاً في فعل مثل هذا الخير، والمسارعة إلى الطاعات، مثل هذه الطاعة التي هي (من صور البر بالوالدين).

 

وفي قصةٍ أخرى معبرةٍ -رغم أن صاحبها انتبه لنفسه متأخراً جداً- يقول صاحب القصة:

بعد 21 سنة من زواجي، وجدتُ بريقاً جديداً من الحب؛ قبل فترةٍ خرجتُ مع امرأةٍ غير زوجتي، وكانت تلك فكرة زوجتي، حيث بادرتني بقولها: "أعلم جيداً كم تحبها"! المرأة التي أرادت زوجتي أن أخرج وأقضي وقتاً معها كانت أمي التي ترملت منذ 19 سنة، ولكن مشاغل العمل، وحياتي اليومية، ومسئولية رعاية زوجة وثلاثة أطفالٍ، ومسؤولياتٍ أخرى مختلفةً، جعلتني لا أزورها إلا نادراً! في يومٍ اتصلتُ بها ودعوتها للخروج معي والعشاء في أحد المطاعم؛ سألتني: "هل أنت بخير؟!"؛ لأنها غير معتادةٍ على مكالماتٍ متأخرةٍ وتقلق منها، فقلت لها: "نعم؛ أنا بخيرٍ والحمد لله، ولكني أريد أن أقضي وقتاً معكِ يا أمي"، قالت: "نحن -أنا وأنتَ- فقط؟!". قلتُ: "نعم"، فكرتْ قليلاً ثم قالت: "أحب ذلك كثيراً"، واتفقنا على موعدٍ يوم الخميس التالي. في ذلك اليوم وبعد العمل، مررتُ عليها وأخذتها، كنتُ مضطرباً، وعندما وصلتُ وجدتها هي أيضاً قلقة. كانت تنتظر عند الباب؛ مرتديةً ملابس جميلةً، ويبدو أن الفستان الذي ترتديه هو آخر فستانٍ قد اشتراه أبي لها قبل وفاته. ابتسمت أمي وقالت: "أخبرتُ جميع صديقاتي وجيراني أنني سأخرج اليوم مع ابني، وهُم فرحون لفرحي، ومتلهفون لاستماع الأخبار التي سأقصها عليهم بعد عودتي!". ذهبنا إلى مطعمٍ عاديٍ، ولكنه جميلٌ وهادئ، تمسكت أمي بذراعي وكأنها السيدة الأولى. بعد أن جلسنا؛ بدأتُ أقرأ لأمي قائمة الطعام؛ حيث أنها لا تستطيع أن تقرأ إلا الأحرف الكبيرة لضعف نظرها. وبينما كنتُ أقرأ كانت تنظر إليّ بابتسامةٍ عريضةٍ على شفتيها المجعدتين، وقاطعتني قائلةً: "كنتُ أنا من أقرأ لك وأنت صغير!"، أجبتها: "حان الآن موعد تسديد شيءٍ من دَيني، ارتاحي أنت يا أمي". تحدثنا كثيراً أثناء العشاء، لم يكن هناك أي شيءٍ غير عاديٍ؛ قصصٌ قديمةٌ، وقصصٌ جديدةٌ، لدرجة أننا نسينا الوقت وجلسنا بالمطعم إلى ما بعد منتصف الليل! عندما رجعنا، ووصلنا إلى باب بيتها أعربتُ لها عن سعادتي وسروري لهذه السهرة الجميلة، شكرتها وطلبتُ منها أن نكرر ذلك ونلتقي مرةً أخرى في سهرةٍ مماثلةٍ؛ قالت: "أوافق أن نخرج سوياً مرةً أخرى، ولكن على حسابي"، قبّلتُ يدها وودعتها. بعد أيامٍ قليلةٍ؛ تُوفيت أمي بنوبةٍ قلبيةٍ. حدث ذلك بسرعةٍ كبيرةٍ، حتى إني لم أتمكن من عمل أي شيءٍ لها. وبعد عدة أيامٍ وصلتني عبر البريد من المطعم الذي تعشينا به أنا وهي -رحمها الله- دعوةٌ للعشاء لشخصين، مع ملاحظةٍ مكتوبةٍ بخط يد أمي: "دفعتُ الفاتورة مقدماً، كنتُ أعلم أنني لن أكون موجودةً. هذا العشاء لشخصين؛ لك ولزوجتك؛ لأنك لن تقدّر ما معنى تلك الليلة بالنسبة لي ... أحبك يا ولدي". إنها صورةٌ أخرى (من صور البر بالوالدين).

 

وهذه قصةٌ من قصص البر بالوالدين أيضاً؛ إذ قضى الله سبحانه وتعالى أن ينشأ الطفل محمدٌ يتيم الأب، غير أن رحمة الله أدركت هذا الغلام؛ فحنن عليه قلب أمه فكانت له أماً وأباً، وعملت في مهنة خياطة الثياب؛ كي تصرف على نفسها وعلى ولدها. تمر السنون ويكبر الصغير ويدخل الجامعة ويتخرج منها ويلتحق بوظيفةٍ مرموقةٍ. في الشهر الأول من وظيفته لملمت أمه أدوات الخياطة وأهدتها إلى جارتها المحتاجة، أما محمدٌ فيعد الأيام لاستلام أول راتبٍ وقد غرق في التفكير: كيف يرد جميل أمه؟! لكن القدر لم يُمهله لذلك؛ إذ تُوفيت أمه؛ فعزم بينه وبين نفسه على أن يرد جميلها حتى وهي تحت التراب؛ أخذ يقتطع ربع راتبه شهرياً ويجعله صدقةً جاريةً لوالدته، حفر لها عشرات الآبار، وبالغ في البر والمعروف، ولم يقطع هذا الصنيع أبداً، حتى بعد أن تزوج وأنجب وكبر ولده وصار في المرحلة الثانوية، فما يزال ربع دخله موقوفاً لأمه، وكانت أكثر صدقاته في برادات الماء عند أبواب المساجد. وفي يومٍ من الأيام وجد عاملاً يقوم بتركيب براد ماءٍ عند باب المسجد الذي يُصلي فيه، تعجب محمدٌ من نفسه كيف غفل عن مسجد الحي حتى فاز به هذا المحسن؟! قطع تداعي أفكاره صوت إمام المسجد وهو يشكره على التبرع للمسجد بهذا المبرد، قال محمدٌ: "لكني لم أفعل ذلك!"، قال له الإمام: "بلى؛ جاءني ابنك عبد الله وأعطاني مبلغاً من المال وطلب مني شراء براد ماءٍ للمسجد، قائلاً إنه سيوقفه صدقةً جاريةً لأبيه". عاد محمدٌ لابنه عبد الله مسروراً بصنيعه، وسأله كيف جئتَ بالمبلغ؟ ليتفاجأ بأن ابنه مضى عليه خمس سنواتٍ يجمع الريال إلى الريال حتى استوفى قيمة براد الماء! وقال: "رأيتك يا أبي -منذ خرجتُ إلى الدنيا- تفعل هذا مع والدتك، فأردتُ أن أفعل ذلك معك"، ثم بكى عبد الله وبكى محمدٌ، ولو نطقت دموع عيونهما لقالت: "إن بركة بر الوالدين تُرى في الدنيا قبل الآخرة! بروا آباءكم، ولو ماتوا، يبركم أبناؤكم".

 

أحبتي في الله .. أوصانا المولى عزّ وجلّ بالإحسان إلى والدينا؛ يقول تعالى في أربع مواضع في القرآن الكريم: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، وعندما سُئل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أيُّ الأعمالِ أحَبُّ إلى اللهِ؟ قال: [الصَّلاةُ لوقتِها]، قيل: ثمَّ أيُّ؟ قال: [بِرُّ الوالدَيْنِ]. كما أن الله سبحانه وتعالى يزيد في رزق البارّ بوالديه ويمدّ في عمره؛ قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: [من سرَّه أن يُعظِمَ اللهُ رزقَه، وأن يُمِدَّ في أجَلِه، فلْيَصِلْ رَحِمَه]. وتُكتب الاستجابة لدعاء الوالد لابنه البارّ؛ قال الرسول -صلّى الله عليه وسلّم-: [ثَلاثُ دَعَواتٍ لا تُرَدُّ] منها [دَعْوةُ الوالِدِ لِولدِه]. كما أن البرّ بالوالدين هو من السعي في سبيل الله؛ قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: [... وَإِنْ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ...].

 

يقول العلماء إنّ البر هو الخضوع والطّاعة، وهو عكس العقوق والعصيّان. وبر الوالديّن من أسبابِ دخول الناس الجنّة. وإنّ أقل ما يمكن للإنسان فعلهُ لوالديه، تقديراً لتعبهما وجهدهما تجاهه؛ هو برّهما وطاعتّهما ومساعدتهما في كل ما يحتاجانه خاصةً عند تقدمهما بالعمر. وإنّ (من صور البر بالوالدين) الدعاء لهما، والترويح عنهما، والمبالغة في توقيرهما واحترامهما، ومدحهما وذكر فضلهما، وحُسن الاستماع إليهما، وإعطاؤهما الاهتمام إذا تكلّما، وإشعارهما بالتفاعل بما يناسب كلامهما، وزيارتهما، والاتصال بهما إن كانت الزيارات صعبةً، وإجابة ندائهما دون تراخٍ.

ومن البر بهما بعد وفاتهما: الدعاء والاستغفار لهما؛ قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: [إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ] منها [... أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ]، وأداء بعض العبادات عنهما بعد وفاتهما؛ كالحجّ، أو قضاء الصيام، كما أنه من حق الوالدين بعد موتهما: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما. و(من صور البر بالوالدين) إنشاء وقفٍ خيريٍ باسمهما، أو حفر آبارٍ، أو بناء مساجدٍ، أو طباعة مصاحف وتوزيعها، وما إلى ذلك، من نشرٍ للخير والعلم، وبذلك ينال الوالدان الأجور المستمرّة حتى بعد وفاتهما.

 

أحبتي .. إنّ والدينا أحسنا إلينا في ضعفنا، وربيانا حتى بلغنا أشدنا، فلنُحسن إلى من أحسن إلينا. والوالدان بابان للخير مفتوحان أمامنا فلنغتنم الفرصة قبل أن يُغلقا، ولنعلم أننا مهما فعلنا (من صور البر بالوالدين) فلن نرد شيئاً من جميلهما علينا. ولنتذكر أنّ مَن قال أفٍ فقد عقَّ والديه، فكيف بمن قال أعظم من ذلك، وكيف بمن قاطعهما أو أساء إليهما، إنّ كل معصيةٍ تؤخَر عقوبتها بمشيئة الله إلى يوم القيامة، إلا العقوق؛ فإنّه يُعجَل له بعقوبتها في الدنيا، وكما تدين تُدان.

اللهم إنا نسألك الهداية لأنفسنا ولأبنائنا حتى نكون جميعاً من البررة بوالدينا، عسى أن ننال رضاك ربنا، ونُبعد أنفسنا عن غضبك وسخطك. ولا حول ولا قوة إلا بك.

 

https://bit.ly/3FSCGgE