الجمعة، 15 فبراير 2019

حصنوا أموالكم


الجمعة 15 فبراير 2019م

خاطرة الجمعة /١٧٤
(حصنوا أموالكم)

قصةٌ حقيقيةٌ وقعت أحداثها في المملكة العربية السعودية؛ حين اتخذت إدارة إحدى كليات البنات قراراً بأن يتم تفتيشٌ مفاجئٌ لحقائب الطالبات داخل القاعات. وبالفعل شُكلت لجنةٌ للتفتيش، وبدأ التفتيش عن كل ما هو ممنوعٌ كالهواتف المتحركة، كاميرات التصوير، الصور، الرسائل، وغير ذلك من ممنوعات. كان الأمن مستتباً، والوضع يتسم بالهدوء، والطالبات يتقبلن هذا التفتيش بتفهمٍ ورحابة صدر. أخذت اللجنة تجوب القاعات بكل ثقةٍ وتخرج من قاعةٍ لتدخل أخرى، وحقائب الطالبات مفتحةً أمامهم، وكانت خاليةً إلا من بعض الكتب والأقلام والأدوات اللازمة للكلية. انتهى التفتيش من كل القاعات، ولم تبقَ إلا قاعةٌ واحدةٌ، حيث كانت هي موقع الحدث؛ حيث دخل أعضاء اللجنة إلى هذه القاعة بكل ثقةٍ كما هي العادة، استأذنوا الطالبات في تفتيش حقائبهن، وبدأ التفتيش. كان في طرفٍ من أطراف القاعة طالبةٌ جالسةٌ، وكانت تنظر للجنة التفتيش بطرفٍ عينها ويدها على حقيبتها، وكان قلقها يزداد كلما اقترب دورها، فماذا كانت تخبئ داخل الحقيبة يا ترى؟ ما هي إلا لحظاتٌ وإذا باللجنة تريد تفتيش الطالبة، التي أمسكت حقيبتها بشدة، وكأنها تقول: "والله لن تفتحوها". طلبت المفتشة منها فتح حقيبتها، فرفضت الطالبة وضمت الحقيبة إلى صدرها. حاولت المفتشة سحب الحقيبة بالقوة، والطالبة تصرخ ويزداد تمسكها بحقيبتها. بدأ عراكٌ وتشابكت الأيادي والحقيبة لا تزال بعيدةً عن يد المفتشة. دهشت الطالبات واتسعت أعينهن، ووقفت المحاضرة ويدها على فمها. ساد صمتٌ عجيبٌ في القاعة. يا إلهي ماذا يحدث؟ ما هو الشيء الذي تحاول الطالبة إخفاءه داخل الحقيبة؟ بعد مداولاتٍ بين أعضاء اللجنة اتفقوا على اصطحاب الطالبة وحقيبتها إلى إدارة الكلية لاستئناف التفتيش والتحقيق مع الطالبة. دخلت الطالبة إلى مقر الإدارة ودموعها تنهمر كالمطر، أخذت تنظر في أعين الحاضرات نظراتٍ مليئةٍ بالخوف والغضب لأنهن سيفضحنها أمام الملأ. أجلستها المديرة، وهدأت الموقف، وعندما هدأت الطالبة سألتها المديرة: "ماذا تخبئين يا ابنتي؟"، هنا، وفي لحظةٍ صعبةٍ عصيبةٍ فتحت الطالبة حقيبتها. يا إلهي ..... ما هذا؟! لم يكن في الحقيبة أية ممنوعات أو أشياء محرمة؛ لا جوالات ولا صور. لم يكن فيها إلا بقايا من السندوتشات! نعم هذا هو كل ما كان موجوداً بحقيبة الطالبة! وبعد سؤال الطالبة عن هذه البقايا، قالت بعد أن تنهدت: "هذه بقايا ساندوتشات زميلاتها التي يرمين بها بعد فطورهن؛ حيث يتبقى من الساندوتش نصفه أو ربعه، فأجمع هذه البقايا وأفطر ببعضها، وأحمل الباقي إلى أهلي؛ إلى أمي وأخواتي في البيت ليكون لهم الغداء والعشاء؛ لأننا أسرةٌ فقيرةٌ ومعدومةٌ، ليس لنا أحدٌ، ولا يسأل عنا أحدٌ، وكنت مضطرةً لمنع لجنة التفتيش من فتح حقيبتي كي لا أُحرج أمام زميلاتي في القاعة؛ فعذراً على سوء الأدب معكن". في هذه الأثناء انفجر الجميع بالبكاء، وطال البكاء أمام هذه الطالبة المسكينة.

أحبتي في الله .. هذا الموقف الصعب والمشهد المؤلم ما كان يمكن أن يحدث لو أن كلاً منا أخرج زكاة ماله، ما كان لفقيرٍ أن يقتات على بقايا طعام غيره، ولا كان لمسكينٍ أن يبيت هو وأسرته من غير عشاءٍ، ولا لمتسولٍ أن يجوب الشوارع يمد يده يسأل الناس إلحافاً. إنه مشروعٌ تعبديٌ اقتصاديٌ اجتماعيٌ ينبغي ألا يتخلف أي مسلمٍ عن المشاركة الطوعية فيه، يتم تنفيذه تحت شعار (حصنوا أموالكم).
ليس هذا اجتهاداً فكرياً ولا هو تصورٌ نظريٌ، بل هو مشروعٌ يمكن إعادة تنفيذه حيث كان قد سبق تطبيقه بالفعل في عهد الخليفة الصالح عمر بن عبدالعزيز، فبعد أن تولى الخلافة بسنتين وخمسة أشهرٍ وخمسة أيامٍ فقط، كتب إلى واليه بالعراق: أن أخرج للناس أعطياتهم -ما يستحقونه من زكاة-، فكتب إليه الوالي: إني قد أخرجت للناس أعطياتهم وقد بقي في بيت المال مال، فكتب إليه عمر: أن انظر كل من أدان في غير سفهٍ ولا سرفٍ فاقضِ عنه، قال: قد قضيت عنهم وبقي في بيت المال مال، فكتب إليه: أن زوِّج كل شابٍ يريد الزواج، فكتب إليه: إني قد زوجت كل من وجدت وقد بقي في بيت مال المسلمين مال، فكتب إليه: أن انظر من كانت عليه جزيةٌ - من أهل الكتاب - فضعف عن أرضه، فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه.
هذا ما حدث حين عرف كل مسلمٍ ما له وما عليه؛ فأدى الجميع حقوق الفقراء ودفعوا زكاة أموالهم ليكفلوا غيرهم من الفقراء وذوي الحاجة حتى اختفى الفقر من دولة الإسلام. إنه مشروعٌ نرى أننا في أشد الاحتياج إليه.

يقول أهل العلم أن الزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام الخمسة،‏ وعمودٌ من أعمدة الدين التي لا يقوم إلا بها، ‏يُقاتَلُ مانعها، ‏ويُكَّفَر جاحدها، ‏فُرضت في العام الثاني من الهجرة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ].
تتضح أهمية الزكاة بأن الله عزّ وجلّ أمر بوجوبها وقرنها مع الصلاة في مواقع كثيرةٍ في القرآن الكريم للدلالة على عظم منزلتها؛ منها قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ﴾.

وللترغيب في أداء الزكاة وتأكيد وجوبها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [خَمْسٌ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ مَعَ إِيمَانٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ: مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى وُضُوئِهِنَّ وَرُكُوعِهِنَّ وَسُجُودِهِنَّ وَمَوَاقِيتِهِنَّ، وَصَامَ رَمَضَانَ، وَحَجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَأَعْطَى الزَّكَاةَ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ، وَدَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةَ، وَاسْتَقْبِلُوا أَمْوَاجَ الْبَلاءِ بِالدُّعَاءِ، وَالتَّضَرُّعِ].
وللترهيب من منع الزكاة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَانِعُ الزَّكاةِ يَومَ القِيامَةِ في النَارِ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [ما منَعَ قَومٌ الزَّكاةَ إلاّ ابتلاهُم اللهُ بالسِّنين]. وفي روايةٍ: [وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ].

والزكاة في اللغة تعني البركة والطهارة والنماء والصلاح‏.‏ وسميت الزكاة لأنها تزيد في المال الذي أُخرجت منه،‏ وتقيه الآفات‏.
والحكمة من مشروعيتها أنها تُصلح أحوال المجتمع مادياً ومعنوياً فيصبح جسداً واحداً متماسكاً، ‏وتطهر النفوس من الشح والبخل، ‏وهي صمام أمانٍ في النظام الاقتصادي الإسلامي ومدعاةٌ لاستقراره واستمراره، وهي من أعلى درجات التكافل الاجتماعي، ‏كما أنها عبادةٌ ماليةٌ، ‏وهي سببٌ لنيل رحمة الله تعالى‏؛ ‏ قال تعالى‏: ﴿‏وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ‏﴾‏،‏ وشرطٌ لاستحقاق نصره سبحانه‏؛ ‏ قال تعالى‏:‏ ‏﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ  . الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ‏﴾،‏ وصفةٌ من صفات المؤمنين الذين يرثون الفردوس؛ ‏قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ‏﴾.
وصدق الشاعر حين قال:
لا تخزنوا المالَ لقَصْدِ الغنى
وتطلبـوا اليسـرى بعسـراكمْ
فـذاكَ فــقـرٌ لـكمْ عـاجـلٌ
أعـاذنـا اللّـهُ وإِيــــاكـمْ
ما قــالَ ذو العـرشِ اخزنـوا
بـل أنفـقـوا ممـا رُزَقْــناكم

أحبتي .. لو أن الزكاة أصبحت مشروع كل مسلم، ما وُجد إنسانٌ مسلمٌ محتاج. فليسارع كلٌ منا إلى إخراج زكاته في موعدها وفي مصارفها الشرعية؛ بذلك نرضي ربنا. أحبتي (حصنوا أموالكم) بالزكاة؛ فبها تطهر أموالنا؛ وتربو وتزداد أرزاقنا. كما أننا اليوم نساعد غيرنا ونحن قادرون، ومن يعلم ربما أصبحنا غداً مثلهم واحتجنا لمن يساعدنا؛ ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾. ولنعلم أيها الأحبة أن المال مال الله، ونحن مستخلفون فيه، ومحاسبون عليه. والزكاة ليست منةً منا ولا تفضلاً ولا هي إحسان، وإنما هي حقٌ لمستحقيها؛ علينا أن نؤديه بحبٍ وإخلاصٍ ورضا نفسٍ، كما أن علينا أن نحس تجاه متلقي زكاة أموالنا بالشكر والامتنان أن كانوا سبباً في حصولنا على الأجر والثواب بإذن الله.
قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا استَطَعتُم وَاسمَعوا وَأَطيعوا وَأَنفِقوا خَيرًا لِأَنفُسِكُم وَمَن يوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ المُفلِحونَ﴾؛ اللهم قنا شح أنفسنا لنكون من المفلحين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/PM46FB