الجمعة، 22 سبتمبر 2023

الظاهرون على الحق

 خاطرة الجمعة /413

الجمعة 22 سبتمبر 2023م

(الظاهرون على الحق)

كنتُ قد نشرتُ بالعدد رقم 68 من خواطر الجمعة قبل أكثر من ست سنواتٍ خاطرةً بعنوان "هل أنا حرامي؟!" وردت فيها إشارةٌ إلى مقالٍ صحفيٍ نُشر تحت نفس العنوان وتضمن موقفاً حدث مع طبيبٍ سودانيٍ روى بنفسه ما حدث معه فقال: كان عندي امتحاناتٌ للطب في «أيرلندا»، وكانت رسوم الامتحان 309 جنيهاً ولم يكن لديّ فكةٌ فدفعت 310 جنيهاً. امتحنتُ وانتهيتُ من الامتحان، ومضت الأيام ورجعتُ إلى «السودان» وإذا برسالةٍ تصلني من «أيرلندا» جاء فيها "أنت أخطأت عند دفع رسوم الامتحانات؛ حيث أن الرسوم كانت 309 جنيهاً وأنتَ دفعتَ 310 جنيهاً، وهذا شيكٌ بقيمة واحد جنيه؛ فنحن لا نأخذ أكثر من حقنا"، مع العلم بأن قيمة الظرف والطابع الملصق عليه كانت أكثر من هذا الجنيه!!

بعد نشر الخاطرة وردتني بعض التعليقات التي تتعجب من هذا الموقف، حتى أن البعض أبدى تشككه في صحته، وظن آخرون أن الرجل يبالغ، واعتبر بعضهم أن الموقف مختلقٌ من جهاتٍ لها أجندةٌ خاصةٌ تؤلف وتنشر ما يجعل الناس تنبهر بالثقافة الغربية!

من ناحيتي؛ راودني إحساسٌ بأن الموقف حقيقيٌ وواقعي، وأن الثقافة الغربية -بعيداً عن الأجندات الخاصة والانبهار المبالغ فيه- بها العديد من القيم الإيجابية، كما أن بها قيماً وعاداتٍ سلبيةً في ذات الوقت. وكنتُ أرى فيما قاله محمد عبده بعد عودته من زيارة أوروبا عام 1881م شيئاً من الحقيقة -وليس كل الحقيقة- حين قال: "رأيتُ في أوروبا إسلاماً بلا مسلمين، وأرى في بلادي مسلمين بلا إسلام".

على كل حالٍ، مرت أيامٌ وأسابيع وشهورٌ، بل وسنواتٌ كثيرةٌ حتى حدث معي موقفٌ تفاجأت به؛ كنتُ قبل حوالي شهرٍ قد اتفقتُ مع طبيبٍ جراحٍ على إجراء جراحةٍ بالعينين في إحدى المستشفيات المتخصصة بمدينة «القاهرة»، وقمتُ بدفع كامل التكلفة وعمل التحاليل اللازمة، وتم بعد ذلك بيومين إجراء الجراحة بنجاحٍ، ولله الحمد والمنة ثم للجراح الرائع المتميز الشكر والتقدير. طلب مني الجراح عدم مغادرة المستشفى حتى يمر علينا الطبيب النائب للاطمئنان على نتيجة العملية. حضر الطبيب النائب وطمأننا -أنا وأسرتي- وشرح لنا بالتفصيل التوجيهات التي يجب الالتزام بها، وشرح كيفية استخدام القطرات والأدوية، وأكد على ما يجب تجنبه لمدة شهرٍ كامل. وقبل مغادرة المستشفى حضرت إحدى الممرضات وطلبت مني ضرورة مراجعة "الخزينة" وهي المكان المعتاد لدفع تكاليف العمليات. استغربنا الأمر، وذهب ذهننا إلى أننا قد وقعنا في فخٍ! فقد تمت الجراحة بالفعل، وبطاقة هويتي محجوزة لدى إدارة المستشفى حتى يتم التأكد من أنه ليس علينا أية مستحقات مالية. جهزتُ بعض النقود على سبيل الاحتياط، وأنا لا أعلم كم سيطلبون مني زيادةً عما تم الاتفاق عليه ودفعته بالكامل قبل إجراء العملية، ثم توجهتُ إلى "خزينة المستشفى" فإذا بالموظف المختص يُعيد لي مبلغ 200 جنيه! كان الأمر مفاجئاً تماماً لي، سألته عن السبب؛ فقال: "هذا ثمن أحد مستلزمات الجراحة طلب الطبيب الجراح توفيره لاحتمال استخدامه وقت إجراء الجراحة، لكنه لم يرَ ضرورةً لاستخدامه أثناء إجراء العملية، فكيف نتقاضى ثمن ما لم يتم استخدامه؟". شكرتُ الموظف وغادرنا المستشفى مندهشين غير مصدقين ما حصل! ثم تحولت الدهشة والشعور بعدم التصديق إلى فرحةٍ في نفس كلٍ منا.

 

أحبتي في الله.. لم تكن فرحتنا بقيمة المبلغ المسترد، وإنما في معنى ما حدث وقيمته المعنوية ودلالته الجميلة والمبشرة؛ فالأمانة، وإلزام النفس بالحق، والوفاء بالعقود، أصبحت في زمننا هذا من السلع النادرة.

وتذكرتُ حديث النبي صلى الله عليه وسلم: [لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظاهِرِينَ علَى الحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ] وفي رواية: [وهُمْ كَذلكَ].

يقول علماء الحديث شارحين له إن أمة الإسلام شأنها عند الله عظيم؛ فإنها آخر الأمم في الدنيا، ونبيها خاتم الأنبياء، وقد أرسل إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً، ودعوته ممتدةٌ إلى آخر الزمان، ومن لوازم امتداد دعوته صلى الله عليه وسلم أن يبقى الحق قائماً في الأمة لا يضيع. وفي هذا الحديث يُخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الأمة أنها لا تزال فيها طائفةٌ من (الظاهرين على الحق)، وهذه الطائفة مُعانةٌ من الله، منصورةٌ على من خذلها وحاربها.

وقد بشّر صلى الله عليه وسلم أن هذه الطائفة ستكون كذلك على أمر الله مستمسكين، وبه قائمين حتى يأتي أمر الله بقيام الساعة، مما يدل على أن الحق لا ينقطع في أمة الإسلام؛ فهناك من يتوارثه جيلاً بعد جيل، وفيه إشارةٌ إلى بقاء نصر الله لهم وحفظهم. والحديث آيةٌ على صدق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه منذ أخبر بذلك وهذه الطائفة لا تزال موجودةً في الأمة لم تنقطع في زمانٍ من الأزمنة. وفي الحديث: فضل الثبات على الحق والعمل به. وفيه: فضل لزوم هذه الطائفة؛ فإنهم منصورون معانون.

 

أحبتي.. فلنكن دائماً مع (الظاهرين على الحق)، نفعل الصواب ولو قَلَّ فاعلوه، ونبعد عن المنكر ولو كَثُر مُتّبِعوه، ولن يكون ذلك إلا بالتمسك بأحكام القرآن الكريم وبما ترشدنا إليه السُنة المشرفة، فنكون بإذن الله من المُفلحين.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

https://bit.ly/46nOVOK