الجمعة، 17 أبريل 2020

رد الأمانات إلى أهلها

الجمعة 17 إبريل 2020م


خاطرة الجمعة /٢٣٥

(رد الأمانات إلى أهلها)

 

يقول عم مصطفى: لم أكن أتصور أن شهادة وفاة صاحب الشركة التي عملتُ بها طوال الثلاثين عاماً الماضية هي شهادة شقائي أنا؛ فبعد أن تولى ابنه هيثم مقاليد إدارة الشركة كانت أول قراراته التخلص مني وطردي إلى الشارع، فهو لم ينسَ ذلك الموقف القديم حين اكتشفت تحويله أموالاً من حسابات الشركة إلى حسابه الخاص دون علم أبيه، وطلب مني هيثم عدم إخبار والده، وأصررتُ أنا على إبلاع أبيه من باب الأمانة؛ فلابد من (رد الأمانات إلى أهلها). وها أنا أدفع اليوم ثمن الأمانة؛ الطرد من العمل، بل من الشركة التي ساهمتُ في نموها حتى كبرت وصارت إلى ما صارت إليه.

ماذا أفعل؟ ومشكلتي الكبيرة والمستمرة كانت دائماً تتمثل في شُح المال خاصةً في آخر الشهر، لأجد نفسي فجأةً الآن أعيش ذات المشكلة ولكن في جميع أيام الشهر! ابني الكبير في كلية الطب يحتاج إلى مراجع باهظة الثمن ووعدته في أول الشهر! ابنتي أرادت ملابس جديدةً للشتاء ووعدتها في أول الشهر! ولدي الصغير في الثانوية العامة ودروسه الخاصة تُدفع رسومها أول الشهر! فواتير الماء والكهرباء والبقال وغيرهم كلها تنتظر السداد آخر الشهر! يا إلهي؛ والصيدلية! دوائي ودواء زوجتي! لقد أصبحتُ الآن بلا تأمينٍ صحي، ماذا إذا مرضتُ أو مرضت زوجتي أو أحد الأبناء؟! هل من العدل أن يكون هذا ثمن خدمة السنين بأمانة وإخلاص، بعد أن شاب شعري وخارت قواي أعود لنقطة الصفر؟!

لم أشعر بنفسي إلا وأنا واقفٌ أمام باب البنك، حيث وضع صاحب الشركة أكثر من مائة ألف جنيهٍ باسمي -خارج حسابات الشركة لأصرف منها على بعض أموره في غيابه- وأنا في انتظار دوري لصرف هذا المبلغ وإعادته لابن المرحوم، بإذن الله، صاحب الشركة، فهذا المال أمانةٌ لديّ، يتوجب عليّ إعادتها إلى أصحابها.

لكني ترددتُ وفكرتُ للحظات! ألا يكون هذا المال من حقي وحق أولادي، بعد خدمة هذه السنين؟ ألا يكون هو مكافأة نهاية الخدمة التي أستحقها؟ ألا يكون هذا المال ثمن الغدر الذي نالني من هيثم ابن المرحوم صاحب الشركة؟ أقنعتُ نفسي بأنه إذا أراد القدر ذلك فلتكن مشيئته!

حان دوري، وتقدمتُ نحو الصراف، وصرفتُ المال، ثم انصرفتُ من البنك في طريق عودتي إلى البيت بحقيبةٍ ملأى بمالٍ أحدث نفسي وأقول: "هذا المال هو تذكرة الأمان لي ولأسرتي، ليس لآخر الشهر فقط، وإنما لآخر العمر إن شاء الله!". مع آخر كلمةٍ فكرتُ فيها، تسمرتُ قدماي في مكانهما، وكأنما شُلتا! أفقتُ على صوتٍ بداخلي يُنبهني، يوقظني من غفلتي: "هل قلتَ إن شاء الله؟! هل تذكر الله وأنت تسرق؟! هل تذكر الله وأنت تخون الأمانة؟!". تذكرتُ فجأةً الآية الكريمة ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾؛ فأصابني ما يشبه الصعقة الكهربائية، أفقتُ وبدأتُ أسائل نفسي: "هل هذا هو أنا الذي فكرتُ في الاستيلاء على مالٍ ليس لي؟! أم هو شيطاني اللعين أوحى لي بهذا العمل وزينه في قلبي؟! كيف أرضى لنفسي ولأسرتي أن نعيش من مالٍ حرام؟! حتى وإن كان هيثم لا يعلم شيئاً عن هذا المال، ألا يراني الله ويعلم ما أفعل؟! هل أنا الذي عشتُ عمري كله شريفاً أميناً أسرق الآن وأخون الأمانة؟! يا للعار! ما الذي أفعله؟! هل جُننت؟!".

انتهت لحظات الحساب مع النفس سريعاً؛ ووجدتُ نفسي وقد غيرتُ اتجاهي من طريق العودة إلى البيت إلى طريق الذهاب إلى مقر الشركة.

تحولتُ في لحظاتٍ من إحساسي بأني أسرق وأخون، إلى إحساسٍ آخر، هو الشعور بالراحة والسعادة أني جاهدتُ نفسي الأمارة بالسوء، وانتصرتُ على شيطاني. إحساسٌ طاغٍ بالعزة والفخر، والإيمان بأن الله الذي رزقني كل تلك السنوات هو الذي سيتولاني ويسترني ويرزقني في آخر عمري، كيف يكون ذلك؟ لا أدري، لكني تذكرتُ آيةً واحدةً وقتها: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾، فوجدتُ روحي وقد امتلأت أملاً وسلاماً.

وصلتُ إلى باب الشركة، دلفتُ مسرعاً أخاف أن تخور إرادتي أو تضعف عزيمتي، اتجهتُ فوراً إلى مكتب مَن ظلمني؛ مكتب هيثم، دخلتُ عليه دون استئذان، لأجده جالساً والدهشة تملأ وجهه، وهو يمسك بورقةٍ في يده، علمتُ فيما بعد إنها خطابٌ من والده له، وضعتُ حقيبة المال في هدوءٍ أمامه، وحكيتُ له قصتها، والدهشة تزداد على وجهه، وعيناه حائرتان بين حقيبة المال أمامه والورقة في يده! هممتُ بالخروج وأنا في قمة الفخر، مع حزنٍ راودني حين تراءت لي أطياف أبنائي وهم في انتظاري أول الشهر يمدون أيديهم لي! ليوقفني نداء هيثم مليئاً بما يشبه الاعتذار: "انتظر يا عم صلاح!"، التفتُ إليه لأتفاجأ به؛ وجهه بشوشٌ مبتسمٌ، يمد يده بالورقة التي كان يقرأ فيها لحظة دخولي عليه، لأتناولها وأقرأ ما بها:

ولدي العزيز

أعرف أن أول قراراتك هي طرد عمك صلاح من العمل؛ فأنت تكرهه منذ أن أفشى سرك لي، وكان الأجدر أن تحترمه لأمانته. اعلم يا بني أنك الخاسر إن لم يعد عمك صلاح إليك مرةً أخرى، ولكن إن عاد -وهذا ظني به- فسوف يكون ليعطيك درساً قاسياً، حينها أعطه الشيك المرفق بالخطاب، واعلم إنه كان رفيق دربي وكفاحي لنصنع لك تلك الشركة الكبيرة".

أجهشتُ بالبكاء مع آخر كلمات الخطاب، وأقبل هيثم يحتضنني بقوةٍ، وهو يردد "أنا آسف يا عم صلاح" وأعطاني الشيك، فإذا قيمته أضعاف ما كنتُ سوف أختلسه من مالٍ بالحرام! وصار لي بالحلال مالٌ أستطيع أن أكمل به باقي عمري -أنا وأسرتي- في عزةٍ، وأودع أيام آخر الشهر إلى الأبد!

 

أحبتي في الله .. عرضتُ عليكم هذه القصة كما نُشرت على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، مع تعديلاتٍ طفيفةٍ وإضافاتٍ قليلة.

ما أبرك الحلال وإن قلَّ، وما أمحق الحرام وإن كَثُر، وما أروع أن يحصل الإنسان على ثواب (رد الأمانات إلى أهلها) بأسرع مما يتصور، ومع ذلك فلحكمةٍ ربانيةٍ، قد يؤخر الله سبحانه وتعالى حصول الإنسان على ذلك الثواب إلى وقتٍ بعيد، وقد يدخر له ذلك إلى يوم الحساب.

لقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بأداء الأمانات؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾، قال المفسرون إن هذه الآية من أمهات الأحكام؛ تضمنت جميع الدين والشرع؛ فاللّه تعالى يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، وهو يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان، من حقوق اللّه عزّ وجلَّ على عباده من الصلاة والزكاة والصيام والكفارات والنذور وغير ذلك، مما هو مؤتمنٌ عليه لا يطلع عليه العباد، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض، كالودائع وغير ذلك، فأمر اللّه عزَّ وجلَّ بأدائها، فمن لم يفعل ذلك في الدنيا أُخذ منه ذلك يوم القيامة؛ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: [لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ، مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ]. {"يُقَاد": يُقتص، "الْجَلْحَاء": التي ليس لها قرن، "الْقَرْنَاء": التي لها قرن}.

 

وأكد الله سبحانه على ضرورة أداء الأمانة؛ يقول تعالى: ﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾، ويقول في وصف المؤمنين: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾، ونهانا سبحانه عن خيانة الأمانات؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، ونهانا عن أكل أموال الناس بالباطل؛ يقول تعالى: ﴿وَلا تَأكُلوا أَموالَكُم بَينَكُم بِالباطِلِ﴾.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ]، وقال عليه الصلاة والسلام في وصف المنافقين: [أَرْبَعٌ مَنْ كنَّ فِيهِ كَانَ مُنافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفاقِ حَتّى يَدَعَهَا: إِذا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذا عاهَدَ غَدَرَ، وَإِذا خَاصَمَ فَجَرَ]، كما قال: صلى الله عليه وسلم: [لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ، وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ]، وقال كذلك: [مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا، أَدَّاهَا اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا، أَتْلَفَهُ اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ].

 

أما العلماء فيقولون إن الأمانات في حقيقتها هي ما أؤتمن عليه الإنسان المكلف من الأوامر والنواهي الشرعية؛ من صلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ وفرائضَ وحدودٍ وغير ذلك من التكاليف؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾. ومن الأمانات؛ الودائع التي للناس، فإن الواجب على المرء أداء الأمانة في ذلك حتى يحصل له الثواب من الله جلَّ وعلا، كما إن الإخلال في أداء الأمانة يُعرض المرء للعقاب. إن عدم رد الأمانات إلى أصحابها هو سُحتٌ نهانا الله عنه؛ يقول تعالى: ﴿وَتَرى كَثيرًا مِنهُم يُسارِعونَ فِي الإِثمِ وَالعُدوانِ وَأَكلِهِمُ السُّحتَ لَبِئسَ ما كانوا يَعمَلونَ﴾، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: [كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ].

 

جعل الشرع الحنيف كفارة خيانة الأمانة أن نستغفر الله تعالى، ونندم على ما فعلنا، ونعزم ألا نعود إلى ذلك أبداً، ونرد الأمانات إلى أصحابها.

ويقول أهل العلم إن خشية الإنسان من الفضيحة لا تبيح له عدم (رد الأمانات إلى أهلها) والتحلل منها، ولا يحملنا الخجل على عدم الوفاء وأداء الأمانة إلى أهلها، فإن الحياء من الله وإبراء الذمة والتحلل من الإثم أحق من الخجل من مقابلة أصحاب الحقوق، لنخلص أنفسنا في الدنيا قبل ألا يكون دينارٌ ولا درهمٌ يوم القيامة، فتُوفى حقوقهم من حسناتنا، أو يوضع علينا من سيئاتهم فنُلقى بها في النار والعياذ بالله‏.‏

 

وليست جميع الأمانات ماليةً كالنقود والأموال، وليست جميعها ماديةً كالأراضي والشقق والسيارات وما شابه، فبعض الأمانات أدبيةٌ ومعنويةٌ كأمانة الكلمة، وأمانة الفتوى، وأمانة حفظ السر، وأمانة الرعاية لمن نلزم برعايتهم، وغيرها من أماناتٍ مماثلة.

ومن أهم وأخطر ما علينا من ديونٍ -نكاد لا نتذكرها أو نشعر بها- ما صدر منا من غيبةٍ ونميمةٍ وكذبٍ وافتراءٍ وشهادة زورٍ ورمي محصناتٍ وتهكمٍ وسخريةٍ وتنابزٍ بالألقاب؛ إنها أمانات للآخرين يتوجب علينا ردها، وطلب السماح من أصحابها وأهلها. وتظل أهم الأمانات الواجب عدم التفريط فيها أبداً، ما تعلق بالعقيدة والعبادات؛ وفي مقدمتها الصلاة وصلة الأرحام.

 

أحبتي .. ليبدأ كلٌ منا بمحاسبة نفسه؛ هل يؤدي أمانات الله كما ينبغي؟ هل يصلي، هل يصوم، هل يزكي، على الوجه الذي يُرضي الله سبحانه وتعالى؟ هل توفرت له استطاعة الحج فحج؟ أم أجلّ وسوَّف حتى ضاعت فرصة أداء ركنٍ من أركان الإسلام؟ ثم لنسأل أنفسنا عن حقوق الغير علينا؛ هل نقوم بحقوق الوالدين كما ينبغي؟ هل نصل أرحامنا كما أمرنا الله؟ وماذا عن حقوق أزواجنا وأبنائنا، هل نؤديها على وجهها الأكمل؟ وحقوق إخواننا وأخواتنا كيف نؤديها؟ هل نؤدي حقوق الجيران؟ ثم حقوق الغير التي في رقابنا؛ من ديونٍ وعهودٍ ووعودٍ هل أوفينا بها؟ هل ما يزال لبعض الناس حقوقٌ علينا؟

حقوق الغير هي أماناتٌ علينا أن نؤديها ونردها إلى أهلها، والقاعدة التي نُلزم بها أنفسنا في التعامل مع حقوق الغير هي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: [لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ].

فلنسارع أحبتي إلى (رد الأمانات إلى أهلها) قبل أن يداهمنا الوقت ويحين الأجل وما تزال في رقابنا أماناتٍ لم نؤدها.

أعاننا الله سبحانه وتعالى على إنقاذ أنفسنا من حسابٍ عسير، والتصدق على أنفسنا بثوابٍ كبير.

 

https://bit.ly/2VHOVGW