الجمعة، 8 أبريل 2016

الحب الحقيقي

8 أبريل، 2016م
خاطرة الجمعة / ٢٦

(الحب الحقيقي)

قال لنا وصوته يشي بالأسى: "حِرتُ في أمر أخي"، سأله أحدنا: "خير، ما الأمر؟"، تنهد وقال: "تعلمون ما تعاهدنا عليه، أن نحاول تعويض ما فات: نبرأ من تقصيرنا، ونقضي ما يمكن لنا قضاؤه، ونعمل ما نستطيع من خير فيما تبقى لنا من عمر صلاةً وصياماً وزكاةً وتصدقاً وبِراً"، قلنا في وقت واحد: "نعلم"؛ فقد كان يذكرنا نحن الخمسة من المتقاعدين أرباب المعاشات بذلك العهد الذي جمع بيننا في صحبة طيبة لا يرجو منها أيٌ منا إلا وجه الله سبحانه وتعالى؛ فكلنا يرتاد نفس المسجد نصلي فيه صلواتنا اليومية بانتظام، وكلٌ منا وَجد في الجماعة عاصماً له من انتكاسةٍ لا شك أن الشيطان يحاول أن يوقعنا فيها فرادى. قال صاحبنا موضحاً بصوت يشعرك بالأسف: "المشكلة في أخي الذي يكبرني بعامين، أراه للأسف غير ملتزم: لا يواظب على الصلاة، وإذا صلى لا يصلي في المسجد رغم أنه على بعد أمتار من منزله، أما عن السنن الرواتب فحدث ولا حرج، ولا تسألوني عن قيامه الليل، معظم وقته ضائع ما بين مشاهدة التلفاز وقراءة الصحف، نادراً ما أراه يقرأ في المصحف، إذا فتحت معه أي موضوع ديني يحاول دائماً أن يغير الحديث. لا أعرف كيف أتصرف معه. إنه أخي وحبي له هو (الحب الحقيقي) الذي يجعلني حريصاً على مصلحته كحرصي على مصلحة نفسي".
وجدت نفسي بعد تلك الكلمات استرجع شريط حياتي؛ فأرى نفسي في موقف شقيق صاحبنا وقت أن كنت غافلاً، وأرى نفسي مرة أخرى في موقف صاحبنا نفسه مع أكثر من شخص عزيز عليّ: صديق أو قريب أو زميل عمل، أراه على مثل هذه الحال وأتمنى له الهداية. تملكني إحساسٌ أن ما كنت أفكر فيه في تلك اللحظات هو بالضبط ما كان يفكر فيه الآخرون.
وبدأ النقاش: عرض كلٌ منا رأيه، وشرح صاحبنا بالتفصيل الأساليب التي لجأ إليها لإصلاح حال أخيه لكنها لم تفلح، وحكى أحدنا تجربته الشخصية في موقف مماثل.
في النهاية اتفقنا على عدد من النقاط:
* الأخ كبير في السن راشد عاقل، وهو وحده من تقع عليه مسئولية أعماله ويتحمل نتائجها.
* في حياة كل شخص منا جوانب مخفية لا يعلمها حتى أقرب الناس إليه ولعلها أفضل مما نراه في العلن.
* الأمر يحتاج إلى حكمة في التعامل وأي تصرف بعيد عن ذلك يجعل الموقف أكثر سوءاً.
* يبدو الأمر في بعض المرات للآخرين كما لو كنا نتباهى بصلاحنا رغم أنه نعمة من الله سبحانه وتعالى يذكرنا بها قوله في كتابه الكريم: ﴿كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا  إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾.
* استمرار التوجه بالدعاء إلى الله سبحانه وتعالى بالتثبيت لأنفسنا، وبالهداية لأحبائنا جميعاً.
عدت لنفسي وتذكرت كم قصرنا في حق الله، وكم ظلمنا أنفسنا، وكم ضيعنا من أيامنا وأوقاتنا، وكم قام غيرُنا بنصحنا فأَجَّلْنا وسَوَّفنا حتى ضاعت علينا فرص هداية واحدةً وراء أخرى .. إلى أن حانت لحظة معينة، لحظة إشراق، أو إفاقة من غفوة، أو تأثر بموقف معين، إنها لحظة الهداية، أجمل وأروع لحظة في حياة الإنسان، لا يُحس بها إلا من مر بها، تأتي بلذةِ إيمانٍ من الصعب وصفها، ورغم أنها لحظة فرحة إلا أنها غالباً ما تكون ممزوجة بالندم على ما فات ومضى، لكنها لمن لا يعرف تعيد للإنسان توازنه النفسي فيحس بطمأنينة وسكينة نفسٍ لم يحس بهما من قبل طوال حياته.
أيوجد أعظم من أن يُحس الإنسان بأنه في معية الله سبحانه وتعالى؟
أحبتي في الله .. عندما يتذوق المرء حلاوة الإيمان، يعلم أن لا شئ في الدنيا يعادل هذا الإحساس فيتمنى ألا يُحرم أحباؤه منه، وأن يشاركوه هذه الحلاوة، هذا هو (الحب الحقيقي) للآخرين، فمن كمال الإيمان أن تحب لغيرك ما تحب لنفسك، يقول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: [لا يُؤمِنُ أحَدُكُمْ حتى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسه].
الدنيا زائلة، ونحن راحلون عنها يقيناً، فلنزهد فيها ولا نأخذ منها إلا ما نتقوى به على أعمال الخير والبر لتكون زاداً لنا في الآخرة، يقول المولى عز وجل: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا*وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ﴾، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ﴾. ويقول عز من قائل: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾. ويقول الخبير العليم: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
فلنقدم لآخرتنا كل ما نستطيع من عمل، ولنحذر الغفلة؛ حيث يقول سبحانه وتعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ﴾. البعض منا للأسف تنطبق عليهم الآية الكريمة ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾، والبعض يُلههم الأمل فتنطبق عليهم الآية ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ حتى يصل بهم الأمر والعياذ بالله إلى أن يقولوا:﴿يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ﴾، أو يقول أحدهم: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾.
أحبتي ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾؟
أما آن لنا أن نفيق نحن ومن نحب من غفلتنا؟
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم والذكر الحكيم، وتجاوز عن تقصيرنا وتقبل أعمالنا، وهدانا أجمعين.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
https://goo.gl/MwzTnr