الجمعة، 19 أبريل 2019

على نياتكم تُرزَقون

الجمعة 19 إبريل 2019م

خاطرة الجمعة /١٨٣
(على نياتكم تُرزَقون)

كتب لي يقول: سأقص عليك قصةً واقعيةٍ غريبةً كنت أنا شخصياً شاهداً من شهودها؛ أنا مغتربٌ مقيمٌ في إحدى الدول العربية، ولي جارٌ في السكن، كبيرٌ في السن، يعمل في هذه الدولة منذ قرابة أربعين سنة، يعيش مع زوجته التي لم ينجب منها إلا بنتين، أصابه فشلٌ في الكبد فنُصح بإجراء عملية زرع كبدٍ في الصين. لم تكن العملية مضمونة النتائج، ومع تقدمه في السن كان احتمال فشلها أكبر من احتمال أن تنجح، حجز لإجراء العملية، وقبل أن يسافر فكر في مصير أمواله السائلة في البنوك إذا تُوفي أثناء العملية - وكان له ثلاثة ملايين درهمٍ هي كل ما ادخره طوال حياته - فتملكته فكرة حرمان إخوانه الذكور من حقهم في الميراث، حيث لم يكن على وفاقٍ معهم. كاد أن يكتب أمواله باسم زوجته ثم تراجع حيث أن من السهل على إخوانه إثبات أن عملية نقل أمواله إليها كانت صوريةً وتمت أثناء مرض الموت فيحصلون على ميراثهم بحكم محكمة. ماذا يفعل إذن؟ بعد تفكيرٍ طويلٍ خلص إلى أن التصرف الآمن هو أن ينقل أمواله كلها لشخصٍ كبيرٍ في السن موثوقٍ فيه؛ فلما كانت والدته متوفاةً أحضر حماته من بلده، ونقل إليها أمواله كلها المودعة في البنوك فصارت باسمها. ويشاء الله سبحانه وتعالى أن تموت حماته بأزمةٍ قلبيةٍ أثناء إجرائه العملية، وأن تنجح عمليته هو! أراد الرجل أن يستعيد أمواله ففوجئ بأن إخوان زوجته يقولون له لا أموال لك عندنا، هذه أموالٌ ورثناها عن أمنا؛ فضاع عليه كل ما كان ادخره طوال حياته، وعاد إلى نقطة الصفر من حيث كان قد بدأ، لا يملك درهماً، ولا يمكنه العمل في هذا العمر خاصةً مع حالته الصحية التي وصل إليها. يكاد يموت كمداً وهو يشاهد بأم عينيه إخوان زوجته يتمتعون بثروته وأمواله وينعمون بها؛ لقد ورثوه وما زال حياً!
إنها لقصةٌ عجيبةٌ .. سبحان الله .. كانت نيته أن يعاند شرع الله ويحرم إخوانه من ميراثٍ مستحقٍ شرعاً فعاقبه الله بحرمانه من كل أمواله، وبإحساسٍ مستمرٍ لا ينقطع بالحسرة والمرارة والندم! صدق القول المأثور (على نياتكم تُرزَقون).

ذكَّرني هذا الموقف بقصةٍ كنت قد قرأتها منذ فترةٍ، ربما كانت من نسج الخيال، لكن المهم ما فيها من عبرةٍ وعظة. تقول القصة أنه كان هناك ساقٍ يتجول بجرته الطينية في الأسواق يبيع الماء للناس. أحبه الناس لحسن خلقه ونظافته ولطرائفه التي يحكيها لهم. سمع الملك عن هذا الساقي فطلب من وزيره أن يحضره له. ذهب الوزير ليبحث عنه في الأسواق إلى أن وجده وأتى به إلى الملك، قال الملك له: من اليوم لا عمل لك خارج هذا القصر، ستعمل هنا في قصري؛ تسقي ضيوفي وتجلس بجانبي تحكي لي طرائفك. قال الساقي: سمعاً وطاعةً يا مولاي. عاد الساقي إلى زوجته يبشرها بالخبر السعيد. وفي كل يومٍ يلبس أحسن ما عنده ويغسل جرته ويقصد قصر الملك، يدخل الديوان، ويبدأ في توزيع الماء على ضيوف الملك، وحين ينتهي يجلس بجانب الملك يحكي له الحكايات والطرائف المضحكة، وفي نهاية اليوم يقبض ثمن تعبه ويغادر إلى بيته. بقي على هذه الحال مدةً من الزمن، إلى أن جاء يومٌ شعر فيه الوزير بالغيرة من الساقي بسبب المكانة التي احتلها في قلب الملك، وحين كان الساقي في طريقه عائداً إلى بيته تبعه الوزير وقال له إن الملك يشتكي من رائحة فمك الكريهة. تفاجأ الساقي وسأله: وماذا أفعل حتى لا أؤذيه برائحة فمي؟ فقال الوزير: عليك أن تضع لثاماً حول فمك عندما تأتي إلى القصر. قال الساقي: حسناً سأفعل. عندما أشرق صباح اليوم التالي وضع الساقي لثاماً حول فمه وحمل جرته واتجه إلى القصر كعادته. فاستغرب الملك منه ذلك لكنه لم يعلق عليه، واستمر الساقي يلبس اللثام إلى أن جاء يومٌ وسأل الملك وزيره عن سبب وضع الساقي للثام؛ فقال الوزير: أخاف يا سيدي إن أخبرتك أن تقطع رأسي. فقال الملك: لك مني الأمان فقل ما عندك. قال الوزير: لقد اشتكى الساقي من رائحة فمك الكريهة يا سيدي. أرعد الملك وأزبد، وذهب عند زوجته فأخبرها بالخبر، قالت: من سولت له نفسه قول هذا تُقطع رأسه ليكون عبرةً لكل من تسول له نفسه الانتقاص منك. قال لها: ونعم الرأي. في اليوم التالي استدعى الملك الجلاد وقال له: من تراه خارجاً من باب القصر حاملاً باقةً من الورد فاقطع رأسه. حضر الساقي كعادته في الصباح وقام بتوزيع الماء وحين حان وقت عودته إلى بيته أعطاه الملك باقةً من الورد هديةً له، وعندما هَمَّ الساقي بالخروج التقى بالوزير فقال له الوزير: من أعطاك هذه الورود؟ قال الساقي: الملك. فقال له: أعطني إياها؛ أنا أحق بها منك. فأعطاه الساقي الباقة وانصرف. وعندما خرج الوزير حاملاً باقة الورد رآه الجلاد فقطع رأسه. في اليوم التالي حضر الساقي كعادته ملثماً حاملاً جرته وبدأ بتوزيع الماء على الحاضرين، استغرب الملك رؤيته لظنه أنه قد قُطعت رأسه بالأمس، فنادى عليه وسأله: ما حكايتك مع هذا اللثام؟ قال الساقي: لقد أخبرني وزيرك يا سيدي أنك تشتكي من رائحة فمي الكريهة وأمرني بوضع لثامٍ على فمي كي لا تتأذى. سأله مرة أخرى: وباقة الورد التي أعطيتك؟ قال الساقي: أخذها الوزير مني وقال لي أنه أحق بها مني. فابتسم الملك وقال حقاً هو أحق بها منك؛ فحسن النية والضغينة لا تلتقيان.
شتان ما بين النية الصادقة الطيبة للساقي، والنية الخبيثة للوزير، و(على نياتكم تُرزَقون).

أحبتي في الله .. إنها النية، إن صلحت وكانت نقيةً صلح العمل، وإن كانت فاسدةً تنطوي على بُغضٍ أو خُبثٍ أو خديعةٍ أو حسدٍ أو شرٍ انقلبت على صاحبها فبَطُل عمله وخاب مسعاه.
النِّيَّة لغةً هي عزْم القلب على الشيءِ، وعقْد القلب على إيجاد الفعل جزماً.
وفي الشَّرع: هي قصد الطَّاعة، والتَّقرب إلى الله تعالى في إيجاد الفعل.
يُروى أنَّ رجلاً أتى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: يا رسولَ الله، الرَّجل يُقاتِل للمَغْنَم، والرَّجل يُقاتِل ليُذْكَر، والرَّجل يُقاتِل ليُرى مكانه، فمَن في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: [مَن قاتل لِتَكونَ كَلمةُ اللَّهِ أَعْلَى فهو في سبيلِ اللَّهِ]. يقول أهل العلم أي أمرٍ فرَّق بين ما لهذا الأخير من ثواب الدُّنيا وحُسن المآل في الآخرة، وبين هؤلاء الذين ليس لهم إلاَّ ما قَصَدوا إلى تحصيله مِن مغانمَ، أو صِيتٍ وشهرةٍ، أو رياء وسُمعة، ممَّا لا ينفعهم في الآخرة؟ إنَّها النيَّة، المقصد، والغرض، والغاية التي حركت كلاً منهم من أجل تحقيقها، وهي الطَّاقةَ الدَّاخليَّة التي دفعت بكلٍ منهم إلى هدفه. إنَّها النيَّة، ذلك الفعل القلبيُّ، الذي لا يراه أحدٌ إلاَّ الله سبحانه وتعالى. إنَّها النيَّة، التي بمقتضاها يكون الجزاء: إمَّا ثوابٌ، وإمَّا عقابٌ. إنَّها النيَّة، التي يغفل عنها بعضنا في تعبُّدِنا وسائر أعمالنا. والنيَّة هي الحدُّ الفاصل بين العمل الخالص لوجه الله تعالى وبين العمل الذي يُقصد به غيرُ الله تعالى.
والعمل بغير نيةٍ ناقصٌ غير مكتملٍ؛ فالنية أول أركان العمل، ولكي يكون العمل مقبولاً ينبغي توفر شرطين: الأول- إخلاص النية لله عز وجل؛ قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء﴾، وقال تعالى: ﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى . إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى﴾. وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا﴾، وقال تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ﴾، وقال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»]، وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ]. والعبادات لا تصحُّ ولا تُجزئ إلاَّ مقترنةً بالنيَّة، ولا ثوابَ عليها إلاَّ على أساس النيَّة.
أما الثاني- فهو موافقة العمل للشرع الذي أمر الله تعالى ألا يُعبد إلا به، وهو متابعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الشرائع؛ فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ عَمِلَ عَمَلاً ليسَ عليه أمرُنا هذا فهو رَدٌّ].

وعن نية الإنسان قال رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: [... إنَّما الدُّنيا لأرْبعَةِ نَفَرٍ: عبدٍ رَزقَهُ اللَّهُ مالاً وَعِلْمًا، فهو يَتَّقِي فيه رَبَّهُ، وَيَصِلُ فيه رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فيه حَقًّا، فَهذا بِأَفْضلِ المَنازِلِ، وعَبْدٍ رَزقَهُ اللَّهُ عِلْمًا، ولمْ يَرْزُقْهُ مالاً، فهو صادِقُ النيَّة، يقولُ: لو أَنَّ لي مالاً لَعَمِلْتُ بِعَملِ فُلانٍ، فهو بِنِيَّتِهِ، فأَجْرُهما سواءٌ، وعَبْدٍ رَزقَهُ اللَّهُ مالاً ولمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فهو يَخْبِطُ في مالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، لا يَتَّقِي فيه رَبَّه، ولا يَصِلُ فيه رَحِمَهُ، ولا يَعْلَمُ لِلَّهِ فيه حَقًّا، فهذا بِأَخْبثِ المنازِلِ، وعَبْدٍ لم يَرْزُقْهُ اللَّهُ مالاً ولا عِلْمًا، فهو يقولُ: لو أَنَّ لي مالاً لَعَمِلْتُ فيه بِعَملِ فُلانٍ، فهو بِنِيَّتِهِ؛ فَوِزْرُهما سواءٌ]. وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: [إِنَّما يُبْعَثُ النَّاسُ على نِيَّاتِهم]. فلا ينبغي أن يفهم أحدٌ من عموم قوله عليه الصلاة والسلام: [إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ] أن المعصية تنقلب طاعةً بالنية، كالذي يغتاب إنساناً مجاراةً لهوى غيره، أو يطعم فقيراً من مالٍ ليس ماله، أو يبني مدرسةً أو مسجداً أو يقيم موائد للإطعام بمالٍ حرامٍ، وقصده الخير، فهذا كله جهلٌ، والنية لا تغير في كونه معصيةً.
ومن رحمة الله سبحانه وتعالى بالمسلمين أن يتعدد الأجر بتعدد النية في العمل الواحد، و(على نياتكم تُرزَقون)؛ يقول العلماء أن المسلم إذا توضأ وصلى ركعتين ينويهما سنة الوضوء، يحصل له أجر سنة الوضوء، وإذا دخل المسجد بعد الوضوء صلى ركعتين ينويهما سنة الوضوء وتحية المسجد، يحصل له أجر سنة الوضوء وأجر تحية المسجد، وإذا توضأ ودخل المسجد ونوى سنة الظهر وسنة الوضوء وتحية المسجد حصل له ذلك كله، والحمد لله.
كما يغفل الكثير منا عن استحضار النية في المباحات لتكون طاعاتٍ وقرباتٍ، كأن نأكل ونشرب وننام بغير نية الاستقواء بذلك على الطاعة؛ قال أحد الصالحين: "أما أنا فأنام وأقوم فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي"؛ فكان يحتسب الأجر في النوم، كما يحتسبه في قيام الليل، لأنه أراد بالنوم التقوّي على العبادة والطاعة.
والنية محلها القلب؛ يقول العلماء أن الجهر بالنية لا يجب ولا يُستحب، بل الجاهر بالنية مبتدعٌ مخالفٌ للشريعة؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة قال: "الله أكبر" ولم يقل شيئاً قبلها، ولا تلفظ بالنية، ولا قال: أُصَلي صلاة كذا مستقبل القبلة أربع ركعاتٍ إماماً أو مأموماً، ولا قال: أداءً ولا قضاءً. لم ينقل عنه أحدٌ قط بإسنادٍ صحيحٍ ولا ضعيفٍ ولا مسندٍ ولا مرسلٍ لفظةً واحدةً منها، بل ولا عن أحدٍ من أصحابه، ولا استحسنه أحدٌ من التابعين، ولا الأئمة الأربعة.

أحبتي .. النية أمرها عظيم، ومع ذلك فهي سهلة الأداء لا تكلف مالاً ولا تتطلب جهداً ولا تحتاج إلا لقلبٍ ذاكرٍ غير لاهٍ ولا منشغلٍ بسفاسف الأمور. فلنواظب على استحضار النية في قلوبنا لكل عملٍ مباحٍ، حتى ولو لم يكن في ظاهره أنه عبادةٌ، ولنعدد نوايانا على العمل الواحد ما استطعنا تعظيماً للثواب، ولنحسن نوايانا ونجعلها دائماً طيبةً نقيةً خالصةً من أي خبثٍ أو سوءٍ أو شر.

اللهمَّ أَصلحْ نيَّاتِنا، ويسِّر لنا تذكرها عندَ كلِّ عملٍ من أعمالنا، وارزقْنا الإخلاص فيها، والعمل بها على سُنة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2PlgOAG