الجمعة، 17 يونيو 2022

فُرص لا تُعوض

                                                      خاطرة الجمعة /348


الجمعة 17 يونيو 2022م

(فُرص لا تُعوض)

 

كتب يقول: منذ مساء أمس وطفلي الصغير صحته ليست على ما يُرام؛ وعندما عدتُ مساء اليوم من عملي قررتُ الذهاب به إلى المستشفى. رغم التعب والإرهاق إلا أن التعب لأجله راحةٌ، كان المنتظرون في المستشفى كثيرين، قدّرتُ أننا ربما نتأخر أكثر من ساعةٍ، أخذتُ رقماً للدخول على الطبيب وتوجهتُ للجلوس في غرفة الانتظار، وجوهٌ كثيرةٌ مختلفةٌ؛ فيهم الصغير وفيهم الكبير، الصمت يُخيم على الجميع، يوجد عددٌ من الكتيبات الصغيرة استأثر بها بعض الحاضرين؛ منهم من هو مُغمض العينين لا تعرف فيم يُفكر، وآخر يُتابع نظرات الجميع، والكثير تُحس على وجوههم القلق والملل من الانتظار. يقطع السكون الطويل صوت المُنادي برقم كذا، الفرحة على وجه المُنادى عليه، يسير بخطواتٍ سريعةٍ نحو غرفة الطبيب، ثم يعود الصمت ليعم الجميع. لفت انتباهي شابٌ في مقتبل العمر، لا يعنيه أي شيءٍ حوله؛ لقد كان معه مُصحف جيبٍ صغيرٌ يقرأ فيه، لا يرفع طَرْفه، نظرتُ إليه ولم أُفكر في حاله كثيراً، لكن عندما طال انتظاري عن ساعةٍ كاملةٍ تحول نظري إليه، من مجرد نظرةٍ عابرةٍ إلى تفكيرٍ عميقٍ في أسلوب حياته ومحافظته على الوقت؛ ساعةٌ كاملةٌ من عُمري لم أستفد منها وأنا فارغٌ بلا عملٍ ولا شُغلٍ بل انتظارٌ مملٌ. أذَّن المؤذن لصلاة المغرب، ذهبنا للصلاة في مُصلى المستشفى، تعمّدتُ أن أكون بجوار الشاب صاحب المُصحف، وبعد أن أتممنا الصلاة سرتُ معه وأخبرته بإعجابي به لمحافظته على وقته؛ فكان حديثه يتركز على كثرة الأوقات التي لا نستفيد منها إطلاقاً، وهي أيامٌ وليالٍ تنقضي من أعمارنا دون أن نُحس أو نندم، أخبرني إنه أخذ مصحف الجيب هذا منذ سنةٍ واحدةٍ فقط عندما حثه صديقٌ له على المحافظة على الوقت، وأخبرني أنه يقرأ في الأوقات التي لا يُستفاد منها كثيراً أضعاف ما يقرأ في المسجد أو في المنزل، بل إن قراءته في المُصحف -زيادةٌ على الأجر والمثوبة إن شاء الله- تقطع عليه الملل والتوتر، وأضاف قائلاً إنه الآن في مكان الانتظار منذ ما يزيد عن الساعة والنصف، وسألني: "متى ستجد ساعةً ونصف ساعةٍ لتقرأ فيها القرآن؟" وقال: "إنها (فُرص لا تُعوَض)". تأملتُ ملياً فيما قال؛ كم من الأوقات تذهب سُدىً؟! وكم لحظةٍ في حياتي تمر ولا أحسِب لها حساباً؟! بل كم من شهرٍ مرّ عليّ ولم أقرأ القرآن؟!" تأملتُ حالي؛ وجدتُ أني محاسَبٌ والزمن ليس بيدي، فماذا أنتظر؟ قطع تفكيري صوت المنُادي؛ ذهبتُ إلى الطبيب. وبعد أن خرجتُ من المستشفى أسرعتُ إلى أقرب مكتبةٍ فاشتريتُ مُصحفاً صغيراً. قررتُ أن أحافظ على وقتي، سألتُ نفسي -وأنا أضع المُصحف في جيبي- كم من شخصٍ سيفعل ذلك؟ وكم من الأجر العظيم يكون للدال على ذلك؟

 

أحبتي في الله.. ما أسعد مثل هذا الشاب؛ استفاد من (فُرص لا تُعوَض)، وأهمها فرصة وقت الانتظار.

وهذا رجلٌ في الثمانين من عُمره، نادمٌ على عدم اغتنام الفرص حينما كانت متاحةً أمامه، كتب يقول إلى أولاده بشكلٍ خاصٍ، وإلى المهتمين بشكلٍ عامٍ: تهاونتُ في أمور ديني ولم أترك بيني وبين الله باباً مفتوحاً؛ كان من الممكن أن أصوم يومين في الأسبوع، بُمعدل مائة يومٍ في السنة، ولو فعلتُ لكنتُ ممن يدخلون الجنة من باب الريان فهو للصائمين، ولكنّي فهمتُ الدرس متأخراً عندما أصبحت لا أستطيع الصيام! تمنيتُ لو أنني قرأتُ يومياً بضع صفحاتٍ من القُرآن عندما أستيقظ وعندما أذهب إلى النوم مواظباً على ذلك يوماً بعد يومٍ، لو فعلتُ لكنتُ من أهل القرآن؛ أهل الله وخاصته، ولكني أدركتُ تقصيري عندما ضعُفَ بصري! تمنيتُ لو أنني واظبتُ على ترديد دعاء "لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ"، لو فعلتُ لغُفرت لي به ذنوبٌ كثيرةٌ، ولكني كُنتُ أستثقله، ويضيق عنه صدري! كُنت أترُك صلاة الفجر وأنا أعلم جيداً أن ترك صلاة الفجر من صفات المنافقين. ليتني كنتُ أُصلي ركعتين من قيام الليل يومياً قبل النوم، كُنت أعلم أنها سترفعني درجاتٍ عند الله؛ فلو كنتُ قمتُ بعشرِ آياتٍ لم أُكتَبْ منَ الغافلينَ، ولو قمتُ بمائةِ آيةٍ كُتِبَت منَ القانتينَ، ولو قرأتُ ألفَ آيةٍ كُتِبَت منَ المُقنطِرينَ، ليتني كنتُ منهم قانتاً ومُقنطراً. ليتني لم أرفع صوتي على أُمي وأَبي؛ فهما الجسر الذي كان من المُمكن أن أعبر عليه إلى الجنة. وصل عُمري عشرين عاماً ولم أسلك أي بابٍ إلى الجنة. ثم صار أربعين عاماً ولم أستطع الفكاك من مشاغل الدُنيا وزينتها. ثم صار ستين عاماً وأنا أسعى لتأمين مُستقبل أولادي. ثم صار ثمانين عاماً وتخلى عني أغلب الناس وعلى رأسهم من أفنيتُ عُمري لأجلهم. ندمتُ على ما فرطتُ وتمنيتُ الرجوع بالزمن إلى الوراء وأعيش حياتي بطريقةٍ مختلفةٍ؛ لأن الدُنيا رخيصةٌ وفانيةٌ. أنا وحيدٌ وسَفْرِي بَعيدٌ، وَزادي قليلٌ لا يُبلغني مُرادي، وَقُوَتي استهلكها أولادي، والموتُ كل يومٍ عليّ يُنادي. أيقنتُ الآن أن الدُنيا مهما عَظُمَت فهي حقيرةٌ، وأن العُمر مهما طال فهو قصيرٌ. يا أولادي؛ سردتُ لكم قصتي باختصارٍ كيلا تندموا مثلي بعد فوات الأوان. وإلى كل شخصٍ مُقصرٍ في طاعة الله أقول: خُذ مني وصية الرسول ﷺ والتي لم أكن أُعيرها اهتماماً، لأني كنتُ وقتها مغروراً بشبابي ومفتوناً بدنياي، فأُغشيت عينايّ عن فهم هذا الحديث الذي يقول: [اغتنِمْ خمساً قبلَ خمسٍ: شبابَك قبلَ هَرَمِك، وصحتَك قبلَ سقَمِك، وغِناك قبلَ فَقرِك، وفَراغَك قبلَ شُغلِك، وحياتَك قبلَ مَوتِك].

 

وحتى لا تضيع منا الفُرص، ثم نندم على ضياعها وقت لا ينفع الندم، يضرب لنا علماؤنا الأفاضل أمثلةً على (فُرص لا تُعوَض) لنغتنمها، ومنها الطاعات اليومية: الصلوات الخمس والوضوء لها، استعمال السواك عند الوضوء والصلاة، الترديد خلف المؤذِّن، صلاة الجماعة، السُنن الرواتب، صلاة الضُّحَى، قيام اللَّيل والوِتر، أذكار الصباح والمساء، أذكار اليوم والليلة: عند دخول البيت والخروج منه، عند دخول المسجد والخروج منه، عند دخول الخلاء والخروج منه، عند تناول الطعام والشراب، دبر الصلوات المكتوبات، عند النوم وعند الاستيقاظ، وغير ذلك. كما بينوا لنا أمثلةً على الطاعات الأسبوعيَّة: صلاة الجمعة، قراءة سورة الكهف ليلة الجمعة أو يومها، الإكثار من الصلاة على النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ليلة الجمعة ويومها، صيام الإثنين والخميس. وأوضحوا لنا أمثلةً على الطاعات الشهريَّة: صيام ثلاثة أيَّام من كل شهرٍ هجري. وكذلك أمثلةً على الطاعات السنويَّة أو الموسميَّة: الزكاة لمَن توفَّرت فيه شروط وجوبها، الحجّ لمَن استطاعَ إليه سبيلاً، صوم رمضان، صلاة التراويح جماعةً في المسجد، اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، صلاة العيدَين، صيام ستة أيَّامٍ من شوال، صوم عاشوراء ويومٍ قبلَه أو يومٍ بعدَه، صوم يوم عرفة، الإكثار من الأعمال الصالحة في العشر الأُوَل من ذي الحجَّة. كما أن هناك أعمالاً تُشرَع في كلِّ وقتٍ وحينٍ، منها: صلاة النافلة في غير أوقات الكراهة، صيام التطوع، العُمرة، ذِكر الله، تلاوة القرآن، الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، الدُّعاء، الاستغفار، برّ الوالدَين، صلة الرَّحِم، الصدقة، إفشاء السَّلام، حُسن الخُلُق، عِفَّة اللِّسان، محبَّة الله، خشيته، رجاؤه، التوكُّل عليه، الرِّضا، اليقين، الاستعانة به سبحانه وتعالى. وهناك أعمالٌ ذوات سببٍ، تُشرَع إذا وُجِدَ سببها؛ منها مثلاً: عيادة المريض، صلاة الجنازة واتباعها، التعزية، تشميت العاطس، رَدّ السلام، إجابة الدَّعْوَة، صلاة الاستخارة، صلاة التوبة، صلاة الكسوف، صلاة الاستسقاء، الإصلاح بين المتخاصمَين، غضّ البصر، كفّ الأذى، الصبر على الأذى والبلاء... وغير ذلك.

 

يقول أهل العلم إن الوقت أغلى ما يملكه الإنسان، وهو الثروة الوحيدة التي لا يُمكن تعويضها، فما ضاع منه لن يعود، وإنّ أهل الجنة لن يتحسروا من الدنيا إلا على الوقت الذي مضى ولم يذكروا فيه اسم الله. ولنتذكّر الموت وساعة الاحتضار حين نقول: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾ فيقال لنا حينئذٍ انتهى الوقتﱡ ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ﴾. يقول تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى﴾. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [نِعْمَتانِ مَغْبُونٌ فِيهِما كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفَراغُ]؛ فمن ملك الصحة والفراغ ولم يسعَ لاستثمارهما في إصلاح آخرته ودنياه فهو التعيس حقاً. وقال عليه الصلاة والسلام: [لَا تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ] وذكر منها: [عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ]، و[شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ]. إنّ ساعةً واحدةً من وقتنا نستطيع فيها أن نمسح دمعة يتيمٍ، أو نُعين عاجزاً، أو نُغيث ملهوفاً، أو نصل رحماً، أو نقرأ جُزءاً من القرآن، أو نُصلي بعض ركعاتٍ تطوعاً.

إن ما مضى من الوقت لا يعود، كانت فيه (فُرص لا تُعوَض)؛ ويُقال في هذا المعنى: «ما من يومٍ يمرُّ على ابن آدم إلا وهو يقول: يا ابن آدم، أنا يومٌ جديدٌ، وعلى عملك شهيدٌ، وإذا ذهبتُ عنك لم أرجع إليك، فقدِّم ما شئتَ تجده بين يديك، وأخِّر ما شئتَ فلن يعود إليك أبداً، يا بن آدم إنما أنت أيامٌ، فإذا ذهب يومك ذهب بعضك».

 

أحبتي.. فليُحاسب كلٌ منا نفسه: ماذا عمِل في يومه الذي انقضى؟ وكيف أنفق وقته؟ هل ازداد فيه من الحسنات أم ازداد فيه من السيئات؟

لنوطن أنفسنا على اغتنام الوقت واستغلال ساعات العُمر في طاعة الله. ولنَحْذَر الغفلة؛ فهي مرضٌ خطيرٌ أفقد الكثيرين الحسَّ الواعي بالأوقات واغتنامها؛ فاشتغلوا بالمُلهيات والشهوات حتى فاجأهم هادم اللذات. ولنَحْذَر التسويف؛ فإننا لا نضمن أن نعيش إلى الغد، وإن عشنا فلا نأمن المعوِّقات من شُغلٍ أو مرضٍ، فلنبادر إلى اغتنام أوقاتنا في طاعة الله، ولا نستهين بالدقائق فهي تتجمع لتكون ساعاتٍ، وما أعمارنا -مهما طالت- إلا دقائق وساعات. احمل معك كتيباتٍ صغيرةً ومصحف جيبٍ في سيارتك ونسخةً من القرآن الكريم في هاتفك المحمول، للقراءة أوقات الانتظار في المُستشفيات والعيادات والمصارف، وعند إنهاء المُعاملات في المصالح والمؤسسات، وغير ذلك من أماكن وأوقات.

وفقنا الله إلى اغتنام الأوقات، واقتناص (فُرص لا تُعوَض) نشغلها بذِكره وشكره وحمده وتسبيحه، وفيما يُرضيه -سبحانه وتعالى- من أعمالِ خيرٍ وبِرٍ وتقوى.

https://bit.ly/3zRPSBQ