الجمعة، 7 أكتوبر 2016

الآن حصحص الحق

الجمعة 7 أكتوبر 2016م

خاطرة الجمعة /٥٢
(الآن حصحص الحق)

أمسك بالقلم وكتب في دفتر مذكراته: [ انتهى منذ قليل الاحتفال السنوي بعيد ميلادي، كان احتفال هذا العام مميزاً؛ حضره عددٌ كبيرً من أصدقائي المقربين وأفراد أسرتي الغاليين.
أتذكر هذا الوقت من كل عام، وقت انتهاء الحفل ومغادرة الأهل والأصدقاء، كنت أسرع إلى هداياهم لأفض أغلفتها، وكنت أشعر بسعادة غامرة لما يقدمونه لي من هدايا متنوعة.
أما هذا العام فقد حدث أمرٌ مختلف، بعد مغادرة أهلي وأصدقائي لم أسرع لفض أغلفة هداياهم، وإنما تملكني شعورٌ قويٌ وألحت علي رغبةٌ ملحةً في الاختلاء بنفسي؛ توجهت إلى شرفة المنزل، مددت جسمي على أريكة، واضعاً يدي خلف رأسي، ناظراً إلى السماء وقد اكتمل فيها القمر الليلة وكأنه يشاركني احتفالي بعيد ميلادي الأربعين. أخذت نفساً عميقاً، وأغمضت عيني، وأرخيت العنان لأفكاري، وها أنا أكتبها وأسجلها بأمانة كما حدثت قبل أن يطويها النسيان.
أربعون سنة مضت، ماذا حققت فيها؟، وهل سأعيش أربعين أخرى؟، غالباً لن أكمل الأربعين الثانية، إذن فقد تجاوزت نقطة منتصف العمر، وقد تكون هذه النقطة أقرب للنهاية مما أتصور .. أليس من الحكمة أن أقدم لنفسي كشف حساب عن تلك السنوات .. ألم يأنِ لي أن أقف وقفة صادقة مع نفسي أنظر إلى ما مضى من حياتي؟.
ها هو شريط ذكرياتي يمر في مخيلتي كما لو كان فيلماً من أفلام السينما .. تمر أمام عيني الكثير من المواقف .. أتذكر أياماً حلوة وأخرى مرة .. وأتذكر أشخاصاً تركوا بصماتهم على شخصيتي .. تعود إلى مخيلتي صور لأحداث مرت بي أثرت في كما لم يؤثر غيرها.
تذهب أفكاري إلى أيام الطفولة الأولى .. ما أجملها وما أحلاها .. براءة ولهو ولعب وانطلاق بغير حدود .. أسرة سعيدة ووالدان ليس لهما مثيل في الدنيا كلها حباً وحناناً وحكمة .. رحمة الله عليهما .. وأصدقاء الطفولة والصبا .. عالم من المرح .. لا فيها مسئولية ولا أعباء ولا قيود تلك التي بدأت بالتدريج مع أول يوم لي في المدرسة .. وما أدراك ما المدرسة؟ كانت في عيوننا ونحن صغار عالماً آخر، نحبه، ننام كل ليلة نحلم به، نترقب الصباح لنذهب إليه .. آهٍ على ذلك الزمن الجميل .. وككل شئٍ جميل ينتهي سريعاً.
تمضي بنا الأيام مسرعةً نحو مرحلة الصبا تاركة خلفها مرحلة الطفولة بكل ما فيها من براءة وسذاجة .. ها أنا أتذكر أصدقائي الذين تعرفت عليهم في المدرسة الإعدادية وفي المدرسة الثانوية .. كما ما زلت أتذكر أصدقائي من الجيران الذين يسكنون معنا في نفس الحي.
أما أيام الشباب التي لا تُنسى بحق فقد كانت في مرحلة الدراسة الجامعية .. كان أصدقائي فيها هم المميزون بالفعل .. لا أنسى رحلاتنا معاً، وترددنا على المحلات في وسط المدينة، وحرصنا على زيارة المتاحف والمعارض، ومشاركاتنا في الأمسيات الثقافية، وجلساتنا على ضفاف نهر النيل .. لا أنسى نجاحاتنا وإخفاقاتنا في الدراسة .. كما لا أنسى أساتذتنا في الجامعة الذين علمونا الكثير من المهارات وأكسبونا القيم أكثر مما نقلوا إلينا علومهم ومعارفهم .. كانت تلك أجمل أيام حياتي.
وكما أن لكل شيء نهاية، فقد انتهت هذه المرحلة بتخرجنا في الجامعة، ليبدأ مسار جديد من مسارات الحياة، ومشهد جديد من مشاهدها .. أتذكر الآن مشهد التجنيد وخدمة العلم؛ حيث تحتشد في ذاكرتي صور كثيرة لمواقف الوطنية والرجولة  .. أيام مرت سريعة هي الأخرى لكنها كانت ملحمة لا تنسى في التضحية والفداء .. تعلمت منها النظام والالتزام والوفاء والولاء .. وكان أصدقاء هذه المرحلة، على قلتهم، من أوفى الأصدقاء.
وتمضي رحلة الحياة .. ويستمر شريط الذكريات؛ فهذا مقر أول وظيفة عملت بها .. هذه هي الغرفة التي كان بها مكتبي .. أتذكر زملائي في العمل .. ورؤسائي الذين تعلمت منهم الكثير من الخبرات .. وإن أنسى لا أنسى فرحة أول مرتب أتسلمه .. جنيهات معدودة لكن فرحتي بتسلمها لا توصف. وتمر الأيام .. أتنقل من عمل لآخر، ومن وظيفة إلى أخرى، ومن منصب لمنصب أعلى منه.
كنت أحس خلال هذه الفترة بأن العمل هو كل شيء بالنسبة لي .. إلى أن تعرفت على شريكة حياتي .. لتبدأ مرحلة أخرى من مراحل الحياة .. مرحلة النضج والاستقرار .. مرحلة الرجولة الكاملة .. مرحلة تحمل المسئولية الحقيقية في الحياة خاصةً عندما رزقنا الله بالأطفال .. أصبحت مسئولياتي مضاعفة.
بدأت منذ فترة أحس بأنه بات من الضروري أن أعيد صياغة أهدافي في الحياة وترتيب أولوياتي فيها، وها أنا ذا وأنا أحتفل بعيد ميلادي اليوم ما زلت مستمراً في عملي، لي بيتي وأسرتي، وعلاقات مع العديد من الأقارب والزملاء والأصدقاء .. أما المشاكل والمتاعب فهي تحيط بي من كل جانب .. في العمل وفي الأسرة وحتى في السيارة! .. {لكن .. }.. وما أصعب ما يأتي بعد {لكن} .. أما وأني أكتب الآن هذه المذكرات بكامل الصدق مع النفس، فلا يمكن إلا أن أكون صريحاً مع نفسي؛ فماذا عساي أن أكتب بعد {لكن}؟.
آن لي أن أعترف وأسجل اعترافي كتابة، بكامل إرادتي، طواعية بغير إجبار، وأقول لنفسي: (الآن حصحص الحق)؛ فقد عشت حياتي كلها ليس لي من هَمٍّ سوى الجري وراء تحقيق أهدافي المادية في الحياة، من دراسة ووظيفة وزواج، هدف يتلوه هدف، حققت كثيراً مما كنت أسعى إليه، ومع ذلك كنت أحس دائماً بأن هناك شيئاً ما ينقصني، كنت في أغلب الأحيان في منافسة مع الآخرين، أفوز مرات، ويفوزون مرات، لكن حتى في المرات التي أفوز فيها لا أحس بطعم النجاح أو حلاوة الانتصار أو الفرحة بعد الإنجاز .. كان هناك دائماً شيء ينقصني .. يؤرقني .. ينغص علي حياتي .. شيء في داخلي .. إحساس بالذنب والتقصير .. ولعلها حانت الآن لحظة الاعتراف بالحقيقة دون مواربة (الآن حصحص الحق) .. كانت الدنيا هي محور همي، ومدار اهتمامي، وكنت لاهياً عما هو أهم .. كنت بعيداً عن ديني .. عن حياتي الروحية .. كنت مقصراً في هذا المجال .. صحيح أنني مسلم، مؤمن، نشأت في بيئة صالحة، تشبعت من صغري بالقيم النبيلة، أحب الخير للجميع، أساعد كل من أستطيع مساعدته، أحرص على عمل الخير، سمعت كثيراً ورددت كثيراً عبارة {الدين المعاملة}، وربما كانت هذه العبارة، رغم صحة معناها، سبباً في تركيزي عليها كما لو كان اهتمامي بها يمكن أن يغنيني عن أداء ما يتوجب علي أداؤه من العبادات .. اهتممت بالمعاملات، أما العبادات فأعترف بأنها لم تكن تحظى بما يجب من اهتمام في حياتي .. للأمانة أكتب عن الصلاة كمثال .. لم أكن أحرص على أداء الصلاة بانتظام .. كنت أصلي الجمعة في المسجد، وكنت أحرص على صلوات الأعياد، أما باقي الصلوات فقلما صليتها، إلا في شهر رمضان حيث كنت أعطي الصلاة اهتماماً أكبر .. كنت بالفعل مقصراً .. كانت حجتي بيني وبين نفسي أن العمل يستغرق الكثير من وقتي وطاقتي، والانتقال من البيت إلى العمل ومن العمل إلى البيت يستغرق ما بقي من وقت وطاقة .. لم أترك الصلاة  جحوداً بها أو إنكاراً لها، حاشاني، وإنما تركتها مع إيماني الكامل بها واعتقادي وتسليمي بفرضيتها، لكنني تركتها تكاسلاً وتشاغلاً عنها .. وكان الشيطان يزين لي ذلك ويهمس في أذني دائماً: {ربك رب قلوب}، وكان لهذه العبارة في نفسي تأثير كبير، أرددها بيني وبين نفسي حينما أسمع الأذان للصلاة وأتكاسل عنها، كانت هذه العبارة كالمخدر .. تزين لي ما أنا عليه من تهاون وتفريط .. وفي هذه اللحظة الفارقة .. وفي هذا اليوم الفاصل .. يحق لي أن أتساءل هل من الحكمة أن أستمر على ذلك؟ أمن الصواب إهمال الجانب الروحي في حياتي إلى هذه الدرجة؟ وماذا عن ابني الصغير الذي صار مميزاً الآن ويعتبرني مثله الأعلى؟ هل أنا المثال والقدوة له؟ أما آن الأوان لأن أراجع نفسي لأصحح مساري؟ أما حان وقت التفكير في يوم الحساب عندما أُسأل عن نفسي وعملي وأُسأل عمن أعول وأرعى حفظت أم ضيعت؟.
أكتب الآن هذه الأفكار والخواطر في أول أيام سنةٍ جديدة من عمري بدأت للتو، ولا أدري كم بقي لي من أجل .. أسجل بقلمي أنه أول عيد ميلاد لي أشعر بعد انتهاء الاحتفال به بأني أقترب من نهاية أجلي .. فهلا استفدت من خصوصية هذه اللحظة الملهمة، وهذه الصحوة الإيمانية التي إن مرت قد لا تعود أبداً؟
هذا إذن هو الوقت المناسب لأقول لنفسي: (الآن حصحص الحق) .. وها أنا الآن أعاهد الله سبحانه وتعالى بأني من هذه اللحظة سوف ألزم نفسي بالصلاة على الوجه الذي يرضيه عني .. فهي أول ما سوف أحاسَب عليه .. إن قُبلت قُبل سائر عملي .. سوف أصلي صلواتي الخمس اليومية مع جماعة المسلمين في المسجد ما استطعت .. كفاني تأجيلاً وتسويفاً .. كفاني إهمالاً وتكاسلاً .. لقد كنت في غفلة من أمري أحمد الله سبحانه وتعالى أن أخرجني منها.
أترك الآن قلمي ودفتر مذكراتي لأذهب حالاً للوضوء وصلاة ركعتي شكر لله، داعياً الله عز وجل أن يسامحني على ما مضى من تقصير، ويعينني على الانتظام في الصلاة والمحافظة عليها والخشوع فيها، وقضاء ما فاتني منها .. وأن يثبتني ويزيد إيماني ].

أحبتي في الله .. كانت تلك سطور كتبها صديقي في دفتر مذكراته منذ ما يزيد على أربع سنوات، وهو الآن ولله الحمد من الملتزمين بصلاة الجماعة المواظبين عليها، سمح لي بالاطلاع عليها، وطلب مني نقلها لكم قائلاً: "لا يمكن أن تتصور حياتي الآن بعد انتظامي في الصلاة .. راحة نفسية، وطمأنينة، ولذة لم أحس بها من قبل أبداً .. يكفي أني قد تخلصت من الإحساس بالذنب والتقصير تجاه الله سبحانه وتعالى .. لن تصدق كيف تغيرت أحوالي وتعدلت وتبدلت في البيت وفي العمل .. زاد رزقي وبارك الله لي في كل عمل أعمله .. صار نومي في الليل عميقاً هانئاً، لم أعد في حاجة إلى مهدئات .. أنهض من فراشي لصلاة الفجر في المسجد نشيطاً .. لقد أصبحت الآن سعيداً بمعنى الكلمة، حتى مع وجود بعض المشكلات، أحس بأن الله معي بالفعل يلهمني كيف أحلها أو أتكيف معها .. للأمانة لم يكن الأمر في بدايته سهلاً .. كان شئ في نفسي ما يزال يقاوم التغيير، لكني كنت مصراً على عدم إضاعة هذه الفرصة .. كان جهاداً حقيقياً مع النفس .. تغلبت عليه بتوفيق من الله ثم بإرادةٍ قوية وعزيمةٍ لا تلين وإصرارٍ لا يقبل بالهزيمة أو الاستسلام .. إلى أن سكتت وللأبد أصوات مقاومة التغيير بداخلي"، وبلهجة صادقة حانية قال: "اسمح لي أن أطلب منك نشر هذه السطور من دفتر مذكراتي؛ فقد يستفيد منها غيري، ولو استفاد شخص واحد فقط لكان ثلاثتنا: أنا وأنت وهو من الفائزين بإذن الله"، واستطرد يقول: "ما أروعها من جائزة تلك التي أشار إليها المصطفى عليه الصلاة والسلام وهو يحدث علي بن أبي طالب رضي الله عنه ويقول له: [.. فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ]".

أحبتي .. لا أجد ما أضيفه إلى ما كتبه وقاله صديقي العزيز، سوى الدعاء له بالتثبيت، ولنفسي ولكم ولجميع المسلمين بانتهاز لحظة صدق نخاطب فيها نفسنا الأمارة بالسوء بالقول (الآن حصحص الحق) فتتحول إلى نفسٍ لوامة تُفيقنا من غفلتنا وتوجهنا إلى أن نصحح المسار فنسعد بها وقد تحولت إلى نفسٍ مطمئنة.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.

https://goo.gl/l1MESp