الجمعة، 4 يوليو 2025

الأمر كله لله

 

خاطرة الجمعة /506

الجمعة 4 يوليو 2025م

(الأمر كله لله)        

 

تبدأ القصة حين فقد فلاحٌ حصانه الوحيد الذي يُعينه على حرث أرضه وزراعة حقله، وبينما هو جالسٌ يتأمل الحقل ويُفكر فيما يُمكن أن يفعل، يُحيط به عددٌ من جيرانه ومُحبيه وهُم يندبون حظه مُتسائلين: "أية مُصيبةٍ حلت بك؟!"، عندها يلتفت إليهم قائلاً: "ربما.. من يدري؟!" لينفَضّوا من حوله. في اليوم التالي يُفاجأ الفلاح بعودة الحصان إلى الحقل وخلفه ستة خيولٍ بريّةٍ تفوقه قوةً وجمالاً، فيعمد إليها ويُدخلها في الحظيرة التي بالكاد تتسع لها، قبل أن يعود إليه جيرانه ومُحبوه فرحين ليهنئوه وهُم يُرددون: "أي خير ٍأصابك؟"، فيهز الفلاح رأسه مُكتفياً بقوله: "ربما.. من يدري؟". في اليوم الثالث يتسلل الابن الوحيد للفلاح إلى حظيرة الخيول في غفلةٍ من والده ويمتطي أحد الجياد البريّة بعد أن يُسرجه عنوةً، ويخرج به من الحظيرة، لكن الجواد غير المُروَّض لا يستسلم لرغبة الابن في تدجينه ويُلقي به بعيداً فيقع على الأرض وتُكْسَر قدمه. ومرةً ثالثةً يعود جيران الفلاح ومُحبوه إليه ويواسونه وهُم يصرخون: "أية مُصيبةٍ حلت بك؟!"، ليكتفي كعادته بهز رأسه مُردداً: "ربما.. من يدري؟". في اليوم الرابع يأتي ضابط التجنيد من العاصمة لأخذ شباب القرية إلى الجيش -بحسب النظام المُتبع في الدولة- ويقضي نهاره وهو يجمع شُبّان القرية الأصحاء الصالحين للخدمة العسكرية، وعندما يصل إلى منزل الفلاح ويُشاهد حال ابنه الكسير يتركه ويمضي بسبب عجزه، وقبل أن يُغادر القرية يلتف جيران الفلاح ومُحبوه حول منزله حاملين له التهاني وهُم يرددون: "أي خيرٍ أصابك؟"؛ فيرد الفلاح قائلاً: "ربما.. من يدري؟".

 

أحبتي في الله.. إنه التسليم الكامل بأن (الأمر كله لله) وأن الله يعلم وأنتم لا تعلمون، وأنه سُبحانه وتعالى يُلهم المؤمنين -الصالحين المُتوكلين عليه حق التوكل- الصواب ويكتب لهم ما فيه خيرهم؛ فهذا شابٌ كتب يقول: كُنتُ وعائلتي نسكن في شبه سِردابٍ تحت بيت خالي، كُنا فقراء وجَدّي أسكننا عنده حتى لا ندفع إيجاراً. فتح الله على والدي حتى تمكن من شراء بيتٍ مُستقلٍ وشرع في ترميمه. استغرقه الأمر سنواتٍ من الديون والتعب الذي لا يُستهان به، وحين انتهى وحان وقت الرحيل كُنا قد قضينا في منزل خالي حوالي 12 سنةً، كُنا مُتصالحين في تلك الفترة، ولم يشأ خالي أن نفترق؛ لذا فقد حاول كثيراً إيجاد حلولٍ أخرى لذلك المنزل مُقابل بقائنا معهم، أو تأجيل الانتقال على الأقل لما بعد رمضان، وحاولت أُمي وحاول الجميع دون فائدةٍ؛ فقد كان أبي مُصرّاً بطريقةٍ غريبةٍ، وبدون أي مُبررٍ، سننتقل قبل نهاية رمضان. وفعلاً حصل الانتقال، و-سُبحان الله- الانتقال الذي حسبناه شراً أنقذ حياتنا جميعاً؛ ففي العشر الأواخر من رمضان توفي جَدّي والد أُمي، وخالي الذي كُنا نسكن عنده تشاجر مع أُمي شجاراً كبيراً لأنه أراد وِرْثها. كلما أتخيل ما كان خالي سيفعله لو بقينا عنده آنذاك، أقول الحمد الله الذي سترنا بستره.

 

صحيحٌ أن (الأمر كله لله)؛ فهذا شابٌ اضطُر لدراسة اختصاصٍ جامعيٍ لا يُطيقه، وعندما تخرَّج إذا به يحصل على وظيفةٍ مرموقةٍ مع راتبٍ مُغرٍ وإقامةٍ على حساب الشركة التي توظف فيها!

وآخر تخرَّج، وكان ترتيبه الأول على دفعته، أسرع الخُطى يُريد أن يلحق بالحافلة كي يصل في الوقت المُناسب إلى حفل التخرج؛ فإذا به يتأخر عن الحافلة؛ فيركب الحافلة التالية فيرى وهو في طريقه الحافلة الأولى وقد اصطدمت بشاحنةٍ ومات كل من كانوا فيها من الركاب!

 

يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾، هذه الآية تعني أن الله هو الخالق والمُدَّبر والمالك لكل شيءٍ، وأن كل ما يحدث في هذا الكون هو بإرادته ومشيئته، وليس لأحدٍ من خلقه أية سُلطةٍ عليه؛ لذا فإن هذه الآية تحمل معاني التوحيد المُطلق لله، واليقين بقُدرته وسلطانه، والتوكل عليه في كل الأمور، وأن المؤمن الحق هو من يُفوِّض أمره كله لله، ويُسلِّم له في كل قضائه وقَدَرِه.

 

يقول أهل العِلم إن المؤمن لا ييأس أبداً من رحمة الله مهما ضاقت عليه السبل وتقطعت به الأسباب؛ إذ أن (الأمر كله لله) يقول تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾؛ فكيف ييأس من يعبد رباً كريماً رحيماً قديراً؟ كيف يقنط المؤمن وهو يعلم أن كل شيءٍ بقضاءٍ وقَدَر؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾. إذا علم المؤمن هذا فوَّض أمره إلى الله وأسلم نفسه إليه، فوثق به واعتمد عليه، وأخذ بالأسباب المشروعة في جلب الخير ودفع الضُر، فصار مُتوكلاً على الله، فإذا نزلت به حاجةٌ أنزلها بالله سُبحانه وفوَّض أمره إليه بصدقٍ وتضرع ٍوإخلاصٍ فيرى من لُطفه ما لا يخطر على البال؛ يقول تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ﴾.

 

ويقول العلماء إن ابن آدم قصير النظر، محدود الإدراك، لا يكاد يرى أبعد مما تحت قدميه، ولم يؤتَ من العلم إلا قليلاً، وعِلْمه مسبوقٌ بالجهل، ومحفوفٌ بالوهم والخطأ والنسيان، ثم إنه مُولعٌ بالعاجلة، ومُتعلقٌ بالدنيا، وغافلٌ عن العواقب، وربما ظنّ في الأمر خيراً وهو شرٌ له، أو ظنّه شراً وفيه خيرٌ كبيرٌ؛ يقول تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، والله سُبحانه وتعالى لا يقضي للعبد قضاءً إلا كان خيراً له، وهو الأعلم بعباده، وبما يُصلحهم في العاجلة والآجلة؛ يقول تعالى: ﴿رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾، ويقول عزَّوجلَّ: ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾،وهو جلَّ جلاله وسع ﴿كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا﴾ وهو ﴿عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.

 

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إن ْأصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [عجِبْتُ لأمْرِ المؤمِنِ، إنَّ اللَّهَ لا يَقْضي له قَضاءً إلَّا كان خيرًا له]. ويقول صلى الله عليه وسلم: [مَن نَزَلتْ به فَاقةٌ، فأَنَزَلَها بالنَّاسِ، لَم تُسدَّ فاقتُه، ومَن نَزلَتْ به فاقةٌ، فأنزلَها باللهِ، فيُوشِكُ اللهُ له برزقٍ عاجلٍ، أو آجلٍ]؛ وهذه الأحاديث -وغيرها- تؤكد على أن (الأمر كله لله)؛ من أجل هذا علمَّنا النبي صلى الله عليه وسلم الاستخارة في الأمور كلها؛ يقول: [إذَا هَمَّ أحَدُكُمْ بالأمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِن غيرِ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ لْيَقُل: اللَّهُمّ َإنِّي أسْتَخِيرُكَ بعِلْمِكَ، وأَسْتَقْدِرُكَ بقُدْرَتِكَ، وأَسْأَلُكَ مِن فَضْلِكَ العَظِيمِ؛ فإنَّكَ تَقْدِرُ ولَا أقْدِرُ، وتَعْلَمُ ولَا أعْلَمُ، وأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هذا الأمْرَ خَيْرٌ لي في دِينِي ومعاشِي وعَاقِبَةِ أمْرِي -أوْ قالَ: عَاجِلِ أمْرِي وآجِلِهِ- فَاقْدُرْهُ لي ويَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لي فِيهِ، وإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هذا الأمْرَ شَرٌّ لي في دِينِي ومعاشِي وعَاقِبَةِ أمْرِي -أوْ قالَ: في عَاجِلِ أمْرِي وآجِلِهِ- فَاصْرِفْهُ عَنِّي واصْرِفْنِي عنْه، واقْدُرْ لي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أرْضِنِي قالَ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ] ومن ترسَّخت في قلبه تلك المعاني أراح واستراح، وفوَّض(الأمر كله لله)، وتيقن أن تدبير الله خيرٌ من تدبيره، وأن قضاءه كله خير.

 

ويقول علماؤنا إن الإيمان بأن (الأمر كله لله) فيه علاجٌ للقلق والتشاؤم، وهو سببٌ لحصول السكينة والطُمأنينة، وليست دعوةً لبث الوهن وترك العمل، أو ذريعةً للخُمول والكسل، بل يكون العمل بكل ما في الوسع والطاقة، والوقوف على حد الاستطاعة، مِن فِعل الأسباب التي سخرَّها الله؛ فكم مرةً استعجل الإنسان أمراً، فلما جاء تمنى لو تأخر، وكم مرةً سعى الإنسان للحصول على شيءٍ، ولكنه بعد حينٍ حمدالله لكونه لم يحصل عليه، فمن يعلم الغيب، ومن يعلم عاقبة الأمور إلا الله عزَّ وجلَّ؟ ولنتذكر أن المرء قد يُحب شيئاً، وليس له فيه خيرٌ ولا مصلحةٌ، ويكره شيئاً وله فيه خيرٌ ومصلحة. الله وحده هو أعلم بعواقب الأمور منا، وأخبر بما فيه صلاحنا في دنيانا وأُخرانا. إن أفعال الخير التي تكرهها النفوس لما فيها من المشقة هي خيرٌ بلا شك، وإن أفعال الشر التي تُحبها النفوس لما تتوهمه فيها من الراحة واللذة هي شرٌبلا شك.

قال الشاعر:

الأمرُ للهِ، هُوَ الآمرْ

وهْوَ العزيزُ الباطِنُ الظاهِرْ

لا يَملكُ الإنسانُ مِنْ أمرٍ

واللهُ -لا نِدَّ لهُ - القاهِرْ

لكنّنا ندعوهُ في ذُلٍّ

أنْ يَجبُرَ المكسورَ في الخاطرْ

ويقول آخر:

للهِ سَلَّمْتُ أمْراً لَسْتُ أَعْلَمُهُ

ما لي على حِمْلِهِ لَكِنْ سَأرْضاهُ

رَبّاهُ لَوْلاكَ لا سندٌ ولا أحدٌ

فأنتَ حَسبي، وَحَسْبِيَ أنّكَ اللهُ

 

أحبتي.. إن الشدائد التي نمر بها قد تكون في ظاهرها مُؤلمةً، لكنها تحمل في طياتها رحمةً من الله، والإنسان وهو يعيش في هذه الدنيا، ومع كثرة المشاغل وتعقيدات الحياة ومُتطلباتها، قد يغفل عن هذه الأمور، إلا أنه لا بد للإنسان من وقفةٍ مع نفسه، ليُراجع أموره وشؤونه وأحواله، وليستشعر نِعَم الله عليه في المنع أو في العطاء، في النقص أو الزيادة، في التأخر أو التعجيل، إنها نعمةٌ يغفل عنها الكثيرون، بل وربما ظنها البعض نقمةً لقصور نظره ومحدودية علمه ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾. بعد مرور الأيام سنُدرك أن الله حين منع عنا ما كُنا نُحب، لم يكن إلا ليُعوضنا بأجمل مما كُنا نتمنى. كل التأخيرات في حياتنا هي لحكمةٍ يعلمها الله؛ وطالما أن (الأمر كله لله) فلنُسلِّم أمرنا لله، ونثِقْ أنه سُبحانه سيُعوضنا خيراً، ولنعلم أن التوكل على الله تعالى وحده سبيلٌ لمرضاته، وبابٌ عظيمٌ من أبواب الفرج، ورفع البلاء، وكشف الضُر. ولما كانت قوة الإنسان وعِزه في ضعفه وانكساره لربّه؛ فحريٌ بنا أن نُظهر خضوعنا لربنا، ونتقرب له بصالح أعمالنا، وأن نُكثر من صنائع المعروف، مُستعينين بالصبر والصلاة، والدُعاء مع الإلحاح، والمُحافظة على الأذكار الصحيحة التي تُفرِّج الهمَّ والكَرب، ونعلم أنه عند اشتداد ظُلمة الليل يأتي الفجر بنوره، وعندئذٍ يفرح المؤمن بفرج الله، وعسى أن يكون قريباً. نسأل الله عزَّ وجلَّ التوفيق وتفريج الهم والغم؛ إنه رحيمٌ لطيفٌ بعباده.

https://bit.ly/4eEQ0Y8