الجمعة، 14 يناير 2022

من لا يَرحم لا يُرحم

 

خاطرة الجمعة /326


الجمعة 14 يناير 2022م

(من لا يَرحم لا يُرحم)

 

دخل رجلٌ إلى أحد فروع هايبر ماركت بريطانيٍ شهيرٍ تنتشر فروعه في ماليزيا، وتناول بعض عُلب العصائر الرخيصة وشيئاً من الفواكه يعادل ثمنها 7 دولارات أمريكية، وحاول الخروج بها خِلسةً من دون أن يدفع الثمن. اقترب منه مدير الفرع، حيث كان يُتابعه على شاشات المراقبة في مكتبه. أُسقط في يديّ الرجل، واعترف فوراً بأن نيته كانت السرقة وعدم الدفع. هدّأ المدير من روعه، وطلب منه معرفة السبب الذي دفعه إلى ذلك، أقسم الرجل -وهو في حالةٍ يُرثى لها من الخوف والارتباك- أنه ترك عمله منذ فترةٍ، لرعاية أطفاله الثلاثة وزوجته التي أنجبت حديثاً، وأصيبت بغيبوبةٍ بعد الولادة. استبقى المدير الرجل في مكتبه، وأرسل أحد أفراد الأمن إلى منزل الرجل -بحسب العنوان الذي قدّمه- للتأكّد من صدق روايته. وفعلاً؛ تأكّدتْ رواية الرجل المسكين، فبادر مدير الفرع -وهو مسلم- إلى منح الرجل السلع التي أراد الحصول عليها مُضافاً إليها أطعمةً ومواد غذائيةٍ وسلعاً أخرى، ومنحه مبلغاً من المال، وعرض عليه وظيفةً في الهايبر ماركت الذي تكفلت الشركة المالكة له بدفع نفقات التحاق الأطفال بالمدرسة، ومعالجة الأم المصابة بالغيبوبة.

القصة هزت ماليزيا خلال أيامٍ قليلةٍ، وتم عرضها مراتٍ عديدةً على شاشات القنوات المحلية وفي الصحف، حتى وصل صداها إلى المقر الرئيسي للشركة في بريطانيا؛ فقامت الشركة بالتبرع بكوبونات شراء تكفي الرجل وعائلته سنةً كاملةً. وتم عرض القصة في بعض القنوات والصحف البريطانية مع الكثير من عبارات الثناء على مدير الفرع الذي أصبح فجأةً مشهوراً في جميع أنحاء ماليزيا وبريطانيا!

لو كان مدير الفرع سلّم الرجل للشرطة، لكان حدثاً عادياً، يحدث كثيراً فلا يكاد يشعر به أحد؛ فكثيرٌ من المحلات تُحبط محاولات سرقةٍ، وتُلزم أصحابها بالدفع أو مقاضاتهم، أما هذا المدير فقد سلك مسلكاً إيجابياً مختلفاً، مسلكاً نبيلاً وإنسانياً، مسلكاً رحيماً وطيباً وغير معتادٍ؛ فكانت النتيجة شلالاً لا يكاد يتوقف من الإيجابية التي حركت عوامل النُبل والرحمة لدى شركاتٍ تجاريةٍ وأشخاصٍ ومؤسسات، وفتح طريقاً للتوبة لذلك الرجل، وبلغت شهرة هذا المدير المسلم الآفاق، وكذلك السوق الذي يعمل فيه، حيث تتابعت أفواج المشترين بزيادةٍ كبيرةٍ جداً، للشراء من هذا السوق الذي يمتلك حِساً إنسانياً عالياً.. فالرحمة قبل العدل، والعطاء يفتح أبواب الرجاء والأمل، ويبعث على صالح العمل.. وثمار الرحمة والنُبل والتسامح أكثر وفرةً من ثمار العدالة نفسها.

 

أحبتي في الله .. صحيح أنه (من لا يَرحم لا يُرحم)، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: [مَن لا يَرْحَمِ النَّاسَ، لا يَرْحَمْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ].

لقد وصف الله سبحانه وتعالى نفسه بأعلى صفات الرحمة وهما الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؛ يقول تعالى في فاتحة الكتاب: ﴿بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ وهما كلمتان بصيغة المبالغة من اسم الفاعل "الراحم"، ويقول على لسان سيدنا سليمان عليه السلام: ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا لم يكتفِ الله سبحانه وتعالى بوصف نفسه بكلمة الرحمن فقط وتبعها بالرحيم؟ يُقال إن كلمة الرحمن على وزن فعلان، وكل كلمةٍ في اللغة العربية على هذا الوزن تزول بزوال أسبابها؛ فكلمة جوعان مثلاً يزول الجوع بتناول الطعام، وكلمة تعبان يزول التعب بالراحة، وهكذا كلمة عطشان يزول العطش بشرب الماء، ومثلها: نعسان، زعلان. ... إلخ؛ لذلك يرتعب العربي عندما يقرأ كلمة الرحمن فقط لأنها قد تنتهي بزوال أسبابها، فيضع الله عزَّ وجلَّ كلمة الرحيم بعد كلمة الرحمن ليزرع الطُمأنينة في قلب المؤمنين؛ فتنتقل نفس المؤمن من الخوف والقلق إلى الإحساس بالأمان والطمأنينة والثقة برحمة الله.

وقد جعل سبحانه وتعالى صفة الرحمة لأفضل خَلقه وخير عباده؛ يقول تعالى مُخاطباً النبي -صلى الله عليه وسلم-: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ﴾، ويصف رسالته للبشرية جمعاء بأنها رحمةٌ لهم؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾، ويصفه وأصحابه -رضي الله عنهم- بأنهم رحماء؛ يقول تعالى: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾. ويقول واعداً المتواصين بالمرحمة بأنهم أصحاب الميمنة: ﴿فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾. وتكررت آيات الرحمة في مواضع كثيرةٍ من القرآن الكريم حتى بلغ تكرار الكلمات المشتقة من الفعل "رَحِمَ" ٣٣٩ مرة.

 

وفي السُنة المُشرّفة وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه بأنه نبي الرحمة؛ قال: [أنا محمدُ، وأنا أحمدُ، وأنا نبيُّ الرحمةِ ...]. وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وصف المؤمنين: [مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ. مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى]. وقال صلى الله عليه وسلم: [الرَّاحِمونَ يَرحَمُهمُ الرَّحمنُ، ارْحَموا أهْلَ الأرضِ يَرْحَمْكم مَن في السَّماءِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [لا يَرْحَمُ اللَّهُ مَن لا يَرْحَمُ النَّاسَ]. كما قال صلى الله عليه وسلم: [لا تُنْزَع الرَّحْمَةُ إلَّا مِنْ شَقيٍّ]. وقال لمن ذكر عنده أن له عشرةً من الولد ما قَبَّل منهم أحداً: [مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ]. وجاء أعرابيٌّ إلى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: تُقبِّلون الصِّبيان فما نُقبِّلهم، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: [وما أملِكُ لك أنْ نزَع اللهُ الرَّحمةَ مِن قلبِك؟].

يقول المفسرون إن في هذه الأحاديث -وغيرها- الحض على استعمال الرَّحْمَة للخَلق كلهم؛ كافرهم، ومؤمنهم، ولجميع المخلوقات من حيواناتٍ وطيورٍ والرفق بها، وأن ذلك مما يغفر الله به الذنوب، ويُكفر به الخطايا. ويقولون إن رحمة العبد للخَلق من أكبر الأسباب التي تُنال بها رحمة الله، التي من آثارها خيرات الدنيا، وخيرات الآخرة، وفقدها من أكبر القواطع والموانع لرحمة الله، والعبد في غاية الضرورة والافتقار إلى رحمة الله، لا يستغني عنها طرفة عينٍ، وكل ما هو فيه من النِّعم واندفاع النقم، من رحمة الله؛ فمتى أراد أن يستبقيها ويستزيد منها، فليعمل جميع الأسباب التي تُنال بها رحمته، وتجتمع كلها في قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾، وهُم المحسنون في عبادة الله، المحسنون إلى عباده. والإحسان إلى الخَلق أثرٌ من آثار رحمة العبد بهم. أما من كان بعيداً عن الإحسان بالخَلق، ظلوماً غشوماً شقياً، فهذا لا ينبغي له أن يطمع في رحمة الله وهو متلبسٌ بظلم عباده؛ إذ أن (من لا يَرحم لا يُرحم).

 

قالوا عن الرَّحْمَة إن "علامة الرَّحْمَة الموجودة في قلب العبد، أن يكون مُحبّاً لوصول الخير لكافة الخَلق عموماً، وللمؤمنين خصوصاً، كارهاً حصول الشر والضرر عليهم، فبقدر هذه المحبة والكراهة تكون رحمته، فمتى ما وُجِدَتْ هذه العلامة في قلب العبد، دلَّت على أنَّ قلبه عامرٌ بالرَّحْمَة، مفعمٌ بالرَّأفة".

 

وقال الشاعر:

إنْ كُنْتَ لا تَرْحَمُ المِسْكينَ إنْ عَدِما

ولا الفَقيرَ إذا يَشْكو لَكَ العَدَما

فَكَيْفَ تَرْجو مِنَ الرَحْمنِ رَحْمَتَه

وإنَّما يَرْحَمُ الرَحْمَنُ مَنْ رَحِما

 

أحبتي .. إن أردنا الكتابة عن الرحمة في الإسلام فلن يتسع المقام لذلك، يكفينا العلم بأن (من لا يَرحم لا يُرحم) حتى نكون رحماء فيما بيننا؛ في أسرنا مع أهلينا، وفي بيوتنا مع جيراننا، وفي أماكن عملنا مع زملائنا ومرؤوسينا. نرحم غيرنا ونتواصى بالمرحمة في كل مكانٍ وكل زمانٍ، ومع جميع المخلوقات من إنسانٍ وحيوانٍ؛ حتى تتنزل علينا رحمة الله وتغشانا فنكون من المرحومين في الدنيا والآخرة.

اللهم ليِّن قلوبنا ووسِّع صدورنا وحبِّب إلينا صفة الرحمة ويسِّر لنا أن نكون من الراحمين، وتقبل منا أعمالنا ورحماتنا، واجزنا عنها رحمةً من لدنك لا نشقى بعدها أبداً.

 

https://bit.ly/33vx5yi