الجمعة، 21 مايو 2021

الوازع الديني

 

خاطرة الجمعة /292


الجمعة 21 مايو 2021م

(الوازع الديني)

 

حيزان الحربي، سيبقى في الذاكرة على أنه صاحب أغرب قضيةٍ عرفتها المحاكم الشرعية السعودية. ترجع تفاصيل القضية إلى اختلافه مع شقيقه الأصغر غالب، حول رعاية والدتهما المُسِنة، حيث كان يريد كلٌ منهما أن يبرها ويكسب أجرها، وتطوّر الخلاف بينهما حتى وصل إلى ساحة القضاء.

حيزان كان يعيش وحيداً، وكان لا يعمل في أي وظيفة ليتفرغ لإعالة والدته. وعندما تقدمت به السن جاء شقيقه الأصغر غالب الذي يسكن مدينةً أخرى، ليأخذ والدته حتى تعيش مع أسرته، ويوفر لها الخدمة والرعاية المطلوبة. حينها رفض حيزان التنازل عن أمه بحجة أنه لا زال قادراً على رعايتها، وأن شيئاً لا ينقصها، اشتد الخلاف بينهما ووصل إلى طريقٍ مسدود، استدعى تدخل المحكمة الشرعية لفض النزاع، وقال حيزان حينها "بيني وبينك حكم الله يا غالب". توجها بعدها إلى محكمة «الأسياح» لتتوالى الجلسات، وتتحول إلى قضية رأي عام على مستوى المحافظة، تحت شعار أيهما يفوز بالرعاية؟ نالت قضية خلاف حيزان الحربي وشقيقه حول من فيهما الأحق برعاية والدتهما، شهرةً واسعةً، كونها قضيةً غريبةً من نوعها؛ تعكس حرص كلٍ من الأخين على بر والدتهما. استمرت مداولات القضية في المحكمة فترةً طويلةً، ولاقت تفاعلاً واسعاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي. حاولت المحكمة في البداية أن تُقرِّب بين وجهتي نظر الأخين، وعندما لم يصلا إلى حلٍ طلب القاضي إحضار الأم إلى المحكمة لتحسم الأمر وتختار بنفسها من تريد، وفي الجلسة المحددة أحضرها ابناها يتناوبان حملها في كرتون، ووضعاها أمام القاضي الذي وجه لها سؤالاً، لا تزال هي رغم تقدمها بالعمر تدرك كل أبعاده: "أيهما تختارين يا أم حيزان"؟ لم تكن الإجابة أفضل من كل محاولات تقريب وجهات النظر، نظرت إلى ابنيها بحنانٍ وأشارت إلى حيزان، وقالت: "هذا عيني هاذي"، ثم أشارت إلى غالب وقالت: "وذاك عيني تلك، ليس عندي غير هذا". هنا كان على القاضي أن يحكم بين الأخين بما تمليه مصلحة الأم. وبعد جلساتٍ قضائيةٍ طويلةٍ، حكم القاضي بأن تكون رعاية الأم للأخ الأصغر، وذلك لتقدُّم سن حيزان، فبكى حيزان بشدةٍ وتأثرٍ لأن والدته ستغادر منزله، ولأن ذلك يعني أن تُؤخذ أمه منه، وتنتقل إلى منزل شقيقه في ذلك اليوم، ومع بكاء حيزان، بكى شقيقه، وخرجا يتناوبان حمل أمهما إلى السيارة التي أقلتها -يرحمها الله- إلى مسكنها الجديد.

انتشرت قصة حيزان في الأوساط السعودية، وحظيت بإعجابٍ واسع. وظلت قضيته في الذاكرة، والمحاكمة الجميلة بين شقيقين، ربما تكون واحدةً من أغرب الخصومات التي شهدتها المحاكم الشرعية السعودية في تاريخها. المحاكمة التي بكى فيها حيزان، وبكى منها كل من سمع بها، تناولها خطباء الجوامع على المنابر، جاعلين منها مضرب مثلٍ للبر الحقيقي والتضحية الصادقة؛ فالخصومة بين حيزان وشقيقه الوحيد لم تكن بسبب مالٍ أو عقارٍ، بل كانا يتنازعان على امرأةٍ لا يتجاوز وزنها الحقيقي عشرين كيلوغراماً، هي والدتهما المسنة التي لا تملك في هذه الدنيا سوى خاتمٍ من النحاس في أصبع يدها. تم تصوير مقاطع فيديو لحيزان -قبل وفاته- وهو يتحدث عن فضل أمه وحبه لها، وكيف يحاول أن يقدم لها الطعام ويبر بها ويدعو لها بالجنة، ويقول كيف تكون أمه حيةً ولا يكون تحت قدميها، داعياً الصغار إلى البر بأمهاتهم ليكسبوا رضا الرحمن.

تُوفي حيزان بعد ذلك بفترةٍ متأثراً بإصابته في حادث دهسٍ تعرض له في بلدة «البندرية» بمحافظة «الأسياح» أدخل على إثره إلى المستشفى، وظل في العناية المركزة حتى رحيله.

ونعاه أمير المنطقة قائلاً: ”تُوفي حيزان الحربي بعد أن ضرب أروع النماذج في بر الوالدين عندما اختلف مع شقيقه حول أحقية رعاية والدتهما لتصل للقضاء للفصل بينهما، ويبكي عندما حُكم لصالح أخيه لأن والدته ستغادر منزله.. نموذجٌ لبر الوالدين يجب أن يُحتذى به في هذا الزمان. اللهم اغفر له وارحمه واجعل مثواه الجنة“.

 

أحبتي في الله .. كانت قصة حيزان وأخوه غالب قصةً حقيقيةً، حدثت في ذات الوقت الذي نقرأ ونسمع ونشاهد فيه الكثير من قصص عقوق الوالدين، وخاصةً الأم، وصل الأمر في إحداها، والتي وقعت قبل أيامٍ، وخلال شهر رمضان المبارك، إلى أن يقتل الابن العاق أمه. نشرت إحدى الصحف اليومية تفاصيل هذه الجريمة المروعة فقالت: بينما يتأهب المسلمون لتناول سحور اليوم السابع عشر من شهر رمضان، إذ بصرخات استغاثةٍ تصدر من أحد المنازل الهادئة التي تقطنها أمٌ برفقة ابنها. انتُزعت من الابن كل مشاعر الرحمة والإنسانية، فقد أطلقت الأم صرخاتها واستنجدت بجيرانها من فلذة كبدها الذي تجمد قلبه وتحجر، حيث يعيش برأس خالٍ من العقل وضلوعٍ لا تحمل بينها قلباً حسبما برهنت أفعاله. حاول الشاب التخلص من حياته لظروفٍ خاصةٍ ألمت به، ولكن الأم رأت هذه الظروف هينةً لا تستحق الحكم على النفس بالموت، عزَّ عليها أن يزهق نور عينيها وقرتها روحه بيده، فسعت العجوز بكل قواها المتواضعة لمنعه من إنهاء حياته. لم يهن الشاب على أمه بينما هانت هي عليه؛ لم ترضَ له الموت، ولكنه ارتضاه لها عن طيب خاطر، لم يُقدِّر حرصها وخوفها عليه، بل قابل هذا بطعناتٍ نافذةٍ في أحن صدرٍ ارتمى في حضنه. حاولت المسكينة منع ابنها من الانتحار، خشيت أن تضيع قطعةٌ من قلبها أو يذهب تعبها في تربية ابنها هدراً، فكان جفاؤه وجحوده، الذي لم يراعِ أنها بلغت من الكبر عتياً وشارفت على إتمام السبعين من عمرها، وما بقي لها من أيامٍ على ظهر الدنيا لا يُقارَن بما فات، هانت عليه تضحياتها وتحملها الآهات والهموم، ليكون سبباً في تركها الدنيا له بلا مصدرٍ للحنان بعدها، وليواجه قساوة الدنيا مكشوفاً بلا ساترٍ يقيه مرارة الأيام، أو دعواتٍ تزيل عنه الكربات، أو أيدٍ تطبطب عليه وقت الابتلاءات. أرادت أمه أن تمنعه من الانتحار فيموت كافراً، فنحرها بغير رحمة بذات السكين الذي كان ينوي الانتحار به!

 

أحبتي .. في كلتا القصتين نلاحظ أن (الوازع الديني) هو البطل؛ إما بحضوره بشدةٍ كما في القصة الأولى، أو بغيابه تماماً كما في القصة الثانية.

يُعرِّف العلماء (الوازع الديني) بأنه "زاجرٌ شرعيٌ قلبيٌ خفيٌ كافٌّ للنفس عن مخالفة الشرع بالقول أو الفعل أو القصد"، وهو يوازي الضمير والنفس اللوامة والتقوى بمفهومها الشرعي. فإن إيمان الفرد بالله وبالبعث ويوم الحساب هو الباعث الأساسي له على فعل الخيرات واجتناب المنكرات من الأقوال والأفعال والسلوكيات في الحياة.

كما أن الفطرة التي فطر الله الناس عليها والتركيبة الخُلْقية التي شاء الله أن يُجبَل الناس عليها لها تأثيرٌ بالغٌ في تحديد مسار الإنسان في الحياة، والطريق الذي يسلكه، والوجهة التي يختارها، وهذا ما يظهر جلياً في تصرفاته وأفعاله لو بقي محافظاً على نقاء فطرته؛ قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: [مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ ... وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: "فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله"].

 

وإذا كانت التقوى هي الغاية من زرع وتنمية (الوازع الديني) لدى الإنسان، فإن أهل العلم يرون أنّ العبادات في الإسلام هي وسائل لتمكين التقوى في نفس الإنسان؛ فيقول الله تعالى في الصلاة: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾، فهي تهدف إلى خلق الوازع الذي يردع عن الانحراف، وإذا لم يتحقق هذا الهدف، فلا قيمة لتلك الصلاة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللهِ إِلَّا بُعْدًا]. والحكمة من تشريع الصوم هي الوصول إلى درجة التقوى؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. وكذلك الحج؛ المقصود بمناسكه وشعائره -ومنها الأضحية- تحقيق التقوى، وتقوية (الوازع الديني) في النفس؛ يقول تعالى عن الأضاحي: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾؛ فالمطلوب أن نزرع ملكة التقوى في قلوبنا حتى تُثمر ويكون (الوازع الديني) قوياً وثابتاً، يدفع الإنسان نحو الخير، ويمنعه عن الانحراف والشر.

 

أحبتي .. نحن في حاجةٍ إلى تقوية (الوازع الديني) ليكون واعظاً وزاجراً لنا فلا نقع في المعاصي ولا نقترف الذنوب. إن جوهر الدين يكمن في زرع وتقوية وتعزيز هذا الوازع الذي يَنهى النفس الأمارة بالسوء عن تحقيق أهدافها، ويُمكِّن النفس اللوّامة من أن تقوم بدورها كضميرٍ حيٍ يراقب نوايانا وأقوالنا وأفعالنا طوال الوقت حتى نسمو بنفوسنا ونصل بها إلى درجة ومستوى النفس المُطمئنة، فنسعد في حياتنا ونرضي ربنا. وإن كان هذا الأمر مهماً للجميع، فإنه أكثر أهميةً لأبنائنا الصغار، حتى ينشأ أطفالنا ولديهم (الوازع الديني) ينمو معهم ويتحول مع الوقت إلى أن يكون مكوناً أساسياً من مكونات شخصياتهم، وجزءاً من منظومة القيم التي تضبط سلوكهم، وتكون بمثابة البوصلة التي ترشدهم إلى طريق الخير والرشد والصواب.

اللهم ألهمنا رشدنا، وأعنّا على أنفسنا الأمارة بالسوء، وردنا إلى دينك رداً جميلاً.

 

https://bit.ly/2RApwRj