الجمعة، 13 أغسطس 2021

إِلْف النعمة

 

خاطرة الجمعة /304


الجمعة 13 أغسطس 2021م

(إِلْف النعمة)

 

يقول أحد الشباب: أعمل بأحد المستشفيات، وذات ليلةٍ -وقد قاربت فترة عملي على نهايتها- أبلغني المشرف أن شخصيةً اقتصاديةً تتعامل بمئات الملايين قادمٌ للمستشفى، وَعليّ استقباله وإكمال إجراءات دخوله. انتظرتُ عند بوابة المستشفى، ولمحتُ من هناك سيارتي القديمة وَتذكرتُ ديوني الكثيرة وأقساطي المتعددة! هنا وصل المليونير ليكمل مأساتي، حيث حضر بسيارةٍ أعجز -حتى في أحلام المساء- عن أن أمتلك مثلها، يقودها سائقٌ يرتدي ملابس أغلى بكثيرٍ من ثيابي التي أرتديها!

‏ دخلتُ في دوامة التفكير والمقارنة بين حالي وحاله! مستواي ومستواه! شكلي وشكله! ثم قلتُ بكل حُرقةٍ، ومنظر سيارتي الرابضة كالبعير الأجرب يؤجج مشاعري: "هل هذه عيشة"؟!

على كل حالٍ، سبقته إلى مكتبي، وحضر خلفي على كرسيه المتحرك يقوده السائق، لفت انتباهي أنّ رجله اليُمنى مبتورةٌ من الفخذ! اهتزت مشاعري وَسألته: "هل عندك مشكلةٌ في الرجل المبتورة"؟ أجاب: "لا"! قلتُ: "فما هي المشكلة إذن يا سيدي"؟ قال: "عندي "موعد تنويم"، قلتُ: "ولماذا"؟ نظر إليّ وهو يكتم عبرته ويُخفي دمعته بغترته وقال: "ذبحتني الغرغرينا، وموعدي الآن هو من أجل بتر الرجل الثانية"! عندها أخفيتُ أنا وجهي، وبكيتُ بكاءً حاراً، ليس على وضعه فحسب، بل على كُفر النعمة الذي يُصيب الإنسان عند أدنى نقصٍ في حاله؛ ينسى كل نعم المولى في لحظةٍ، ويستشيط غضباً عند أقل خسارة! تحسستُ قدميّ وتذكرتُ صحتي فوجدتُها تساوي كل أموال وَسيارات العالم فقلتُ: "الحمد لله رب العالمين".

 

أحبتي في الله .. إنه (إِلْف النعمة) واعتيادها ومن ثَمّ التفريط في حمد الله سبحانه وتعالى وشكره عليها، إذ لا نتذكرها إلا إذا فقدناها أو كدنا نفقدها، أو إذا فقدها غيرنا وكنا على ذلك شاهدين!

 

ذكرتني هذه القصة بأخرى عن رجلٍ أراد أن يبيع بيته وينتقل إلى بيتٍ أفضل؛ فذهب إلى أحد أصدقائه -وهو رجل أعمالٍ وخبيرٌ في أعمال التسويق- وطلب منه أن يساعده في كتابة إعلانٍ لبيع البيت، وكان الخبير يعرف البيت جيداً فكتب وصفاً مفصلاً له؛ أشاد فيه بالموقع الجميل، والمساحة الكبيرة، ووصف التصميم الهندسي الرائع، وتحدث عن الحديقة، وحمام السباحة، .. إلخ، ثم قرأ كلمات الإعلان علي صاحب البيت الذي أصغى إليه باهتمامٍ شديدٍ وقال: "أرجوك أعد قراءة الإعلان"، وحين أعاد الكاتب القراءة صاح الرجل: "يا له من بيتٍ رائع! لقد ظللتُ طول عمري أحلم باقتناء مثل هذا البيت، ولم أكن أعلم أنني أعيش فيه إلى أن سمعتك تصفه"، ثم ابتسم قائلاً: "من فضلك لا تنشر الإعلان؛ فبيتي غير معروضٍ للبيع"!

لقد كان صاحب البيت مثالاً لكثيرٍ منا؛ ألِفَ أن يسكن بيته لسنواتٍ طويلةٍ، ووصل به (إِلْف النعمة) إلى درجة عدم الإحساس بكونها نعمةً من نعم الله تستوجب الحمد والشكر، ونسي أن نعم الله تدوم وتزداد بشكره عليها؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾.

 

يقول أهل العلم إن أعظم سورةٍ في القرآن الكريم وهي الفاتحة، وهي التي لا تصح الصلاة إلا بها، تبدأ بعد البسملة بـ "الحمد لله رب العالمين"، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ خطبته بالحمد لله، فالحمد لله كلمةٌ عظيمةٌ لا يُدرك أسرارها إلا من يُكررها ويستشعر عظمتها! آياتٌ كثيرةٌ تحض على الشكر، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾. ويذكرنا الله بنعمه وفضله علينا، ولكن معظم الناس غافلون عن الشكر وفوائده، يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾. والشكر صفةٌ لله تعالى يقول تعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾. فشكر الله عزَّ وجلَّ يكون من خلال كرمه وفضله ورزقه لنا، وشكرنا لله تعالى يكون من خلال التزامنا بتعاليمه وطاعة أوامره والانتهاء عما نهى عنه؛ لذلك فإن الله جعل الشكر صفةً له فقال: ﴿وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾، وكذلك جعل الشكر صفةً لأنبيائه عليهم السلام فقال في حق سيدنا إبراهيم: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾. وقال تعالى عن نفسه: ﴿لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾. وحتى يوم القيامة فإن المؤمن يحمد الله تعالى وهو في الجنة، ويشكر الله الغفور الشكور على هذه النعمة، يقول تعالى: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾.

 

إن (إِلْف النعمة) والتعود عليها -كما يصفها العلماء- مرضٌ خفيٌ إذا أصابنا أفقدنا بركة القليل وزيادة الكثير؛ فالضمان والكفيل لحفظ هذه النعم وزيادتها إنما هو شكرها، والشكر يتجاوز النطق باللسان فكم من شاكرٍ بلسانه أما قلبه وحاله ففي نكرانٍ وجحودٍ، بل يتجاوز الأمر ذلك ليبلغ المرء مرحلةً من العُتو والبطر والجحود ألا يستشعر أساساً النعم التي أمده الله بها ابتداءً، وما ذلك إلا لأنها صارت جزءاً روتينياً في حياته اعتادها ومن شدة اعتيادها فَقَدَ الشعور بوجودها.

 

إنها نعم الله نرفل فيها، ونكاد لا نحس بها إلا إذا فقدناها. كم واحدٍ منا يوفي حق الله سبحانه وتعالى شكراً وعرفاناً؟! كم منا من يتذكر نعم الله -وهي أكثر من أن تُعد أو تُحصى- فيستحي على تقصيره في الحمد والشكر والثناء؟

بالشكر تدوم النعم ويُثاب الشاكر، وبكفرانها والجحود بها تزول ويأثم المتبطر المتبجح ناكر الجميل. وما بين الشكر والكفران يعيش معظم الناس في حالةٍ من (إِلْف النعمة) والتعود عليها فلا هُم يشكرون ولا هُم يكفرون، لكنهم غافلون غير منتبهين إلى ما هم غارقون فيه من نعم الله، حتى إذا فقدوا إحداها أحسوا بقيمتها فتذكروا كم كان بُعدهم عن المولى عزَّ وجلَّ، وما كانوا عليه من تقصيرٍ في حمد الله وشكره على كل هذه النعم، وكيف كان الله سبحانه وتعالى حليماً عليهم رؤوفاً رحيماً بهم رغم بُعدهم عنه، وغفلتهم عن حمده وشكره.

 

يحثنا أحدهم على تذكر بعض نعم الله فيقول: هل تفكرتَ أيها المسلم في نعم الله عليك؟ وأول هذه النعم أن خَلَقَكَ إنساناً؟ تخيّل لو أنك كنت نوعاً آخر من مخلوقات الله! ثم هل تفّكرتَ في نعمة العقل وأنك ممن خصهم الله بهذه النعمة؟ تخيّل لو أنك كنتَ إنساناً ولكنك مجنونٌ تتيه في الشوارع ويضحك عليك الأطفال والصبية! هل شكرتَ الله على نعمة العقل ومليارات الخلايا العصبية في دماغك؟ هل تفكّرتَ في أنك ممن فضّلهم الله بأعظم نعمةٍ وهي نعمة الإسلام، وهداك وخصّك بهذه النعمة من بين ملايين البشر؟ هل حمدتَ الله على أنك ما كنتَ من أهل الاعتقادات الباطلة؟ هل تفكّرتَ أيّها العربيّ في أنك ممن فضلهم الله بأن كانوا عرباً وممن يفهمون مباشرةً كتاب الله سبحانه وتعالى وأحاديث رسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فلا تحتاج إلى تُرجمان؟ هل تفكّرتَ يا من تعيش في أمنٍ وأمانٍ أنك ممن أنعم الله عليهم بذلك؟ فكم من الناس يعيش في خوفٍ وهلعٍ ولا يدري إذا أصبح هل يُمسي سليماً وإذا أمسى هل يُصبح بأمان أم لا؟ كم وكم وكم سوف تتخيل من نعم، وكم وكم وكم سوف تحمد ربك وتشكره على هذه النعم التي افتقدها غيرك من بني البشر.

 

وهذا آخر كتب يقول: أسألك بالله كم شخصاً تمنى لو أنه يملك مثل سيارتك أو بيتك أو جوالك أو شهادتك أو وظيفتك .. إلخ؟ كم من الناس يمشون حفاةً وأنت تقود سيارة؟ كم من الناس ينامون في الخلاء وأنت في بيتك؟ كم شخصاً يتمنى فرصةً للتعليم وأنت تملك شهادة؟ كم .. وكم .. وكم .. وكم ..؟! فهل حمدتَ الله الآن؟ هل وفيته شكره؟

 

وقال ثالثٌ مذكراً: لا تنسَ أبداً؛ زوجتك البسيطة هي حلم كل أعزب، ابنك الشقي هو حلم كل عقيم، بيتك الصغير هو حلم كل مشرد، عملك الشاق هو حلم كل عاطل عن العمل، مالك القليل هو حلم كل مديون، صحتك الغالية هي حلم كل مريض، ابتسامتك العادية هي حلم كل مهموم، سَتْرُ الله عليك هو حلم كل مفضوح، وحريتك في الحياة هي حلم كل مسجون؛ وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾.

أما هذا فيقول: "تألمتُ كثيراً عندما وجدتُ نفسي حافي القدمين، ولكنني شكرتُ الله كثيراً حينما وجدتُ آخر ليست له قدمان"!

 

وما يجري على الأفراد من (إِلْف النعمة) وعدم حمد الله عليها وشكره يجري كذلك على الأقوام؛ فلنا في قوم سبأٍ عبرةٌ وعظةٌ؛ اكتملتْ نِعَمُهم، وكُفُوا مؤونة الطعام والشراب، ولم يطلب ربُّهم منهم مقابلَ هذه النعم إلا شكرَه عليها، بإقامة دينه وتحقيق توحيده، لكنهم قابلوا دعوة الله تعالى لهم بالإعراض والاستكبار، فاستحقوا العذابَ والدمار؛ يقول تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ . فَأَعْرَضُوا﴾، وكان إعراضهم أن عدلوا إلى عبادة الشمس من دون الله، كما قال الهدهد لسليمان عليه السلام: ﴿إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ . وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾، فكانت عاقبتهم كما يقول سبحانه: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾، إذ فتح الله تعالى عليهم سدَّهم؛ ليغرق بلادهم، ويُهلك حرثهم وأنعامهم، وذهبتْ نعمهم في لمح البصر. وكان من عظيم ما أنعم الله تعالى به عليهم، أنهم كانوا يسافرون من اليمن إلى الشام في أمنٍ وطمأنينة؛ يقول تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ﴾ فبَلَغ مِن كفرهم بهذه النعمة أنهم قالوا: ﴿رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا﴾؛ فكانت النتيجة، كما يخبرنا سبحانه: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾.

 

أحبتي .. ليُمْسِك كلٌ منا ورقةً وقلماً ويبدأ في تسجيل نعم الله عليه، وليسأل نفسه متى آخر مرةٍ حمد الله فيها وشكره على كل نعمةٍ منها، سنجد أنفسنا مقصرين، وأي تقصير؟!

واللهِ، الذي لا إله إلا هو، لو أننا عوَّدنا أنفسنا وأهلينا -خاصةً أبناءنا الصغار- على الحمد والشكر لله سبحانه وتعالى على كل حالٍ وفي كل وقتٍ وحينٍ على نعمه وأفضاله، ولو أن المسلمين في جميع أرجاء الأرض اتعظوا بقوم سبأٍ وغيرهم من الأقوام السابقة؛ فحمدوا الله سبحانه وتعالى وشكروه على نعمه التي اعتادوا عليها وألفوها، بإقامة شرع الله الذي أكمله الله لنا وأتمه علينا وارتضاه لنا ديناً في جميع شئون حياتنا، لو حدث هذا -وسيحدث بنا أو بغيرنا- لعاش المسلمون في نعيمٍ ورغدٍ؛ يقول تعالى: ﴿مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾، وإلا كنا ممن وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾.

اللهم لا تجعل (إِلْف النعمة) يُنسينا المنعم، وحقه من الحمد والشكر. اللهم اجعلنا من الحامدين الشاكرين. اللهم اغفر لنا ما قصَّرنا فيه، واعفُ عما سلف. ولا تؤاخذنا بما يفعل السفهاء منا، وأعِنّا على ذِكرك وشكرك وحُسن عبادتك.

 

https://bit.ly/3jTG3d3