السبت، 11 أبريل 2020

النذير، فرصة جديدة

الجمعة 10 إبريل 2020م


خاطرة الجمعة /٢٣٤

(النذير، فرصة جديدة)

 

هذه قصةٌ يرويها أحد الشباب السعوديين، كتب يقول: كنا مجموعةً من الأصدقاء مستقلين سيارة واحدٍ منا، متوجهين من "الرياض" إلى "الدمام" لقضاء عطلة نهاية الأسبوع والاستمتاع بشاطئ البحر. في الطريق السريع مررنا بإحدى اللوحات الإرشادية على جانب الطريق؛ فقرأها أصدقائي «الدمام 300 كيلو»، فقلتُ لهم: "أنا أراها «جهنم 300 كيلو»!"، اعتبروها نكتةً وصاروا يضحكون عليها. مرَّ بعض الوقت، كلهم يتسامرون ويتضاحكون، أما أنا فقد كنتُ محتاراً ومتعجباً مما قرأته مكتوباً في اللوحة! قال أحدهم ساخراً: "هذه لوحةٌ ثانيةٌ «الدمام 200 كيلو»، كيف قرأتَها أنت؟!"، قلتُ: "أنا أراها «جهنم 200 كيلو»"، فضحكوا وقالوا: "أمجنونٌ أنت؟!" أقسمتُ لهم وقلتُ: "واللهِ العظيم إني أرى المكتوب أمامي «جهنم 200 كيلو»"!! فضحكوا مثل المرة الأولى، وقالوا: "لقد أزعجتنا"، سكتُ وأنا مقهورٌ، ورحتُ أفكر؛ فهذا بالفعل أمرٌ غريب! مع استمرار الضحك، جاءت اللوحة الثالثة، قال الشباب: "ما بقي إلا قليل.. «الدمام 100 كيلو»"، أقسمتُ لهم مرةً أخرى وقلتُ: "واللهِ الذي لا إله إلا هو إني أراها «جهنم 100 كيلو»"!! قالوا: "آذيتنا من أول السفرة!!"، قلتُ: "أنزلوني هنا أعود إلى ""الرياض!!"، قالوا: "هل أنت مجنون؟!"، قلتُ: "أنزلوني أرجع!! واللهِ لن أكمل معكم الطريق!!". عندما وجدوني مُصِرِّاً على النزول أنزلوني؛ فقطعتُ الطريق وتوجهت إلى الجانب الآخر منه، طريق العودة إلى "الرياض"!!ظللتُ واقفاً فترةً طويلةً أؤشر للسيارات عسى أن يقف لي أحدهم، تمر السيارات مسرعةً، لا أحد ينظر إليّ، كأني غير موجود!! إلى أن استجاب لإشارتي سائق سيارة نقلٍ كبيرةٍ أوقف سيارته ودعاني للركوب فركبتُ معه، كان صامتاً لا يتكلم تبدو على وجهه علامات الحزن، سألته: "لماذا تبدو حزيناً يا أخي؟ ألا تريد أن نتسامر لنقطع هذه الطريق؟ إنها طريقٌ طويلة"، قال: "اعذرني؛ فقد شاهدتُ قبل قليلٍ حادثاً، واللهِ ما رأيتُ أبشع منه في حياتي"، قلتُ متسائلاً: "عائلةٌ أم شباب؟"، قال: "شبابٌ، سيارتهم ..."، وذكر مواصفات السيارة التي يستقلها أصدقائي!! صُعقتُ وقلتُ وأنا غير مصدقٍ ما سمعتُ للتو: "أسألك بالله؟"، قال: "واللهِ العظيم هذا ما رأيتُه". فعلمتُ أن الله قد أخذ أرواح أصدقائي بعد أن نزلتُ من السيارة، وأكملوا هُم طريقهم. حمدتُ الله أن أنقذني من بينهم، ولا أدري هل هُم إلى جهنم كما كنتُ أقرأ في اللوحات الإرشادية؟! لا أتمنى ذلك؛ فهم أصدقائي، إلا أنني أعرف كيف كانت معاصيهم! غفر الله لهم.

اللهم لك الحمد؛ فقد كنتُ خرجتُ معهم من "الرياض"، وما في بالي أن أعمل طاعةً لله، ولكن الله أعطاني فرصةً أخرى، وأرسل إليّ نذيراً حتى أعود وأنضم إلى قوافل العائدين التائبين؛ فله الفضل والمنة!

 

أحبتي في الله .. يقول الله سبحانه وتعالى عن نفسه: ﴿إِنّا أَنزَلناهُ في لَيلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنذِرينَ﴾، ويقول تعالى عن نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: ﴿إِن أَنتَ إِلّا نَذيرٌ﴾، ويقول تعالى عن الأنبياء والرسل: ﴿وَما نُرسِلُ المُرسَلينَ إِلّا مُبَشِّرينَ وَمُنذِرينَ﴾، كما أن مِن الصحابة رضي الله عنهم مَن كانوا ينذرون؛ يقول تعالى: ﴿وَما كانَ المُؤمِنونَ لِيَنفِروا كافَّةً فَلَولا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهوا فِي الدّينِ وَلِيُنذِروا قَومَهُم إِذا رَجَعوا إِلَيهِم لَعَلَّهُم يَحذَرونَ﴾، بل إن مِن المنذرين مَن هُم من غير البشر؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذ صَرَفنا إِلَيكَ نَفَرًا مِنَ الجِنِّ يَستَمِعونَ القُرآنَ فَلَمّا حَضَروهُ قالوا أَنصِتوا فَلَمّا قُضِيَ وَلَّوا إِلى قَومِهِم مُنذِرينَ﴾. ووصف الله سبحانه وتعالى كتابه الكريم بأنه نذير؛ يقول تعالى: ﴿تَبارَكَ الَّذي نَزَّلَ الفُرقانَ عَلى عَبدِهِ لِيَكونَ لِلعالَمينَ نَذيرًا﴾، والآيات والمعجزات الربانية وصفها المولى عزَّ وجلَّ بأنها نُّذُرُ؛ يقول تعالى: ﴿وَلَقَد جاءَ آلَ فِرعَونَ النُّذُرُ﴾ وذلك حين أرسل الله إلى آل فرعون سيدنا موسى الكليم، وأيده بالآيات الباهرات، والمعجزات القاهرات.

 

وكما في القصة التي رواها الشاب كان (النذير، فرصة جديدة) له ليصلح من نفسه ويعود إلى الطريق المستقيم.

أفلا يكون وباء "كورونا" الذي يجتاح العالم هذه الأيام نذيراً للبشرية جمعاء، وفرصةً جديدةً للإصلاح؟

لِمَ لا وأقل من ذلك كثيراً يقول الناس عنه أنه نذير؟ يقول الشاعر:

أليسَ المشيبُ نذيرُ الإِلهِ؟

ومَن ذا يُسَوِّدُ وجهَ النذير

 

يقول أهل العلم إن الكوارث والمصائب نُذُرٌ تُحفِّزُ أهل النُهى للاتعاظ والاعتبار، ثم الإنابة والإخبات لله عزَّ وجلَّ. إن ڤيروس "كورونا" ليس بلاءً، وإنما هو ابتلاءٌ؛ فمن تاب وأناب، واستغفر وصبر وأخذ بأسباب الوقاية، كان له رحمةٌ، وعليه نعمةٌ وسلام، ومن أدبر واستكبر، وأصرَّ وعاند، كان له عذابٌ، وعليه نِقمة.

 

تصور بعضهم ڤيروس "كورونا" وهو يخاطب الناس فيقول: لقد أرسلني الله إليكم نذيراً مرسلاً للناس جميعاً؛ أما الكافرون فلأريهم ضعفهم وعجزهم وهُم في أوج قوتهم، حجةً من الله قائمةً عليهم، ولله الحجة البالغة، وسبحان الله ربما كنتُ سبباً في إيمانهم وعودتهم إلى الإسلام؛ الدين الذي ارتضاه الله للناس أجمعين. وأما المؤمنون فأقول لهم: أنا لستُ مرضاً لأجسادكم بل أنا دواءٌ لقلوبكم الغافلة، أنا مرسلٌ من قِبل حبيبكم وطبيبكم، أنا علاجٌ لمرض غفلتكم وبُعدكم عن الله. أنا آيةٌ من آيات الله أُرسلتُ للمؤمنين ﴿لِيَزدادوا إيمانًا مَعَ إيمانِهِم﴾، ولأصحح لهم بوصلة التوجه إلى الله؛ فلقد تعلقت القلوب بالدنيا تعلقاً صدها عن طاعة الله وعن ذكره، وأوقعها في المعاصي والفجور والغفلة، لقد حُرمتم الجمعة والجماعات، وأُغلقت المساجد، وخلا بيت الله الحرام من الطائفين والعاكفين الركع السجود، وتوقفت العمرة، ومُنع المسلمون من دخول مسجد رسول الله، وأُلغيت فريضة الحج، وكادت فريضة الصوم أن تتعطل؛ فإن لم تستفق القلوب مع كل هذا البلاء فمتى تستفيق؟! سأرحل عنكم حين يأذن مَن أرسلني إليكم نذيراً فقد جئتُ بأمره، وأغادر بأمره، فلا تكونوا من الذين ذكرهم الحق سبحانه في قوله: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ﴾.

 

قال الشاعر عن ڤيروس "كورونا":

الــمـوتُ يـحـصـدُ آلافــاً مــن الـبـشرِ

فـالأرضُ فـي هَـرَج ٍمن وطْأةِ الخَــطَرِ

خــوفُ الـمـنيَّةِ هـزَّ الـنَّاسَ أسـكرهـمْ

مـن شـدَّة الـرُّعبِ والأوهــامِ والـحَذَرِ

تــأتــي الــكــوارثُ أســتــاذا يـنـبِّـهنا

إذا ابـتـعـدنا عـــن الـتّـفـكيرِ والـنَّـظرِ

تــأتــي الــكــوارثُ آيـــاتٍ تُـحـفِّـزُنـا

نــحــو الإنــابـةِ والإخــبـاتِ والـعِـبَـرِ

إنَّ الــوبـاءَ الـــذي بــثَّ الـمـآتم فـي

كـــلِّ الـشـعـوبِ نـذيـرٌ أبــلـغُ الــنُّـذُرِ

 

وصاغ بعضهم الأمر في شكل الحوار التالي:

إذا سألوا: مِن أين جاء هذا الوباء؟ قل: ﴿هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾ ‏بمعاصيكم وسيئاتكم. فإن سألوا: إلى أين المفر؟ قل: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ بالرجوع السريع إلى الله سبحانه وتعالى. وإن سألوا: وماذا نفعل؟ قل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ وذلك بالأخذ بكل طرق الوقاية الممكنة وأساليب العلاج المتاحة، ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ بالرجوع إلى الله والتوبة النصوح من جميع المعاصي والسيئات فهذا طريق الفلاح. فإذا قالوا: لقد ضاقت منا الصدور، قل: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ﴾ صبرٌ بغير ضجرٍ، ودعاءٌ وتضرعٌ إلى الله سبحانه وتعالى واستعانةٌ به، مع اليقين بأن الله يختار لنا الخير دائماً مهما بدا لنا غير ذلك؛ يقول تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾.

 

أحبتي .. لا أحد منا يدري متى نهايته، وڤيروس "كورونا" هذا الكائن الصغير الذي لا يُرى بالعين المجردة جاء لنا لينذرنا أن الموت قريبٌ منا، وهو أقرب إلينا مما نتصور، صحيحٌ أن لكل أجلٍ كتاب، وأنه لن يموت الإنسان بهذا الڤيروس أو بغيره من الأسباب إلا حينما يحين أجله، لكن الصحيح أيضاً أن علينا جميعاً أن ننتبه إلى هذا النذير فنسارع إلى التزود بما ينفعنا يوم القيامة ويرفع من قدرنا يوم الحساب، حين لا ينفع نفساً إلا إيمانها وما قدمت من عملٍ صالح. فليكن هذا (النذير، فرصة جديدة) لنا، ولنعمل على أن نلقى الله في أي وقتٍ على الطاعة والتقوى. ليس عيباً أن نخطئ، لكن العيب أن نستمر في الخطأ ونتمادى فيه؛ كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.

أحذركم أحبتي وأحذر نفسي من أن نكون من اللاعبين اللاهية قلوبهم الذين يقول الله تعالى عنهم: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ . مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ . لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾، ولنأخذ هذا النذير باهتمامٍ وجدية؛ يقول تعالى: ﴿هَٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَىٰ . أَزِفَتِ الْآزِفَةُ . لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ . أَفَمِنْ هَٰذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ . وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ . وَأَنتُمْ سَامِدُونَ . فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا﴾، فليس لنا حجةٌ عند المولى عزَّ وجلَّ؛ يقول تعالى: ﴿أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ﴾.

 

https://bit.ly/34orTbZ

 


حقيقة التوكل على الله

الجمعة 3 إبريل 2020م


خاطرة الجمعة /٢٣٣

(حقيقة التوكل على الله)

 

كنا في مسجدنا، وكان الوقت بعد صلاة الفجر -وقت أن كنا نصلي الجمعة والجماعة في المساجد، أعاد الله لنا هذه النعمة ولا حرمنا منها- وكان من المعتاد أن يصافح بعضنا بعضاً بعد انتهاء الصلاة؛ وفي ذهننا أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام التي تحث على المصافحة؛ ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: [مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا]، وقوله عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ المُؤمِنَ إذا لَقِيَ المُؤمِنَ فسَلَّمَ عَلَيْهِ وَأخَذَ بِيَدِهِ فَصافَحَهُ تَناثَرَتْ خَطاياهُما كَما يَتَناثَرُ وَرَقُ الشَّجَرِ]، إلا في ذلك اليوم؛ مد أحد الإخوة الأفاضل يده لي لمصافحتي، فلم أصافحه ووضعت يدي على صدري مع ابتسامة ترضيةٍ ورد للتحية بالكلام، وقلتُ له مداعباً: "سلام كورونا!"، تغير وجهه وسألني: "وهل تراني مصاباً بهذا الڤيروس؟"، قلتُ بسرعة: "أبعد الله الشر عنك، بل أريد أن أجنبك العدوى، خوفاً عليك، وحباً فيك"، سألني باستغراب: "وهل أنت مصاب؟"، قلت له: "قد أكون حاملاً للڤيروس، ولم تظهر أعراضه عليّ؛ فأخشى أن ينتقل إليك مني"، هدأ قليلاً وقال: "ألست تتوضأ للصلاة؟ هذا يكفي"، قلتُ: "بلى، لكن الالتزام بما يقوله الخبراء مهمٌ، فهُم أهل الذكر الذين أمرنا الله سبحانه وتعالى بالرجوع إليهم؛ بقوله: ﴿فَاسأَلوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمونَ﴾"، قال: "توكل على الله يا رجل؛ يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسبُهُ﴾"، قلتُ له: "لكن التوكل عليه سبحانه غير التواكل، فالتوكل الحق يدعونا للأخذ بالأسباب، ولنا أسوةٌ حسنةٌ في رسولنا الكريم حين قال رجلٌ يا رسولَ اللهِ: أعقِلُها وأتوكَّلُ؟ أو أُطلقُها وأتوكَّلُ؟ قال: [اعقِلها وتوكَّلْ]، أي اجمع بين الأمرين، اعقل الناقة، وتوكل على الله". سكت صديقي، وما زال شيءٌ من علامات عدم الرضا بادياً على وجهه، أما أنا فانصرفت!

 

أحبتي في الله .. مع ذكر التوكل على الله تحضرني قصةٌ شائعة عن رجلٍ متعبدٍ يعيش في قريةٍ، كان قدوةً للجميع لتدينه وتقواه، وكان كل أهل القرية يسألونه في أمور دينهم، ويتخذونه نموذجاً يُحتذى به في الإيمان بالله. في أحد الأيام حلَّ طوفانٌ بالقرية أغرقها بالماء، ولم يستطع أحدٌ النجاة إلا من كان معه قاربٌ؛ فمر بعض أهل القرية بقاربهم على بيت المتعبد لينقذوه، فقال لهم: "لا داعي، الله سينقذني، اذهبوا". ثم مر أناسٌ آخرون؛ فقال لهم نفس الكلام: "لا داعي، الله سينقذني، اذهبوا". ومرت آخر أسرةٍ تحاول النجاة وقالوا للمتعبد: "اركب معنا، نحن آخر مَن في القرية فإن لم ترحل معنا ستغرق"، فأجاب: "لا داعي، الله سينقذني، اذهبوا". انتهى الطوفان، وتجمع من بقي من أهل القرية فوجدوا جثة المتعبد، فثار الجدل بين الناس وتساءل بعضهم: "أين الله؟ لماذا لم ينقذ عبده المؤمن المتعبد؟"، وكانت فتنةً كبيرةً كادت تعصف بإيمان البعض، حتى جاء شابٌ متعلمٌ واعٍ وقال: "مَن قال لكم إن الله لم ينقذه؟ إن الله أنقذه ثلاث مراتٍ عندما أرسل له ثلاث أسرٍ لمساعدته، لكنه لم يُرد أن ينجو!".

 

هناك فرقٌ كبيرٌ بين التواكل، والتوكل على الله، (حقيقة التوكل على الله) أنه مقرونٌ دائماً بالأخذ بالأسباب، ونحن مأمورون بذلك؛ يقول تعالى: ﴿وَأَعِدّوا لَهُم مَا استَطَعتُم مِن قُوَّةٍ وَمِن رِباطِ الخَيلِ﴾، رغم تسليمنا جميعاً بأن الله سبحانه وتعالى قادرٌ على نصر المؤمنين بغير قتال.

فهذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لو لم يتوكل على الله ويأخذ بالأسباب ما تحمل ما تحمل في سبيل نشر الدعوة، وما غزا صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة، وقيل خمساً وعشرين، وقيل سبعاً وعشرين، وقيل تسعاً وعشرين، هذا غير السرايا التي بلغت نحو الأربعين إلى السبعين. «الغزوة ما شارك فيها الرسول عليه الصلاة والسلام بنفسه، والسرية هي التي لم يشارك فيها ويكون العدد فيها في الغالب قليلاً».

ولقد أخذ الأنبياء جميعهم بالأسباب؛ حين علموا (حقيقة التوكل على الله)؛ فهذا نوحٌ عليه السلام صنع السفينة، والله قادرٌ على أن ينجيه ومن معه من المؤمنين بغير سفينةٍ، ولكن الله سبحانه يُعَلِّم عباده الأخذ بالأسباب.

وهذه السَّيدة مريم، يطلب الله سبحانه وتعالى منها أن تأخذ بالأسباب، وهي في أشدِّ حالات الضعف والوهن، وقت الولادة؛ قال تعالى: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ وكان سبحانه وتعالى قادراً على أن يُسقط عليها الرطب بغير أن تُضطر إلى هز جزع النخلة، لكنها سُنة الله في كونه؛ الأخذ بالأسباب.

 

يقول العلماء إن الأخذ بالأسباب مطلبٌ شرعيٌ؛ فالذي يزعم أنه متوكلٌ ولا يأخذ بالأسباب يُعد مخالفاً للشرع، فالتوكل يجمع الأمرين: الثقة بالله، والاعتماد عليه، والإيمان بأنه مسبب الأسباب، وأن ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.

 

وعن علاقة التوكل على الله بجائحة "كورونا"، أعجبني قول أحدهم: إذا كان احتمال موتك بڤيروس "كورونا" هو ١٪، واحتمال موتك في أية لحظة -بهذا الڤيروس أو بغيره- هو ١٠٠٪، إذن جدد إيمانك، واتقِ الله، وتوكل عليه؛ فمن توكل على الله كفاه؛ يقول تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾؛ فالناجي من هذا البلاء ليس هو مَن ينقضي الوباء دون أن يمرض، ولكنَّ الناجي هو من فهم الرسالة وسارع بالتوبة، وأعاد ترتيب حياته. الناجي هو من نظر حوله فأيقن أن الأمان ليس في مالٍ يكنزه، ولا منصبٍ مرموقٍ يصل إليه، ولا في دولةٍ متقدمةٍ يعيش فيها، ولا في أسرةٍ حاكمةٍ ينتمي إليها، ولكن الأمان الحقيقي في العودة إلى الله، حتى إذا رفعنا أيدينا إلى السماء وقلنا -كما ورد في الأثر-: يا رب؛ قال الله تبارك وتعالى: لبيك عبدي، سَلْ تُعْطَ. وصدق من قال: وإذا الشدائدُ أقبلت بجنودِها، والدهرُ من بعد المَسرةِ أوجعك، إرفع يديك إلى السماءِ ففوقَها، ربٌ إذا ناديتَه ما ضيعك.

 

وهذه كلماتٌ طيباتٌ عن أسبابٍ يمكن لنا نأخذ بها، يقول كاتبها: مُنعنا من الصلاة في المسجد، ولم نُمنع من الصلاة في البيوت. مُنعنا من حلقات حفظ وتلاوة القرآن في المساجد، ولم نُمنع من حفظ وتلاوة القرآن الكريم في بيوتنا. مُنعنا من الاختلاط بالبشر، لنأنس برب البشر نتقرب إليه نناجيه ونذل له ونخشع وننكسر بين يديه. مُنعنا من الخروج، لتكون لدينا الفرصة كاملةً لنتعبد في البيوت فلا عذر لمن كانت حجتهم ضيق الوقت. ربنا إننا لا نخشى ڤيروس "كورونا" ولا غيره؛ فما هو إلا خلقٌ من خلقك، يأتمر بأمرك، وينتهي بنهيك، ليس المراد منه، غسل الأيدي وتنظيفها، وإنما غسل القلوب وتطهيرها بالتوبة النصوح والاستغفار والتضرع إلى الله والندم؛ يقول تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾. ألم يأنِ لمدمن الأغاني أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ لمدمن المسلسلات والأفلام والنظر إلى النساء العاريات أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ لمن ظلم أن يوقف ظلمه ويتعظ؟ ألم يأنِ لمن أكل أموال الناس أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ لتارك الصلاة أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ لقاطع الرحم أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ لتارك محارمه يمشين في الشارع بملابس ضيقةٍ تكشف مفاتنهن أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ لمخاصم الناس أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ للنائم عن صلاة الفجر، أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ لنا جميعاً ترك الذنوب صغيرها وكبيرها، وأن نكف ونتعظ؟ أيها الناس أروا الله من أنفسكم خيراً، اتقوا الله، أدوا عباداته كما أمركم، وليس تبعاً لأهوائكم، توقفوا عن الظلم وعن تأييد الظالمين، ردوا الحقوق إلى أصحابها، ورددوا في أنفسكم قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.

 

ومن أفضل ما كُتب شعراً عن "كورونا":

ما لي أراكَ من الوبا مفتونا

وتكادُ مِن رعبٍ تُجنَ جُنونا!

إن كان موتُك لا محالةَ آتياً

فلِمَ تخافُ الموتَ من "كورونا"؟!

قد ماتَ بالطاعونِ قومٌ قبلَنا

ما بالُ مَن لم يُدرك الطاعونا؟!

مَن لم يمت بالطعنِ ماتَ بغيرِه

فالموتُ حقٌ والورى فانونا!

إنّ الذي كتبَ البقاءَ لنفسِه

كتبَ الفناءَ على الورى قانونا!

لو كان ذخرُكَ صالحاً ما خِفتَه

لكنْ حملتَ من الذنوبِ ديونا!

اللهُ أنذرَ بالوباءِ عبادَه

اللهُ حرَّكَ بالبلاءِ سُكونا!

سبحانَ مَن يُنجي العبادَ بفضلِه

ويقرُ منهم أنفساً وعُيونا!

فاعملْ لنفسِك قبلَ موتِك صالحاً

فالمتقونَ له هُم الناجونا!

 

وكتب أحدهم يقول إن أحرف "كورونا" ترشدنا إلى تحسين علاقتنا بالله سبحانه وتعالى ليكرمنا برفع البلاء عنا:

«ك» كونوا واثقين بلطف ورحمة رب الأرض والسماء وتوكلوا عليه

«و» واصلوا نهاركم وليلكم بالتضرع إليه بالدعاء والتذلل بين يديه

«ر» راجعوا تاريخ الأمم السابقة لتعرفوا مقاصد سنن الابتلاء

«و» وظفوا طاقاتكم وجهودكم للتقرب من الله وللتخفيف عن الفقراء

«ن» نظفوا قلوبكم من الكبْر والحسد والبغضاء والركون إلى الظالمين

«ا» الزموا الصلاة والاستغفار وأكثروا من الصدقات ليرفع الله البلاء والوباء

أما "كوفيد-19"؛ فإنّ حروفها تعني:

«ك» كل، «و» واحد، «ف» فينا، «ي» يلزم، «د» داره، «19» يوم. "وهذا أخذٌ بالأسباب"!

 

أحبتي .. ولأن (حقيقة التوكل على الله) أن نكون إيجابيين، ونعمل ولا نتواكل؛ فقد أطلقتُ حملةً تحت شعار "سأترك معصيتي لتعلوَ أمتي"، قلتُ فيها أن على كلٍ منا أن يبدأ بإصلاح نفسه؛ بترك ذنبٍ واحدٍ على الأقل، يكون مقيماً عليه منذ زمن، كعدم صلاة الفجر، أو ترك الصلاة مع جماعة المسلمين، أو تأخير الصلوات، أو عدم إخراج الزكاة، أو قلة التصدق، أو هجر القرآن الكريم، أو النظر إلى المحرمات، أو التقصير في حق الوالدين، أو قطيعة الأرحام، أو الغيبة، أو النميمة، أو إساءة الظن، أو السرقة، أو الرشوة، أو أكل المال بغير حق، أو ظلم الغير، أو نصرة الظالم، أو التقاعس عن نُصرة المظلوم، أو الكذب والافتراء على الغير، أو شهادة الزور، أو رمي المحصنات، أو غير ذلك. ثم ليعاهد الله سبحانه أن يترك هذا الذنب -أو الذنوب- حتى يُبعد الله الشر عنه، ويُفرِّج الغمة عن الأمة. فلو ترك كل واحدٍ منا ولو ذنباً واحداً، وقال في نفسه: "معصيتي سببٌ في محنة أمتي، وأُشهد الله على تركها طمعاً في رضاه، وخوفاً من عقابه، وابتغاءً لما عنده من الثواب" فإن الله سبحانه وتعالى سيفرج عنا بعفوه ولطفه، عندما يرانا قد توكلنا عليه، وأخذنا بالأسباب، وعُدنا إليه، والتزمنا بتطبيق شرعه؛ انطلاقاً من قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾. فما نزل بلاءٌ إلا بذنب، وما رُفع إلا بتوبة.

ما تزال الدعوة للانضمام إلى هذه الحملة مستمرةً؛ فشاركوا فيها يرحمنا ويرحمكم الله.

ولنتوكل على الله حق التوكل، وندعو الله سبحانه وتعالى ونتضرع إليه؛ وهو القائل: ﴿فَلَولا إِذ جاءَهُم بَأسُنا تَضَرَّعوا﴾، ولنراجع علاقتنا بالله عزَّ وجلَّ، نجبر ما انكسر منها، ونقوي ما ضعف، ونزيد ما هو قويٌ منها قوةً، مع الأخذ بالأسباب كما أُمرنا.

هيا أحبتي نشمر عن سواعد الجد، ونرفع رصيدنا من جميع أنواع الخير والبر والتقوى، وهي التي سماها رسول الله صلى الله وعليه وسلم صنائع المعروف في قوله: [صَنَائِعُ الْـمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ وَالْآفَاتِ وَالْـهَلَكَاتِ، وَأَهْلُ الْـمَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ الْـمَعْرُوفِ فِي الْآخِرَةِ].

 

https://bit.ly/3aBwbyS