الجمعة، 18 أغسطس 2017

أكلٌ مُحَّرَمٌ

الجمعة 18 أغسطس 2017م

خاطرة الجمعة /٩٧
(أكلٌ مُحَّرَمٌ)

قال لي وهو منفعل: "لم أعد أطيق ما يفعله بي"، قلت وأنا أعلم من يقصد: "هو أخوك فتحمله وتحمل تصرفاته؛ عسى الله أن يهديه ويهدينا جميعاً"، قال: "لقد وصل به الأمر إلى أن يشوه سمعتي؛ فكتب عني على صفحته على الفيس بوك كلاماً جارحاً"، قلت له: "يهديك من حسناته ما لم تكن تتوقعه!"، هدأ قليلاً ثم قال: "لقد فاض بي الكيل"، قلت له: "أبشر فهذه فرصة قد وصلت إليك دون أن تسعى إليها"، تساءل متعجباً: "أية فرصة تقصد؟"، قلت: "اختبار صبرك، وإثابتك عليه"، وأكملت موضحاً: "كثيرٌ من الناس يصف نفسه بأنه صبورٌ لكنه يكتشف بأنه ليس كذلك في أول موقفٍ عمليٍ يتطلب منه الصبر، أما أنت فأراك والحمد لله صابراً على ما يفعل أخوك، أما عن ثواب الصبر فيكفي قول المولى عز وجل: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، فاستمر في صبرك وزد فيه ليصل إلى مرتبة الصبر الجميل وهو الصبر بغير شكوى"، قال: "ونِعمَ بالله، لكن ما يحز في نفسي أنه أخي، ليس لي غيره، وهو الكبير، لم أكن أتوقع منه أن يؤخر عني حقي في الميراث ثم أن يأكل بعض حقي فيه وهو يعلم مدى احتياجي. لقد أوصلني لأن أقول له حسبي الله ونعم الوكيل، وكانت هذه هي اللحظة التي تحول فيها وبدأ يكتب عني بالتصريح مرةً وبالتلميح مرات"، تساءلت متعجباً: "أوما يزال إرثكم عن والدكم، رحمه الله، دون توزيعٍ حتى الآن؟ لقد تُوفي من أكثر من ثلاثين عاماً!"، رد متحسراً: "كلما فتحت معه هذا الموضوع غضب وسألني لِمَ العجلة؟! حتى حان الوقت الذي رآه هو مناسباً فباع عقاراً ورثناه عن أبينا رحمة الله عليه، وما يزال يراوغ في إيفائي حقي من البيع"، خففت عنه بقولي: "لقد قلت حسبي الله ونعم الوكيل، وهذه عبارة معناها أنك قد وكلت أمرك لله سبحانه وتعالى، وهو الذي لا تضيع عنده الحقوق، فالمطلوب منك الآن يا عزيزي هو الصبر".

أحبتي في الله .. يقول أهل العلم أن الإرث شرعاً هو ما يتركه الشخص لورثته من أموالٍ وحقوق. وقد امتاز نظام الإرث في الإسلام عن غيره من أنظمة التوريث الوضعية القاصرة، فلم يجعل الشارع الحكيم قسمة الميراث إلى مالك المال ليورث من يشاء ويحرم من يشاء، بل لم يجعل ذلك إلى نبيٍ مُرسَلٍ ولا إلى مَلكٍ مقربٍ، وإن الله سبحانه وتعالى هو الذي قسم التركة في آياتٍ قرآنيةٍ تُتلى إلى يوم القيامة. وقد وضع الإسلام للميراث شروطاً وموانع، فإذا توفرت الشروط وانتفت الموانع حصل الإرث وإلا فلا.
وعن توزيع الإرث يقول العلماء أنه ينبغي أن يتم مباشرةً بعد استكمال الإجراءات المطلوبة للقسمة من حصر الورثة والممتلكات وتنفيذ الوصايا النافذة شرعاً، ولا ينبغي تأخيره، وخاصةً إذا طلب بعض الورثة حقه، إلا إذا كان التأخير لمصلحةٍ وبرضى الورثة من الرشداء البالغين فإنه لا حرج فيه. وإذا ترتب على التأخير مردودٌ ماديٌ من إيجارٍ أو غيره فإنه يُوزع على جميع الورثة كلٌ حسب نصيبه المقدر له في كتاب الله تعالى، إلا إذا تنازل أحد الورثة من الرشداء البالغين عن حقه في ذلك.
وفي فتوى صريحةٍ يقول المفتي أن مماطلة أحد الورثة أو تأجيلُه قسمةَ الإرث أو منع تمكين الورثة من نصيبهم بلا عذرٍ أو إذنٍ من الورثة محرَّمٌ شرعاً، وصاحبه آثمٌ مأزورٌ، وعليه التوبة والاستغفار مما اقترفه، ويجب عليه رَد المظالم إلى أهلها؛ بتمكين الورثة من نصيبهم وعدم الحيلولة بينهم وبين ما تملكوه إرثاً، فقد أجمع الفقهاء على أن المال ينتقل بعد الموت من مِلك المُوَرِّث إلى ملك ورثته؛ لأنه ينقطع عن مِلك المُوَرِّث بالموت، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد: يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله]، وأن التركة بعد موت المُوَرِّث حقٌ لعموم الورثة على المشاع، ذكرهم وأنثاهم، صغيرهم وكبيرهم، فيستحق كل وارثٍ نصيبه من التركة بعد أن يُخصم منها نفقة تجهيز الميت وبعد قضاء الديون وإنفاذ الوصايا والكفارات والنذور ونحو ذلك، فلا يجوز لأى أحدٍ من الورثة الحيلولة دون حصول باقي الورثة على حقوقهم المقدَّرة لهم شرعاً بالحرمان أو بالتعطيل، كما لا يجوز استئثار أحدِهم بالتصرف في التركة دون باقي الورثة أو إذنهم، فمنع القسمة أو التأخير فيها بلا عذرٍ أو إذنٍ محرَّمٌ شرعاً؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من فَرَّ مِن ميراث وارثِه، قَطَع الله ميراثَه مِن الجنة يوم القيامة]، وفى رواية قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: [مَنْ قَطَعَ مِيرَاثًا فَرَضَهُ اللَّهُ، قَطَعَ اللَّهُ مِيرَاثَهُ مِنَ الْجَنَّةِ]؛ فقطع الميراث عن أحد الورثة حرام؛ لأن الوعيد على الشيء دليلٌ على حرمته، والقطع الوارد فى الحديث يدخل فيه المنع من الإرث مطلقاً، أو تأخيره عن ميعاد استحقاقه دون عذرٍ أو إذن. المنع أو التأخير بلا عذرٍ أو إذنٍ تعدٍّ على حقوق الغير وهضمٌ لحقهم، وذلك من الظلم، والظلم من الكبائر المتوعَّد عليها، قال عليه الصلاة والسلام: [اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة]، وفيه أيضًا أكلٌ لأموال الناس بالباطل الذى نهى الله تعالى عنه فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾.

أحبتي .. حالة تأخير توزيع الميراث على الورثة، مَرَّت عليّ في حياتي أكثر من مرة وبأكثر من صورةٍ، وفي جميع الأحوال كان يترك آثاراً سلبية في علاقات الورثة بعضهم ببعض.
وأسوأ منها حالة حرمان وارثٍ من التركة، وفي ذلك ظلمٌ بينٌ يقع خاصةً على النساء والأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة الخاضعين لوصاية غيرهم.
وفيما يتعلق بالنساء على وجه الخصوص هناك من يمنع عنهم أرثهم، ومنهم من يشتري منهم حقهم في الإرث بثمنٍ بخسٍ ويدعي أن ذلك تم برضاهن لكن الحقيقة أنه حقهن اُنتزع منهن بسيف الحياء، ومنهم من يُجبر الوارثة على زواجٍ من لا ترغب فيه من أبناء العم حتى لا يضيع الورث إذا كان أرضاً زراعية فمعظم أهل المجتمعات الريفية يريدون الاحتفاظ بالملكية الزراعية وفى اعتقادهم أن توريث المرأة سيذهب بممتلكات الأسرة إلى عائلةٍ أخرى وهو ما يؤدى إلى تفتيت الممتلكات والحيازات، ومنهم من يتحايل ويستخرج شهاداتٍ طبيةً مزورةً لإثبات أن الوارثة لا تستطيع إدارة شئونها بنفسها فتؤول الوصاية له عليها فيحرمها من حقها في الميراث، ومنهم من يوقع عقودَ بيعٍ صوريةٍ قبل وفاته ليحرم بعض الورثة ويحجب عنهم حقوقهم بعد وفاته، وهناك صورٌ أخرى لظلمٍ لا يرضاه الله سبحانه وتعالى ولا رسوله الكريم، يتعارض مع شريعتنا الإسلامية الغراء؛ فهو أكلٌ لأموال الغير بالباطل، وإذا كان أكل مال الغير من الغرباء بالباطل محرماً، فما يكون أكل مال أقرب الأقارب والأرحام؟ إنه (أكلٌ مُحَّرَمٌ) بلا شك، بل إنه شديد الحُرمة. يشير إلى هذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَتَأكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّماً﴾ أي تأكلون أيها الناس الميراث أكلاً شديداً لا تتركون منه شيئاً، فالأكل اللم (أكلٌ مُحَّرَمٌ) تجد من يستبيحه لنفسه يأكل كل شيءٍ يجده لا يسأل أحلالٌ أم حرام، فيأكل الذي له ولغيره، وذلك كان فعل أهل الجاهلية يظلمون الضعيف ويأكلون ماله، لا يورثون النساء، ولا الصغار، ويأكلون نصيبهم؛ قال تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾.

أحبتي .. يقول الخبراء في علم الاجتماع أن ثمة حقيقةً تطالعنا باستمرار هذه الأيام ويُظهرها واقع الناس في تعاملاتهم، تتمثل في ازدياد حالات الغش والاحتيال والتزوير من قبل الإخوة والأزواج ويذهب ضحيتها العديد من النساء ذوات النوايا الحسنة، والنساء الغافلات عن معرفة حقوقهن الدينية؛ حيث يمارس أولياء الأمر بعد وفاة الأب التعنت وحجب الإرث عن أخواتهن بحجة الحفاظ على الأموال، فهم فئةٌ من ضعاف النفوس استمرأت الكسب غير المشروع. وقد أفرزت المدنية الحديثة وتعقيدات الحياة المعاصرة وتشابك المصالح فيها العديد من الظواهر السلبية والسلوكيات الغريبة التي جعلت بعض الناس يتكالبون وبشراهةٍ على الماديات ويظلمون الغير بالاستحواذ على حقوقهم وابتلاع هذه الحقوق دون مخافة الله عز وجل.
ومن القصص التي تُروى عما هو (أكلٌ مُحَّرَمٌ) أن رجلاً غنياً يملك ثروةً كبيرةً جاءته سكرات الموت فلما حضرته الوفاة جاء أولاده واجتمعوا عند رأسه، فأوصاهم بأن يحب بعضهم بعضاً، وألا يجور أخٌ على أخيه، فعاهدوه على ذلك، ثم دخل عليه ملك الموت فقبض روحه. جهز الأبناء جثة أبيهم، فغسَّلوه، وكفنوه، وصلوا عليه، وذهبوا به إلى المقبرة، وبعد أن دفنوه، وخرجوا من قبره، إذا بولدٍ من أولاده يستأذن بقية إخوانه وأقاربه بأن ينزل مرةً أخرى إلى قبر أبيه من أجل أن يطمئن على أنه قد دُفن ووجهه إلى القبلة، فأذنوا له، فنزل إلى قبر أبيه، وتأخر كثيراً، فأصاب إخوانه القلق فنزل واحدٌ منهم لينظر ماذا يصنع أخوه في القبر، وإذا به يجد أخاه قد أُلقى في القبر ميتاً بجوار أبيه! العجيب أنه وجد أخاه قد خلع الكفن عن جسد أبيه وأخرج يد أبيه من الكفن وجعله يبصم بأصبعه على عقد بيع لعمارةٍ كان يملكها قبل وفاته، وهي الآن مِلكٌ لجميع الورثة، فقد نزل الولد إلى قبر أبيه وفي جيبه محبرةٌ وفى الجيب الآخر عقد بيع، نزل وفك الكفن، وأخذ أصبع والده ووضعه في المبصمة على المحبرة ووضع يد والده على العقد، وجعل يبصمه على عقد بيع العمارة، وقبل أن يخرج بالعقد من أجل أن ينتفع به ويستمتع بتلك العمارة جاءه ملك الموت فى القبر فطرحه ميتاً بجوار والده، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.

أحبتي .. لا يجوز لأحدٍ أن يؤخر توزيع التركة على الوارثين بغير رضاهم، ولا يجوز لأحدٍ أن يحرم غيره من حقه الشرعي في الميراث، ومن يفعل ذلك فهو آثمٌ، ومعطلٌ لحكم الله، ومتعدٍ على كتاب الله وسُنة رسوله، وآكلٌ لأموال اليتامى بالباطل، وقاطعٌ للأرحام بهذه المظالم. وواجب على كل مسلمٍ ألا يقع في هذا الإثم فهذا (أكلٌ مُحَّرَمٌ)، كما أنه واجبٌ علينا جميعاً أن نتصدى لهذه الظاهرة بالتوعية والنصح، فهذا أمرٌ بالمعروف أُمرنا به، ونهيٌ عن منكرٍ سنحاسَب عليه؛ قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾،  وقال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾، وجعل سبحانه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات المؤمنين؛  قال عز وجل: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾، فكانت من وصايا لقمان لولده: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾.
وقال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ].
أما المظلوم الذي ضاعت حقوقه، فليعلم أن الله تعالى سيكون معه إذا صبر على الظلم، وسيبارك الله تعالى له في القليل ليكون كثيراً.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/5dKTwd