الجمعة، 17 أغسطس 2018

قلوبٌ معلقةٌ بالمساجد


الجمعة 17 أغسطس 2018م

خاطرة الجمعة /١٤٨
)قلوبٌ معلقةٌ بالمساجد(

كتب أحد الإخوة السعوديين يقول: ركبنا أنا وخالي سيارتنا وأخذنا طريق العودة بعد أن صلينا الجمعة في مكة، وبعد قليلٍ، ظهر لنا مسجدٌ مهجورٌ كنا قد مررنا به سابقاً أثناء قدومنا إلى مكة، وكل من يمر بالخط السريع يستطيع أن يراه. مررت بجانب المسجد وأمعنت النظر فيه، ولفت انتباهي شيءٌ ما؛ سيارةٌ زرقاء اللون تقف بجانبه، مرت ثوانٍ وأنا أفكر ما الذي أوقف هذه السيارة هنا؟ ثم اتخذت قراري سريعاً؛ خففت السرعة ودخلت على الخط الترابي ناحية المسجد وسط ذهول خالي وهو يسألني: ما الأمر؟ ماذا حدث؟. أوقفنا السيارة ودخلنا المسجد، وإذا بصوتٍ عالٍ يرتل القرآن باكياً ويقرأ من سورة الرحمن، فخطر لي أن ننتظر في الخارج وأن نستمع لهذه القراءة، لكن الفضول قد بلغ بي مبلغه لأرى ماذا يحدث داخل هذا المسجد المهدوم ثلثه، والذي حتى الطير لا يمر به. دخلنا المسجد وإذا بشابٍ وضع سجادة صلاةٍ على الأرض وفي يده مصحفٌ صغيرٌ يقرأ فيه، ولم يكن هناك أحدٌ غيره. قلت: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"؛ فنظر إلينا وكأننا أفزعناه، مستغرباً حضورنا، ثم قال: "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته"، سألته: "هل صليتَ العصر؟"، قال: "لا"، قلت: "لقد دخل وقت صلاة العصر؛ هيا نصلي جماعة". ولما هممت بإقامة الصلاة وجدت الشاب ينظر ناحية القبلة ويبتسم، لمن؟ ولماذا؟ لا أدري، فجأةً سمعت الشاب يقول جملةً أفقدتني صوابي؛ قال: "أبشر، وصلاة جماعة أيضاً". نظر إليّ خالي متعجباً؛ فتجاهلت نظرته ثم أقمت الصلاة وعقلي مشغولٌ بهذه الجملة: "أبشر، وصلاة جماعة أيضاً!". من يكلم هذا الشاب وليس معنا أحد؟ المسجد كان فارغاً مهجوراً، هل هو مجنون؟  بعد أن صلينا أنا وخالي وصلى الشاب معنا أدرت وجهي ونظرت إليه وكان مستغرقاً في التسبيح، ثم سألته: "كيف حالك يا أخي؟"، فقال: "بخيرٍ ولله الحمد"، قلت له: "سامحك الله؛ شغلتني عن الصلاة؟"، سألني: "لماذا؟"، قلت: "وأنا أقيم الصلاة سمعتك تقول أبشر، وصلاة جماعة أيضاً"، ضحك ورد قائلاً: "وماذا في ذلك؟"، قلت: "لا شيء، ولكن مع من كنت تتكلم؟"، ابتسم ثم نظر للأرض وسكت لحظاتٍ وكأنه يفكر هل يخبرني أم لا؟، تابعت قائلاً: "ما أعتقد أنك مجنون؛ شكلك هادئٌ جداً، وصليت معنا ما شاء الله"، نظر إليّ ثم قال: "كنت أكلم المسجد!". نزلت كلماته عليّ كالقنبلة؛ جعلتني أفكر فعلاً؛ هل هذا الشخص مجنون؟  قلت له: "نعم؟ كنتَ تكلم المسجد؟ وهل رد المسجد عليك؟"، تبسم ثم قال: "وهل تتكلم الحجارة؟ هذه مجرد حجارة"، قلت: "كلامك صحيح؛ وطالما أنها لا ترد ولا تتكلم لِمَ تكلمها؟"، نظر إلى الأرض فترةً وكأنه مازال يفكر، ثم قال دون أن يرفع عينيه: "أنا إنسانٌ أحب المساجد؛ كلما عثرت على مسجدٍ قديمٍ أو مهدمٍ أو مهجورٍ أفكر فيه، أفكر عندما كان الناس يُصلون فيه، وأقول لنفسي يا الله كم هذا المسجد مشتاقٌ لأن يصلي فيه أحد؟ كم يحن لذكر الله؟ ..أحس به .. أحس إنه مشتاقٌ للتسبيح والتهليل .. يتمنى أن يسمع آيةً واحدةً تهز جدرانه .. أحس أن المسجد يشعر أنه غريبٌ بين غيره من المساجد .. يتمنى ركعةً .. سجدةً .. يتمنى لو عابر سبيلٍ يقول الله أكبر .. فأقول لنفسي: {واللهِ لأطفئن شوقك .. واللهِ لأعيدن لك بعض أيامك} ..أدخل فيه وأصلي ركعتين لله ثم اقرأ فيه جزءاً كاملاً من القرآن الكريم، لا تقل أن هذا فعلٌ غريبٌ .. لكني والله أحب المساجد". دمعت عيناي .. نظرتُ إلى الأرض مثله لكي لا يلحظ دموعي .. تأثرت بكلامه، بإحساسه، بأسلوبه، وبفعله العجيب .. إنه شابٌ تعلق قلبه بالمساجد.

أحبتي في الله .. إن تعلق القلب بالمساجد يظهر في شدة حب المسلم الجلوس فيها، كلما خرج منها لا يرتاح حتى يعود إليها، يلازم الجماعة فيها، يتردد عليها دائماً؛ فلا يصلي صلاةً إلا في المسجد، ولا يخرج منه إلا وهو ينتظر صلاةً أخرى ليعود فيصليها فيه، قلبه معلقٌ بكل مسجد.
مثل هؤلاء ذكرهم الله سبحانه وتعالى في الآية الكريمة: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ﴾، حقاً إنهم رجالٌ قد تعلقت قلوبهم ببيوت الله.
عن هؤلاء الذين لهم (قلوبٌ معلقةٌ بالمساجد) يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [سَبْعةٌ يُظلُّهم اللَّهُ في ظلِّه يومَ لا ظِلَّ إلا ظلُّه، ...] وذكر منهم "رجلٌ قلبُه مُعلّقٌ بالمساجدِ".
يقول العلماء أن هذا الحديث يحدد الأصناف السبعة من الناس الذين يظفرون باستظلالهم بظل الرحمن، تبارك وتعالى، يوم القيامة، حين يكون جميع الخلق أحوج إلى الظل من أي يومٍ آخر؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [تَدْنُو الشَّمْسُ مِنَ الْأَرْضِ فَيَعْرَقُ النَّاسُ، ...]؛ فبينما الناس يتلظون بعرقهم من شدة حرارة اللهيب فوق رؤوسهم في ذلك اليوم العصيب؛ يُنعِم الله برحمته على أولئك الأصناف من الناس بأن يظلهم بظله، ومن هؤلاء: الذين لهم (قلوبٌ معلقةٌ بالمساجد)، يصفهم أهل العلم بأن لهم مع المسجد علاقةٌ فريدةٌ، لا يتأخرون عن الصلاة؛ بل تراهم أول من يقدم للمساجد، وربما آخر من يخرج منها. تراهم لا يفوّتون التكبيرة الأولى للصلاة، هَمُّ أحدهم أن يدنو من الإمام، وأن يدرك الصف الأول. يأتون للمساجد ولو نأت وبعُدت، ويتحرون أن يأتوا على أقدامهم؛ لأنهم يعلمون أن الله يكتب لمن مشى للمسجد وقد توضأ بكل خطوةٍ حسنةً، ويكفر عنه سيئةً. يؤدون الصلاة في المساجد لا في البيوت، ولا يتخلفون عنها إلا لظرفٍ لا يقدرون معه على الحضور. يخرجون للمساجد ولو في الظُلَم لصلاة الفجر ونُصبَ أيديهم بشرى الحبيب عليه السلام: [بَشِّرْ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]. لا يضجرون من طول مُكثهم في المسجد، بل ربما سعوْا إلى ذلك، وهم يعلمون أن الملائكة تصلي على المرء ما دام في المسجد، تقول: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ". هم في ضمان الله حتى يرجعوا، وهم وفد الله أعد لهم نُزلهم حتى يخرجوا، وهم في ذمة الله حتى يمسوا. لهؤلاء مع المسجد علاقة أنسٍ قلبيٍ، وانشراحٍ وسرورٍ يجدونه في بيت الله، ولا يجدون مثيله في غيره من الأماكن، شعورهم وإحساسهم بأنهم وهُم في المسجد إنما هُم في بيت محبوبهم الأعظم تبارك وتعالى، ومن خرج من بيت محبوبه تاق إلى العودة إليه، منذ اللحظة التي يخرج فيها منه، فلا تكاد قلوبهم تهدأ وتطمئن وتسكن حتى يعودون إلى ذلك البيت مرةً أخرى.
ومن الناس من يجد سروره في الأسواق، فقلبه معلقٌ بها حتى يعود إليها، ومن الناس من قلبه معلقٌ بالمسارح أو الملاعب أو دور اللهو؛ فقلوب العباد تتعلق بالأماكن بحسب ما في تلك القلوب من خيرٍ وشرٍ، إيمانٍ وكفرٍ، وقربٍ من الله وبعدٍ عنه. فتعلق القلب بالمسجد يعني تعلق القلب بالله سبحانه وتعالى، وهذا التعلق هو الباقي للعبد دون غيره، فتعلق القلب بالمنكرات وأماكنها، وبالفساد وأهله تعلقٌ مشئومٌ، ما لم يلطف الله بصاحبه، فيعود إلى ربه، وإلا فسوف يصحو من سكرته على الندم والحسرات.
وصاحب القلب المعلق بالمسجد لا يُستلزم منه دوام المُكث فيه؛ ليس ذلك بالضرورة؛ لأن المعلق بالمسجد إنما هو القلب لا الجسد، فهذا العبد كغيره من الناس، يسعى في طلب رزقه، ويشتغل ليسد حاجته، وحاجة عياله، ويغدو ويروح، لكن قلبه دائم الشوق للمسجد، ينتظر الأذان بحرارة المتلهف، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ. فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ]، أي أنه إذا صلى مع الجماعة صلاةً جلس في المسجد ينتظر الصلاة التالية، أو يكون في بيته، أو يشتغل بكسبه، وقلبه متعلقٌ بها ينتظر حضورها؛ فقلب من تعلق بالمسجد، يتوق إلى الرجوع إليه، وسبيله في ذلك سبيل نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم عندما كان يقول لبلالٍ رضي الله عنه: [أرحنا بها يا بلال]، لا كسبيل غيره ممن يكون بالمسجد أشبه بالطير الحبيس في القفص، لسان حاله يقول: "أرحنا منها يا إمام!"، يتململ، ويتأفف وينتظر لحظة إقامة الصلاة على أحر من الجمر، فإذا قُضيت الصلاة فر من مكانه بسرعةٍ، وكان أول الناس خروجاً من بيت الله.

أحبتي .. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا ، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا]. ويقول العارفون بالله أن تعلق القلب بالمسجد تابعٌ لمحبة العبد لله سبحانه وتعالى، ولو أخلص العبد المحبة لله لتعلق قلبه بالمسجد؛ فما كان هذا التعلُّق أن يأتِيَ من فراغ، ولكنه ثمرة التعلق بالله، محبةً وإنابةً ورغبةً ورهبةً وخوفاً ورجاءً وإخلاصاً وتوكُّلاً وذلاً وتعبُّداً.
كلنا يرجو أن يظله الله تعالى بظله يوم لا ظل إلا ظله، لكن الأماني لا تصنع شيئاً، ولن يرتقي القلب إلى تلك العلاقة الحميمة بينه وبين المسجد، حتى يحرص صاحبه على تزكيته وتطهيره من أدران الذنوب، وحينها سيكون قلبه دائم الشوق لبيوت الله، ولا يحصل هذا إلا لمن ملكوا أنفسهم، وقادوها إلى طاعة الله، وصبروا عليها فانقادت لهم: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾.

علينا أحبتي، حتى نحظى بهذا الشرف العظيم، ألا وهو أن يظلنا الله بظله يوم لا ظل إلا ظله، أن تكون لنا (قلوبٌ معلقةٌ بالمساجد) بالحرص على: صلاة الجماعة على وقتها في المسجد، كثرة الخطى للمساجد، التبكير للذهاب إلى المسجد، اللحاق بالصف الأول وتكبيرة الإحرام، انتظار الصلاة بعد الصلاة، وعمارة المساجد وصيانتها والإنفاق عليها.

اللهم اجعل قلوبنا معلقةً بالمساجد التي هي أطهر الأماكن في الأرض، وخَلِّص أعمالنا من الرياء والنفاق والعجب والكبر والخيلاء، وتقبل اللهم صلاتنا وسائر أعمالنا خالصةً لوجهك الكريم.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/brQHcD