الجمعة، 1 نوفمبر 2019

قم للمعلم وفه التبجيلا


الجمعة 1 نوفمبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢١١
(قم للمعلم وفه التبجيلا)

قصةٌ حقيقيةٌ مؤثرةٌ حدثت لأحد المعلمين في السودان؛ كان يُدَرِّس للصف الثالث الابتدائي بمدرسةٍ للبنات، وكان يرى كل يومٍ خارج المدرسة بجوار نافذة الفصل بنتاً مسكينةً وجميلةً تكسوها البراءة تبيع الخبز في الصباح، وقد بلغت سن المدرسة لكنها لم تدخلها بسبب الوضع المادي لأسرتها، فلديها أربعة أخوةٍ صغارٍ، ووالدهم متوفٍ، وهي تسهم مع أمها في مصاريف معيشتهم ببيع الخبز بجوار المدرسة، فساعدت إخوتها بأن يدخلوا المدرسة ويكملوا تعليمهم. كان المعلم يشرح لتلميذاته دروس الرياضيات وبائعةُ الخبز تتابعه من نافذة الفصل وهي بالخارج.  في أحد الأيام سأل المعلم التلميذات سؤالاً صعباً وخصص له جائزةً، ولم تُجبه أية تلميذة، وتفاجأ ببائعة الخبز تؤشر بإصبعها من خارج النافذة وتصرخ: "أستاذ أعرف الإجابة!"، فأذن لها المعلم بالإجابة؛ فأجابت وكانت إجابتها صحيحة!! منذ ذلك اليوم راهن عليها المعلم، وتكفل برعايتها وبكل ما يلزمها من مصروفاتٍ مدرسيةٍ على نفقته ومن مرتبه، واتفق مع مدير المدرسة على أن يتم تسجيلها كتلميذةٍ بالمدرسة وتشارك بالاختبارات دون دخول الفصل لعدم قدرتها على تحمل مصاريف المدرسة، وأن يجعلها تبدأ من الصف الثالث كمستمعةٍ لتتعلم ولو الشيء البسيط من التعليم، واتفق مع جميع معلمي المواد الأخرى على أن تظل الفتاة تستمع من النافذة إلى حصصهم وهي خارج الفصل، فأجمعوا على الموافقة. أخبر المعلم والدة الفتاة بذلك واتفق معها على أنتترك ابنتها بيع الخبز وتتفرغ للتعليم ويتولى أحد إخوتها البيع بدلاً منها. عندما ظهرت نتائج اختبارات آخر العام كانت المفاجأة؛ فقد كانت الفتاة هي الأولى على المدرسة. استمرت الفتاة على هذا النحو برعاية المعلم وإشرافه اليومي إلى أن وصلت إلى الصف الأول بالمرحلة الثانوية، حينها فارق المعلم السودان للعمل بالخارج، ولم تكن هناك في ذلك الوقت هواتف لكي يتابع أخبارها. كبر أحد إخوة الفتاة وعمل بعربة كارو لبيع الماء واستمر في الصرف عليها، وانقطعت صلتها بالمعلم لمدة اثني عشر عاماً عاد بعدها إلى السودان، وكان لديه زميلٌ بالدولة التي كان يعمل فيها، ولزميله هذا ابنٌ يدرس بكلية الطب بجامعة الخرطوم، فطلب زميله منه أن يرافقه إلى الجامعة؛ فذهب مع صديقه، ومكث بعض الوقت في الكافتريا، فإذا بفتاةٍ على قدرٍ من الجمال تحدق فيه وقد تغيرت معالم وجهها عندما رأته، وهو لا يعلم لماذا تحدق فيه بهذا الشكل! فسأل ابن صاحبه إن كان يعرف هذه الفتاة، وأشار إليها خُفيةً، فأجابه: "نعم بالطبع؛ إنها بروفيسور تُدَرِّس طلاب دفعة السنة السادسة والأخيرة بكلية الطب"، ثم سأل الطالب المعلم إن كان يعرفها، فرد بالنفي. فجأةً، وبدون مقدماتٍ، جرت الفتاة نحو المعلم وعانقته وهي تبكي بحرقةٍ بصوتٍ لفت أنظار كل من كان بالكافتيريا، وظلت تحضنه لفترةٍ من الزمن دون مراعاةٍ لأي اعتبار، وظن الجميع أنه والدها، وأُجهشت بالبكاء حتى أُغمي عليها وتم إسعافها. عندما أفاقت وتمالكت أعصابها نظرت إلى المعلم وقالت له: "ألا تذكرني أستاذي؟ أنا تلميذتك، أنا البنت التي كانت حطام إنسانةٍ وصنعتَ حضرتك منها إنسانةً ناجحةً، أنا البنت التي كنتَ حضرتك السبب في دخولها المدرسة، وصرفتَ عليها من حُر مالك حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، وذلك بفضل الله ثم رعايتك واهتمامك وموقفك الإنساني الفريد، أنا ابنتك بائعة الخبز ". ودعته والذين معه ومجموعةً من الزملاء إلى منزلها، وأخبرت أمها وإخوتها بالمعلم الإنسان الذي وقف معها وكان سبباً في تغيير مجرى حياتهم جميعاً. احتفلت به الأسرة احتفالاً كبيراً، وكانت مناسبة فرحٍ عظيم، وألقى المعلم كلمةً قال فيها: "لأول مرةٍ أحسُ أني معلمٌ وإنسان".

أحبتي في الله .. يعلم إخواننا في السودان اسم هذا المعلم، واسم تلميذته التي أصبحت أستاذةً جامعيةً معروفةً، والتي كانت بتصرفها مع معلمها تطبق حرفياً شعار (قم للمعلم وفه التبجيلا). لكن ما يستوقفنا من هذه القصة هو الدور الذي قام به هذا المعلم الرائع؛ حين زاوج بين عمله المهني كمعلمٍ ودوره التربوي والتزامه الأدبي وسلوكه الأخلاقي وتصرفه الإنساني، فكانت النتيجة مكسباً لكل أطراف العملية التربوية: المجتمع وقد كسب أستاذةً متخصصةً متميزةً في مجالها، التلميذة وقد شغلت منصباً مرموقاً ووظيفةً عالية المكانة، أسرة التلميذة وقد ارتقى وضعها الاجتماعي، المعلم وقد حظي بوفاءٍ نادرٍ من تلميذته وأسرتها وتقديرٍ من المجتمع.
هذا المعلم نموذجٌ للإنسان المسلم المؤمن الكَيْس الفطن، بحكمته ولباقته وحسن تصرفه، وبإحساسه الصادق ونظرته الثاقبة ورجاحة تقديره، إضافةً لكرمه وسخائه، واهتمامه بواجبه الإنساني قبل واجبه المهني.

لم يُعلِ من شأن التعليم والتعلم دينٌ كما فعل ديننا الإسلامي الحنيف؛ لقد رفعَ الله تعالى مكانةَ العلم وأهله، وعظَّم منزلتَهم وأعلَى شأنَهم، فقال عزَّ من قائل: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾، وقال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، وبيَّن سبحانه أن العالِمَ والجاهِلَ لا يستويان؛ قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
وقال الرسول عليه السلام: [فضلُ العالمِ على العابِدِ، كفَضْلِي علَى أدناكم، إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ وملائِكتَهُ، وأهلَ السمواتِ والأرضِ، حتى النملةَ في جُحْرِها، وحتى الحوتَ، ليُصَلُّونَ على معلِّمِ الناسِ الخيرَ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [ليس من أمَّتي مَن لم يُجِلَّ كبيرَنا ويرحَمْ صغيرَنا ويعرِفْ لعالِمِنا حقَّه]، كما قال: [إن الله لم يبعَثني مُعنِّتًا ولا مُتعنِّتًا، ولكن بعَثَني مُعلِّمًا مُيسِّرًا].

وفي وصف المعلم قال أحدهم: تعجز الحروف عن التّعبير وتتوه الكلمات على السّطور عندما يسألني شخصٌ عن فضل المعلّم، فما من عبارات مدحٍ ولا قصائد شكرٍ تفي حق هذا الشّخص الّذي كرّس أغلب أوقاته لينقل طلّابه وتلاميذه من ظُلمة الجهل إلى نور العلم والمعرفة، ليُمسي في آخر نهاره متعباً منهكاً منتظراً بشوقٍ فجر يومٍ جديدٍ يستكمل فيه مسيرة بناء جيلٍ واعٍ متعلّمٍ قادرٍ على التّمييز بين الصّواب والخطأ.
وقال آخر: المعلم هو منارة العلم التي تضيء الطريق أمام الطلاب بالعلم والمعرفة، يسهل لهم الطريق لمعرفة الحق، ويغرس فيهم العلم النافع الذي يرفع عنهم الجهل؛ فهو أبٌ وصديقٌ يسمع طلابه ويعاملهم كأبنائه يحنو عليهم فهو الأب الحاني، ويؤدبهم فهو المؤدب الذي يربيهم على الأخلاق الحميدة، وهو الصديق الذي يسمع شكواهم ويفهم مبتغاهم.
لذا يقول أهل العلم إن مهنة التعليم لها قداستها في المجتمعات التي تسعى إلى صنع التقدم والحضارة، ووظيفة المعلم تنال مكانةً رفيعةً في تلك المجتمعات. وإن فضل المعلم على المتعلم كفضل الرسل على سائر الناس؛ فهو يُميط الجهل عنهم ليبصروا بقلوبهم الحق فيزدادوا إيماناً بخالقهم وتمسكاً بدينهم. فالمعلم حريصٌ على توعية الطلاب بما ينفعهم ويقربهم من الله ويحذرهم مما يبعدهم عن رضاه. ولو كان العالَم دون معلمٍ لسادَ الجهلُ والتخلّف بين الناس.

وعن مكانة المعلم وتقدير دوره، وعن التطبيق العملي لمبدأ (قم للمعلم وفه التبجيلا) قال أحد العلماء: “ما مَدَدتُ رِجلِي نحوَ دارِ أُستاذِي إجلالًا له، وما صلَّيتُ صلاةً مُنذ ماتَ إلا استغفَرتُ له مع والدَيَّ“.
أما الخليفة العباسي هارون الرشد فقد اتخذ “الكسائي” إمام الكوفة معلماً ومربياً لابنيه الأمين والمأمون، وكان يستشيره في كل أمور الدين والدنيا، وكان الأميران يتسابقان إلى إلباسه خُفيه عندما يهم بالخروج من عندهما. هذه مكانة العلم وهذا هو تقدير المعلمين.
قال الشاعر:
(قم للمعلمِ وفّهِ التبجيلا)
كاد المعلمُ أن يكون رسولا
أعلِمتَ أشرفَ أو أجَّلَ مِن الذي
يبني وينشئ أنفساً وعقولا؟
وقال آخر:
لولا المعلمُ ما قرأتُ كتاباً يوماً
ولا كتبَ الحروفَ يراعي
فبفضلِه جزتُ الفضاءَ محلقاً
وبعلمِه شقَ الظلامَ شعاعي
وقال ثالث:
رأيتُ الحقَ حقَ المعلمِ
وأوجبه حفظاً على كلِ مسلمِ
له الحقُ أن يُهدى إليه كرامةً
لتعليمِ حرفٍ واحدٍ ألفَ درهمِ

أحبتي .. حريٌ بكلٍ منا، أياً كان الدور المناط به معلماً كان أو غير معلم، أن يساعد في اكتشاف الموهوبين من أبنائنا، ويعينهم ويرشدهم ويتابعهم، ويسهم في صقل قدراتهم، ليهدي إلى المجتمع والوطن بل إلى الإنسانية جمعاء أشخاصاً متميزين وعلماء متخصصين في جميع مجالات الحياة.
وأدعو كل من يقرأ هذه الكلمات أن يتذكر معلميه ويدعو لهم بالخير، ويحاول أن يتواصل معهم -إن استطاع- برسالةٍ أو مكالمةٍ هاتفيةٍ أو زيارةٍ، أو بإشارةٍ إليهم وإشادةٍ بهم على مواقع التواصل الاجتماعي، يشكرهم ويقدر جهدهم عرفاناً بجميلهم؛ لنكون قد قمنا بجزءٍ من دورنا في تطبيق مبدأ (قم للمعلم وفه التبجيلا) وفاءً وامتناناً.
اللهم انفعنا، وانفع بنا، واهدنا واهدِ بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى. اللهم استخدمنا ولا تستبدلنا، وارفع بنا شأن الأمة.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

http://bit.ly/2CeldA1