الجمعة، 15 ديسمبر 2017

ليس كل الرزق مالٌ

الجمعة 15 ديسمبر 2017م

خاطرة الجمعة /١١٣
(ليس كل الرزق مالٌ)

حكايةٌ يتم تداولها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لستُ متأكداً من صحتها، لكني أنقلها لكم كما قرأتُها؛ ففيها موعظةٌ وفيها عِبرةٌ.
تحكي لنا الحكاية قصة موت "روتشيلد" ﺃﺣ ﺃﻛﺒ ﺃﻏﻨﻴﺎﺀ ﺑﺎﻧﻴﺎ، وأغنى أغنياء العالم، ﻛﺎﻥ ﻣ ﻛﺜﻭﺗﻪ ﻳُﻘ ﺍﻟﺤﻜﻣﺔ ﺍﻟﺒﺎﻧﻴﺔ! تخبرنا الحكاية أنه مات من الجوع!
فقد كان الرجل مولعاً بالمال يكاد يعبده، يجد لذته في النظر إليه. بنى قصراً كبيراً، وفي جهةٍ نائيةٍ منه بنى خزانةً هائلةً رتب فيها أمواله وسبائك ذهبه وفضته ومجوهراته من الياقوت والزمرد واللآلئ النادرة التي كان ضوؤها يخطف الأبصار، وكان يحلو له تناول طعام غدائه بجوار ثروته داخل تلك الخزانة ثم يعود إلى أهله ولا يكشف سره لأحد. ذهب ذات مرةٍ إلى الخزانة ولم يعد أبداً، وباءت كل محاولات البحث عنه بالفشل. ﻟ ﻳﻜﺘﺸﻔﺗﻪ ﺇﻻ ﺑﻌ عدة أيام عندما لاحظ أحد الخدم وجود مفاتيح الخزانة في بابها من الخارج فأسرع بفتحها فإذا به يجد جثة سيده "روتشيلد"، ووجد بجوارها ورقةً مكتوباً عليها بالدم "أغنى أغنياء العالم يموت جوعاً"!
أما ما حدث فهو أن الخزانة كانت تُغلق من جانبٍ واحدٍ؛ وحدث أن دخل الرجل ونسي مفاتيح خزانته ببابها الخارجي بعد أن أغلقها، وما إن فرغ من تناول طعامه داخل خزانته وأراد الخروج تذكر أن المفتاح بالخارج، ﺻﺎﺡ ﺑﺄﻋﻠﻰ ﺻﺗﻪ ﻳﺴﻤﻌﻪ ﺃﺣ، أخذ يصرخ وما من مُجيب. بقي داخل خزانته عدة أيام دون أن يشعر أحدٌ بغيابه؛ فقد كان من ﻋﺎﺩﺗﻪ ﺃﻥ ﻳﻐﻴ ﺍﻟﻘﺼ ﻛﺜﻴﺍً، ﻓﻠﻤﺎ ﻏﺎﺏ ﻋ ﺃﻫﻠﻪ ﺃﻧﻪ ﺳﺎﻓ. ظل ﻳﺼﻴﺢ ﻭﻳﺼرخ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﺃﺩﺭﻛﻪ ﺍﻟﺠ ﻭﺍﻟﻌﻄﺶ فمات جوعاً وبجواره ثروته التي لا تقدر بمالٍ. لكن عندما أدرك أن مصيره الموت جرح إصبعه وكتب بدمه على ورقة عبارته المشهورة لتكون عظةً لمن يتعظ وعبرةً لمن يعتبر!
وهذا واحدٌ من ﺃﻛﺒ ﺃﻏﻨﻴﺎﺀ ﻟﺒﻨﺎﻥ، إن لم يكن أكثرهم غنىً على الإطلاق، "إيميل البستاني"، ﺃﻧﺸﺄ لنفسه ﻗﺒﺍً ﻓﻲ ﺃﺟﻤﻞ ﻣﻨﻘﺔٍﻠﺔٍ ﻋﻠﻰ ﺑﻴﻭﺕ، ﻭﻟﻪ ﺎﺋﺓٌ ﺧﺎﺻﺔٌ، ﻭﻗﻌ به ﺍﻟﺎﺋ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺤ. ﺩُﻓِﻌَ ﺍﻟﻤﻼﻳﻴ لاﻧﺘﺸﺎﻝ ﺟﺜﺘﻪ، لكنهم لم يعثرﻭﺍ إلا ﻋﻠﻰ حطام ﺍﻟﺎﺋة ﻓﻘ، ﻭﻟ ﻳﺘﻤﻜﻨ أبداً ﻣ ﺍﻟﻌﺜ ﻋﻠﻲ جثته ﻛﻲ ﺗُ ﻓﻲ ﻫ ﺍﻟﻘﺒ ﺍﻟذي بناه!
الأول بنى بماله خزانةً كبيرة، لكنه لم يستطع أن يشتري بماله لحظة حياةٍ واحدة!
والثاني بنى بماله قبراً عظيماً، لكن ماله لم يضمن له أن يُدفن فيه!

أحبتي في الله .. (ليس كل الرزق مالٌ) هذه حقيقة؛ رغم أن كثيراً من الناس يظن أن الرزق مقصورٌ على السعة في المال فقط، وهم واهمون في ذلك، غافلون عن أن الرزق ليس مجرد المال؛ بل إنه يتجاوز ذلك بكثير؛ فالرزق كما عرفه ابن منظور في لسان العرب هو "ما تقوم به حياة كلِّ كائنٍ حيٍّ؛ ماديّاً كان هذا الرزق أو معنويّاً". وهو ما يشير إلى المفهوم الواسع لمعنى الرزق في لغة العرب.
يلاحظ المراقبون أن ما يتبادر إلى ذهن كثيرٍ من الناس اليوم حين يسمعون عن توسعة الله تعالى على فلانٍ في الرزق هو المعنى المادي فحسب، حيث لا يَشُكُّون لحظةً في أن المقصود هو كثرة المال والأمور المادية المشابهة، ولا يخطر ببال أحدهم غير هذا المعنى، إلا من رحم ربي فآتاه علماً وفهماً وفقهاً في الدين؛ فالحقيقة أنه قد يكون المقصود بالرزق، إضافةً للمادي منه، أمورٌ أخرى معنويةٌ هي أهم من المال والمتاع المادي، فلا يرتبط الرزق بالمال فحسب بل يرتبط بكافة مناحي الحياة التي يحتاجها الإنسان؛ فالصِّحة رزقٌ، والأبناء رزقٌ، والصُّحبة الطيبة رزقٌ، والزوجة الصالحة والزوج الصالح رزقٌ، والوالدان رزقٌ، والإيمان رزقٌ، والعمل الصالح الذي يعمله العبد رزقٌ، إلى غير ذلك من الأمور المعنوية. فالفهم الخاطئ يكمن في قصر مفهوم الرزق على المعنى المادي المتمثل في المال أو غيره، بينما الحقيقة التي تشير إليها النصوص الشرعية من كتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم تؤكد شمول معنى الرزق في الإسلام الأمور المادية والمعنوية؛ فقد ذُكر لفظ الرزق في القرآن الكريم بمعنى الرزق المادي من مالٍ وطعامٍ وغيثٍ، وبمعنى الرزق المعنوي كالثواب كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ أي: يُثابون على ما قدموا من أعمالٍ وتضحياتٍ. كما فسر الشيخ السعدي مفهوم الرزق الوارد في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ برزق القلوب من العلم والإيمان وغير ذلك من الأمور المعنوية؛ فقال في تفسير الآية: الرزق الدنيوي يحصل للمؤمن والكافر، وأما رزق القلوب من العلم والإيمان ومحبة الله وخشيته ورجائه، ونحو ذلك فلا يعطيها إلا من يحب.
وفي آياتٍ أخرى عن الرزق قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ فبيَنّ أنّ من أسباب تحصيل الرزق والبركة فيه، سواءً للفرد أو الجماعة، الإيمان بالله سبحانه وتعالى وتوحيده، وأن سبب منع الرزق هو الكفر بالله والإشراك في عبادته، وارتكاب المعاصي. وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ﴾ يوضح أنّ الاستغفار من أسباب الحصول على الرزق. وقوله عز وجل: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ﴾ يؤكد على أنّ الله سبحانه هو الذي يُقدّر الرزق لعباده، فيُعطيه من يشاء ويمنعه عمّن يشاء من باب الابتلاء والامتحان. وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ يبين أنّ كلّ من يتّقي الله تعالى ويخافه فلا يعصيه، وكل من يتوكّل عليه فإنّه يجعل له من كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل كربٍ فرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب. وقوله سبحانه: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ يوضح أن من أسباب الحصول على الرزق، سواءً في المال أو الأولاد، كثرة الاستغفار، كما يبين أن (ليس كل الرزق مالٌ).
وفي السُنة النبوية ما يشير إلى أن مفهوم الرزق في الإسلام واسعٌ ولا يقتصر على الأمور المادية فحسب؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعود قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: [إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيد]. جاء في شرح العلماء لكلمة "رِزْقه" في الحديث: الرزق هنا ما ينتفع به الإنسان؛ وهو نوعان: رزقٌ يقوم به البدن، ورزق يقوم به الدين. والرزق الذي يقوم به البدن هو الأكل والشرب واللباس والمسكن وما أشبه ذلك، والرزق الذي يقوم به الدين هو العلم، والإيمان، وكلاهما مرادٌ بهذا الحديث. وفي حديثٍ نبويٍ شريفٍ يقول الرسول عليه الصلاة والسلام للصحابة رضي الله عنهم: [... وجئتم تسألوني عن الرِّزقِ يجلِبُهُ الله على العبدِ، الله يجلبُهُ عليه فاستنزِلوه بالصَّدقةِ، ...] وفي ذلك بيان أن الصدقات تستنزل الرزق. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لو أنكم توكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً] وفي ذلك بيان أهمية التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب لتحصيل الرزق.

والرزق ليس كما يظنُّ الناس، يأتي للفرد بطريق العمل أو الاستثمار أو نحو ذلك، بل هو ما يَقسِمُ الله تَعالى لعباده من النعم المادية والمعنوية، أما السعي والعمل والاستثمار فهي أسبابٌ لابد من الأخذ بها لاستنزال الرزق، فقد حثَّ الله سبحانه عباده على السعي لطلب الرزق؛ فقال سبحانه: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾، وهذه دعوةٌ صريحةٌ للسَّعي إلى الرِّزق، فلا بُد للإنسان أن يسعى حتى يحصل على ما قدره الله له من رِزق.
ومن أهمّ ما يجب على المؤمن أن يعتقده أنّ الله هو الرزَّاق، وهو الذي خَلَقَ الخَلْقَ وتولَّى أرزاقهم؛ قال سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ﴾.
ومن أصول الإيمان أن يعلم الجميع أن رزقَ الله تعالى الذي قدَّره لا يَفُوتُ العبدَ، بل لا بد من تحصيله، وقد قال في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما ترَكت شيئاً مما أمرَكم الله به إلا وقد أمرتُكم به، ولا شيئاً مما نهاكم عنه إلا وقد نهيتُكم عنه، وإن الروح الأمين قد ألقى في روعي أنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفي رزقَها]؛ فلو أن الناس آمَنوا بذلك، لَما كان هناك سرقةٌ ولا نهبٌ، ولا غصْبٌ ولا اختلاسٌ، ولا تحايُلٌ على قضية الرزق، فما قدَّر الله تعالى آتٍ لا محالة، وما لم يُقدِّر فلن يستطيعَه العبدُ، ولو بذل في سبيل ذلك الدنيا وما فيها.
وكثرة الرزق لا تدلُّ على محبة الله؛ فالله سبحانه وتعالى يرزق الجميع، ولكنه قد يزيد أهلَ الضلال والجهل في الرزق، ويوسِّع عليهم في الدنيا، وقد يَقتُر على أهل الإيمان، فلا يُظَن أن العطاء والزيادة دليلُ المحبَّة والاصطفاء؛ قال عز وجل: ﴿وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ . وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ . وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾. وقال سبحانه: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ . نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾. والله يعطي الدنيا مَن يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب؛ قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ . وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾؛ فليس كلُّ مَن وسَّعتُ عليه أكرَمتُه، ولا كل من قَدَرتُ عليه أكون قد أهنتُه، بل هذا ابتلاءٌ؛ ليشكر العبد على السرَّاء، ويصبر على الضرَّاء، فمَن رُزِق الشكر والصبر، كان كل قضاءٍ يَقضيه الله خيراً له؛ كما أخبرنا صلى الله عليه وسلم حين قال: [لا يقضي الله للمؤمن من قضاءٍ إلا كان خيراً له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاءُ شكَر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضرَّاءُ صبَر، فكان خيراً له].
ومن أصول الإيمان التسليم بأن الله سبحانه وتعالى متصرِّفٌ في أرزاق العباد، يجعل من يشاء غنيّاً كثيرَ الرزق، ويَقدِر على آخرين، وله في ذلك حِكمٌ بالغةٌ؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾، قال ابن كثير: أي خبيرٌ بصيرٌ بمَن يستحق الغنى ومن يستحق الفقر، فمن العباد من لا يَصلُحُ حالُه إلا بالغنى، فإن أصابه الفقرُ فسَد حالُه، ومنهم بضدِّ ذلك. وقال في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ﴾ ولو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق، لحمَلهم ذلك على البغي والطُّغيان بعضهم على بعضٍ؛ أشراً وبطراً، ثم قال: ﴿وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾.
والرزق يُبارَك فيه بالطاعة، ويُمحَق بالمعصية، فتَذهب بركتُه وإن كان كثيراً ظاهراً؛ لأن ما عند الله تعالى لا يُنال إلا بطاعته؛ قال سبحانه: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾. وفي المسند: [إن الرجل لَيُحرمُ الرزق بالذنب يُصيبه]. وكما أن تقوى الله مَجلبةٌ للرزق، فترْك التقوى مَجلبةٌ للفقر، فما استُجْلِب رزقٌ بمثْل ترْك المعاصي، وضرب الله المثل لذلك في القرآن؛ قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾.
إن من استعجَل الرزقَ بالحرام، مُنِع الحلالَ؛ رُوِي عن عليٍّ رضي الله عنه أنه دخل مسجد الكوفة، فأعطى غلاماً دابَّته حتى يُصلي، فلما فرَغ من صلاته، أخرج ديناراً ليُعطيه الغلام، فوجده قد أخذ خِطام الدابَّة وانصرَف، فأرسل رجلاً؛ ليشتري له خِطاماً بدينار، فاشترى له الخِطام، ثم أتى به، فلمَّا رآه رضي الله عنه قال: "سبحان الله! إنه خِطام دابَّتي"، فقال الرجل: اشتريتُه من غلامٍ بدينار، فقال علي رضي الله عنه: "سبحان الله، أردتُ أن أُعطيه إياه حلالاً، فأبى إلا أن يأخذه حراماً!".

أحبتي .. كتب أحد العارفين يقول:
إن من أهم آثار قصر مفهوم الرزق على الأمور المادية، والمال بشكلٍ خاصٍ، هو غفلة كثيرٍ من المسلمين عما رزقهم الله تعالى من أرزاقٍ معنويةٍ ظنوا بسبب فهمهم الخاطئ أنها لا تدخل في مفهوم الرزق، فظنوا أن الله حرمهم الرزق ومنحه لآخرين، بينما الحقيقة أن ما مَنَّ الله به عليهم من رِزقٍ في الإيمان والعلم وصلاح الولد وراحة البال وغير ذلك مما هو باقٍ يفوق بأضعاف مضاعفةٍ رِزق غيرهم من مالٍ ومتاعٍ ماديٍ زائلٍ، وهذا يؤكد أن (ليس كل الرزق مالٌ). وبالمقابل فإن إدراك المسلمين للمفهوم الإسلامي الشامل للرزق له نتائجه وآثاره الإيجابية؛ حيث يسود الرضى عن الله تعالى، وتلهج الألسنة والأفئدة بشكره على نعمه الظاهرة والباطنة، ورزقه الواسع في جميع المجالات المادية والمعنوية.
قال الشاعر:
توكلت في رزقي على الله خالقي
وأيقنت بأن الله لا شك رازقي
وما يك من رزقٍ فليس يفوتني
ولو كان في قاع البحار العوامق
سيأتي به الله العظيم بفضله
ولو لم يكن مني اللسان بناطق
ففي أي شيءٍ تذهب النفس حسرةً
وقد قسَّم الرحمن رزق الخلائق
وقال:
عليك بتقوى الله إن كُنت غافلاً
يأتيك بالأرزاق من حيث لا تدري
فكيف تخاف والله رازقاً
فقد رزق الطير والحوت في البحر
ومن ظن أن الرزق يأتي بقوةٍ
ما أكل العصفور شيئاً مع النسر

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/SMiDGk