الجمعة، 26 أغسطس 2016

فلنغير ما بأنفسنا

الجمعة 26 أغسطس 2016م
خاطرة الجمعة /٤٦

(فلنغير ما بأنفسنا)

دأب الإنسان منذ بدء الخليقة على محاكاة غيره من المخلوقات، فكانت أول محاكاة بشرية سجلها التاريخ تلك التي بدأها قابيل ابن آدم عليه السلام عندما طوعت له نفسه قتل أخيه هابيل، ثم عجز عن مواراة جثة أخيه في التراب فبعث الله سبحانه وتعالى غراباً ليريه كيف يواري سوءة أخيه؛ قال تعالى: ﴿فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾، ولم تنقطع رحلة المحاكاة؛ حاكى الإنسان السمك والحيتان فصنع المراكب والبواخر والسفن والغواصات، وحاكى الدواب والأحصنة فصنع السيارات، وحاكى الطيور فصنع الطائرات، وحاكى العنكبوت فصنع شبكات الصيد وأجهزة غزل المنسوجات، وحاكى الخفاش والدولفين فصنع الرادارات. وبالتوازي حاول الإنسان محاكاة الظواهر الطبيعية؛ فحاكى ظاهرة التبخر بصنع الآلات البخارية، وحاكى هطول المطر بالاستمطار الصناعي، وحاكى برودة الجو والصقيع بصنع مكيفات الهواء والبرادات والمجمدات. ثم بدأت محاكاة أعضاء جسم الإنسان وجوارحه؛ فاخترع الإنسان النظارات والميكروسكوبات والكاميرات والسماعات والأطراف الصناعية وأجهزة غسيل الكلى والقلب الصناعي وأجهزة الحاسوب، في محاكاة مقصودة للعين والأذن والأيدي والأقدام والكلى والقلب والمخ. ولما حاكى مخلوقات الله سبحانه وتعالى في الكون اختار القمر ليحاكيه فصنع الأقمار الصناعية. وكان من آخر ما حاكاه الإنسان أن قلد نفسه وحاكاها في بعض وظائفها فصنع الروبوتات.
إنها محاكاة الهدف منها تغيير حياة البشر وتحسينها وتطويرها، فهل توجد ثمة علاقة بين هذا الأمر وبين ما تتضمنه الآية الكريمة:﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾؟ تشير الآية إلى نوعين من التغيير: العام والخاص، واشترطت لحدوث التغيير العام أن يكون البدء بالتغيير الخاص، وهو ذلك الذي يبدأه كل فرد منا برغبته وإرادته.
فكرت في الأمر فإذا بخاطرة وردت على ذهني رأيت أن أعرضها عليكم، وها أنا ذا أفعل.
يولد الإنسان على الفطرة طاهراً نقياً خالياً من الذنوب، ويبدأ رحلة حياته ويتواصل مع الآخرين، وتأتيه الابتلاءات والفتن كثيرة ومتتابعة قدرها له المولى عز وجل، لا تنتهي إلا بنهاية الزمن المقدر له للحياة، وهو أجله المسمى؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. تنتهي حياة الإنسان فيُحاسَب على أفعاله وأقواله في كل ما مر به من ابتلاءات وفتن؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾، إنه الابتلاء والاختبار الذي يمر به كل ابن آدم، يقول تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ﴾، ويقول: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾.
وقبل يوم الحساب يقوم المؤمن بمحاسبة نفسه وهو يعلم أن [كُلّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ] كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، فمن رحمة الله أن شرع لنا التوبة وشرع لنا الاستغفار وشرع لنا من أعمال الخير ما يمحو السيئات؛ قال صلى الله عليه وسلم: [وأتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحسَنَةَ تَمْحُهَا]. فتغيير النفس يكون باتباع منهج الله سبحانه وتعالى والالتزام بأداء عباداته وشعائره.
عندما وصلت إلى هذه النقطة من التفكير مرت على ذهني تشابهات كثيرة في الوظائف بين عباداتنا وشعائرنا وبين بعض عمليات نقوم بها في جهاز الحاسوب، وبدا الأمر لي  كأنه نوع من المحاكاة بينهما، من ذلك على سبيل المثال:
 أن عملية إعادة التهيئة <formatting> التي تمسح جميع الملفات ليعود الجهاز بعدها إلى حالته كما بدأ أول مرة، تبدو وكأنها تحاكي فريضة الحج وهي العبادة التي يرجع بعدها المسلم [كيَوْمِ وَلدَتْهُ أُمُّه] كما في الحديث الشريف. وعملية <factory reset> وهي عملية ضبط المصنع التي ترجع بالجهاز إلى إعداداته الأساسية لكنها تحتفظ بالملفات دون مسحها، فيها محاكاة لشعيرة العمرة حيث يكون التغيير بعدها فارقاً في طريقة تفكيرنا وتنظيم أولوياتنا وأساليب تعاملنا. كما بدت لي عملية <deleting> وهي عملية مسح للملفات غير المرغوب فيها، وكأنها تحاكي الآية القرآنية الكريمة: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِْ﴾ وتمحهن فلا يكون للسيئات أثر بل تحل الحسنات محلهن. وتبدو عملية <restart> وهي إعادة تشغيل الجهاز ليبدأ بداية صحيحة، محاكية لحالتنا عندما تتوقف عقولنا عن العمل ونعجز عن التفكير لمشاكل تمر بنا فنقوم للوضوء والصلاة فنستعيد توازننا ونرجع بأنفسنا إلى حيث يجب أن نكون. أما عملية <updating> وهي عملية يومية مستمرة تضمن أن يكون الجهاز وبرامجه في أعلى مستوى ممكن من الجاهزية وحسن الأداء، كأنها تحاكي فريضة الصلاة التي يتوجب على المسلم أداءها خمس مرات كل يوم على الأقل يقف بين يدي خالقه فتتم عملية أشبه ما تكون بالصيانة الدورية المنتظمة وإعادة الضبط تجعل المسلم يحس بالأمن والأمان والاطمئنان والسكينة والهدوء وراحة النفس، وصدق الرسول الكريم عندما كان يقول عن الصلاة: [أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ].
أرجو ألا أكون قد شططت فيما ذهب إليه ذهني من تشابهات بدت لي كأنها نوع من المحاكاة.

أحبتي في الله .. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾، وفي هذا توجيه إلهي لنا بأن نبادر إلى إحداث التغيير المطلوب بأنفسنا نحن أولاً نحو الأفضل ونحو الأحسن، ومع إخلاص النية لله نضمن بإذنه سبحانه وتعالى النجاح في الابتلاءات والفتن المقدر لها أن تكون هي مجال اختبارنا في الحياة الدنيا، وإن لم نفعل فلن تتغير أحوالنا ونظل نشكو مما يحيط بنا من سوءٍ وشرٍ ومكرٍ وكدٍ وكَبَدٍ وكربٍ وضُرٍ وضيقٍ وضجرٍ وسأمٍ وإرهاقٍ وتعبٍ ومشقةٍ وعنتٍ وهمٍ وغمٍ وحزنٍ وعِللٍ وسقمٍ ووجعٍ وألمٍ ومرضٍ ومحنٍ وفتنٍ وظلمٍ وعدوان، وغيرها من أشكال البلاء والابتلاء.
وعلى المسلم أن يكون معايشاً لعصره، غير منعزل عن دنياه، وأن يكون تفكيره مرناً وأفقه واسعاً وعقله متفتحاً، يدعو الناس، خاصةً الشباب منهم، إلى تصحيح اتجاهاتهم ونظرتهم إلى الدين والدنيا والأخذ بأياديهم للعودة إلى طريق الحق وانتهاج سبل الخير، بلغةٍ يفهمونها، ومفرداتٍ من واقع حياتهم، فيكون بذلك قد خدم دينه وبلَّغ ولو آية؛ وفاءً لأمر وتوجيه المصطفى عليه الصلاة والسلام: [بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً] وعملاً بسنته؛ فيسعد في الدارين: الدنيا التي هي دار ممر، والآخرة التي هي دار مقر ومستقر.

أحبتي .. فلنشمر سواعد الجد ولننطلق لتجديد حياتنا وتحسين واقعنا والارتقاء بأحوالنا نحو الأفضل، وليكن شعارنا (فلنغير ما بأنفسنا)، فإن كنا غافلين نبدأ بعملية <formatting>  شاملة وجذرية نراجع فيها أنفسنا في جميع المجالات ونتخذ قرارات مصيرية لتصويب مساراتنا وتحديد أولوياتنا، ولو كنا مقصرين نقوم بعملية <factory reset> لإعادة ضبط منظومة القيم ومعايير السلوك لدينا فنرجع لفطرتنا الأصيلة ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾، وإن كنا مسيئين فلنحرص على الاستمرار في عملية <deleting> للسيئات أولاً بأول بالإكثار من الحسنات ما أمكنا ذلك، وإن أردنا الحسنى لأنفسنا داومنا على عملية <updating> بالالتزام بالصلوات على أوقاتها ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾، وبمزيد من أعمال البر والتقوى والخير والإحسان بشكل يومي مستمر لنعزز إيماننا ونضيف جديداً إلى رصيدنا كل يوم؛ لتكتمل بذلك عملية التغيير في أنفسنا، ونثق في وعد الله القائل: ﴿وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ﴾ بأن يغير ما بنا ويصلح لنا أحوالنا ويستجيب لدعائنا .. يرحمنا ويرحمكم الله.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/KGpMHk