الجمعة، 3 مارس 2023

صدق اليقين

 

خاطرة الجمعة /385


الجمعة 3 مارس 2023م

(صدق اليقين)

 

تروي إحدى الأخوات قصتها تحت عنوان "عندما عادت إليَّ نفسي" فتقول: كل ما أملكه لم يكن يتجاوز عقلاً شارداً يتخبط بي، وهَمًّا يؤرقني، وأنيناً في صدري يهز أضلاعي، ووجدتُ نفسي وحيدةً على كثرة مَن حولي، ووجدتني ضعيفةً جداً، وما أعظمها من حقيقةٍ تعلمتُها من تجربتي، حقيقة أنني ضعيفةٌ لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضَراً! حقيقةٌ نؤمن بها نظرياً، لكن شتان بين النظرية وبين أن نذوقها ونعيشها، حينها تتبدل المقاييس والمعايير في ذواتنا، ونُعيد البناء على أساسٍ متينٍ، على أساس ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾. لجأتُ للقرآن الكريم حينها، وكيف لجأت؟! كانت البداية بعد آيةٍ ترددتْ في ذهني كثيراً ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾، وأخذتُ أضع بنفسي لنفسي وِرداً أقرؤه ليطمئن قلبي المكلوم، فهدأتْ نفسي لمجرد القراءة، ولكن مازلتُ أشعر أني في طريقي لخيرٍ أعظم.

وفعلاً جاءتني مكالمةٌ من أختٍ في الله ذكرتني بالله وبِعِظَمِ أجرِ الابتلاء والصبر عليه، وقالت: "لقد أراد الله بك خيراً؛ فلربما أرادَ أن يزيدكِ من فضله بعد أن رأى منكِ نفعَ الناسِ بما تُقدمينه لهم من خيرٍ، ثُمَّ قرأَتْ آيةً، وانتهت المكالمة. لم تكن تعلمُ ما فعلَتْ بي هذه الآية، لقد غيَّرت مجرى تفكيري حينها بشكلٍ غير عاديٍ، ووجدتُ في روحي انتعاشاً غاب عني شهوراً، إنها قول الله تعالي: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾، يا الله! أبالصبر واليقين أنال هذا الشرف؟ حينها قلتُ بكل عزمٍ وحزمٍ: "يا أقدامَ الصبر تحملي ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، وكوني على يقينٍ بكل ما يعدك ربك في كتابه"، وقررتُ حينها أن أصبر وأصبر، وأن يكون عندي يقينٌ أكثر بفرج الله سبحانه ووعده حيث يقول: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾، ويقول: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَي اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾، ويقول جلَّ وعلا: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾، ويقول تعالي: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾. وحينما كانت الضغوط تُحيط بي، ويتعالى حديث الناس من حولي بأنني سأفقد الكثير، كانت تأتيني آيةٌ تنزل على قلبي نزول المطر على الأرض الجدباء القاحلة؛ فيُزهر ربيع قلبي، يقول الله تعالي: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾. لقد كانت كل آيةٍ تأتيني ذكرى من الله، فَلَكَم يفتح التدبر للنفس من آفاقٍ نحو السعادة والاستقرار النفسي، والله إنها لحياةٌ جديدةٌ لقلبي؛ فخرجتُ من المحنة بمنحةٍ عظيمةٍ وربحٍ كبيرٍ مع رحلة التدبر، يكفيني أني قد ربحتُ ذاتي التي وجدتْ أخيراً طريقها في (صدق اليقين) بوعد الله!

 

أحبتي في الله.. وتروي أختٌ أخرى قصتها فتقول: انفصل عني زوجي وتركني وحدي مع أربعة أطفال. وذات مساءٍ مرض ابني الصغير بالحُمى، ووقعتُ في حيرةٍ من أمري؛ ليست لي حيلةٌ، ولا صلةٌ لي وثيقة بالجيران؛ فاستعنتُ بالله أدعوه وأُلح في الدعاء، وكلي يقينٌ بأن يُنقذني ويرحم ضعفي وقلة حيلتي. لم تمضِ ساعةٌ حتى طُرق باب الشقة ففتحتُ فإذا الذي أمامي طبيبٌ جاء يسأل عن المريض! وبعد أن أتم الكشف وقدَّم بعض الدواء الذي يكون معه عادةً، نزل ولم يطلب أتعاباً بعد أن أدرك حالة الأسرة وظروفها. ورغم شدة يقيني بالله سبحانه وتعالى إلا أنني كنتُ مُتعجبةً مما حصل، إلى أن علمتُ -بالصدفة- أنّ الطبيب كان يقصد الشقة المقابلة لنا في نفس المنزل؛ هُم الذين اتصلوا به هاتفياً واستدعوه ليُعاين مريضاً لديهم فإذا به يطرق باب شقتنا بالخطأ. ختمت أختنا قصتها بقولها: "فسبحان من له الكون كله، يُسيره حيث يشاء؛ فاعتبروا يا أولي الألباب".

 

ومن يتدبر آيات القرآن الكريم يجد أن (صدق اليقين) يأتي دائماً في مقام المدح؛ في مثل قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ . أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. كما ورد في وصف المؤمنين مرةً، وفي وصف المُحسنين مرةً أخرى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾. إنه اليقين الثابت الذي لا يتزعزع.

 

وقال النبي عليه الصلاة والسلام: [...إنّ الله بِحكْمَتِهِ وجَلالِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ والفَرَجَ في الرِّضا واليَقِينِ، وجَعَلَ الهَمَّ والحُزْنَ في الشَّكِّ والسُّخْطِ]. وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: [..وَمِنْ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا..]، و[اللهم إني أعوذُ بكَ من الشكِ بعد اليقين]. وهو القائل: [سلوا اللَّهَ العفوَ والعافيةَ فإنَّ أحدًا لم يُعطَ بعدَ اليقينِ خيرًا منَ العافيةِ]. والقائل: [صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل وطول الأمل].

 

يقول أهل العلم إنّ اليقين عملٌ من أعمال القلوب التي تحيا به الروح وتسكن به النفس وينشرح به الصدر، وهو سبيل الاهتداء إلى طاعة الله عزَّ وجلَّ، وهو دليل الانتهاء عما حرَّم الله، فالله تعالى يقول عن المتقين: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ . أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾.

 

والذي يمتلك (صدق اليقين) يُصدِّق ما قاله الرسول صلى الله عليه سلم: [يا غُلامُ إنِّي أعلِّمُكَ كلِماتٍ، احفَظِ اللَّهَ يحفَظكَ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ، إذا سأَلتَ فاسألِ اللَّهَ، وإذا استعَنتَ فاستَعِن باللَّهِ، واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ، وإن اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ] فيُدرك أن كل ما يُصيبه في هذه الحياة الدنيا هو بتقديرٍ من الله عزَّ وجلَّ، ويُدرك أن الإنسان مبتلىً في هذه الحياة، وأن الحياة زائلةٌ، وأن المصاعب التي نواجهها هي خيرٌ لنا؛ لأننا لا نعلم الغيب, فكم من الأمور كنا نعتقد أنها شرٌّ لنا وقت حدوثها، ثم بعد مرور الوقت اكتشفنا أنها لصالحنا.

إنّ الصلة بالله -سبحانه وتعالى- تعلقاً به، ويقيناً بموعوده، وأملاً في نصره، ورضاءً بقضائه، ومحبةً في ثوابه، وخوفاً من عقابه، وتوكلاً على قوته، ذلك هو المعوّل عليه في كل خطبٍ، وهو الموثوق به في كل كربٍ. وكل شيءٍ يُستنَد فيه إلى غير الله فإنه إلى هزيمةٍ وانهيار، وكل اعتمادٍ وتوكلٍ على غير الله فإنه إلى ضياعٍ وانحدار.

وعن اليقين قال الشاعر:

ولبستُ ثوبَ الصبرِ أسترُ حاجتي

فوجدتُ ثوبَ الصابرين رحيبا

ورجوتُ ربي أن يُفرج كُربتي

فوجدتُه في النائباتِ قريبا

لما رضيتُ بأمرِ ربي موقناً

رأيتُ لُطفاً من لَدنه عَجيبا

 

أحبتي.. اصدقوا اليقين بالله، فإن كل من وصل إلى (صدق اليقين) بحقٍ جنى ثمرته كما قال أحد الصالحين: "بعد الفقرِ غنىً، وبعد المرضِ عافيةٌ، وبعد الحزنِ سرورٌ، وبعد الضيقِ سَعَةٌ، وبعد الحبسِ انطلاقٌ، وبعد الجوعِ شبعٌ، فسوف تُبدَل الأحوال، وتهدأُ النفوسُ، وتنشرحُ الصدور، وتسهل الأمورُ، وتُحَل العُقدُ، وتنفرجُ الأزمات".

اللهم ثبِّت يقيننا، وقوِ عزيمتنا، واجعل الرشد سبيلنا والثقة بك منهجنا، والرضا بقضائك وقدرك اختيارنا ومرجعنا.

 

https://bit.ly/3mmQ0F0