الجمعة، 27 نوفمبر 2015

مطبات جوية


27 نوفمبر، 2015م
خاطرة الجمعة /٨

(مطبات جوية)

ركبت الطائرات كثيراً، وامتدت رحلاتي الجوية لأكثر من أربعين عاماً .. بعض هذه الرحلات لا يمكن أن أنساها .. منها ما كان من يومين، في طريقي من القاهرة إلى الشارقة، تعرضت الطائرة التي تقلني إلى مطبات جوية قوية .. في البداية لم أُعر الأمر اهتماماً، فلما طالت مدتها وزادت شدتها أيقنت أن الأمر مختلف وخطير .. وجدت نفسي أدعو الله سبحانه وتعالى بكل صدق وإخلاص أن يزيل هذه الغمة .. دعوته أن نجتاز منطقة المطبات الهوائية بأمان .. وأن نصل إلى وجهتنا سالمين ..
واستمرت المطبات .. فأخذت بيني وبين نفسي أقرأ ما تيسر من قرآن ..
لكن مع الدعاء ومع قراءة القرآن كان هناك خاطر لا يفارقني .. كلما حاولت الهرب منه لازمني واستحوذ على فكري .. خاطر قد لا يرغب كثير منا أن يفكر فيه .. تملكني شعور قوي بأنها ربما كانت النهاية .. أحسست بأننا نقترب من الموت أو كأنه يقترب منا .. ولمٓ لا وهذه المطبات الجوية ما تزال مستمرة .. تحرك الطائرة بكل من فيها كأنها دمية أو لعبة أطفال ..
مر شريط حياتي سريعاً في مخيلتي .. أتذكر ما أعتقد أنه صالح مما عملت فأحس بالرضا والاطمئنان للحظات .. ثم أتذكر ما قصرت فيه، وأتذكر سيئات أعمالي، وأتذكر أموراً كنت أعتزم القيام بها ثم أجلتها، وأتذكر أخطاء لم يعد في إمكاني تصحيحها .. فيتملكني الرعب ويسيطر علي الهلع .. وأتساءل هل إذا كانت هذه النهاية بالفعل .. هل أكون من الناجين يوم الحساب؟ ..
اكتشفت أن كل ما أفخر به من أعمال اعتقدت أنها صالحة وحسنة وجيدة قليل إذا وضع على كفة الميزان مع أعمالي الأخرى .. فهل ينطبق علي قوله تعالى: ﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾؟ ..
الأفكار تُشعل رأسي .. يمتد لهيبها إلى قلبي .. والمطبات الجوية ما تزال تلهو بالطائرة وتحركها بعنف ..
آخر ما سيطر على تفكيري .. هل من أمل في النجاة؟ هل لنا فرصة جديدة للاستمرار في الحياة عسى أن نعمل فيها عملاً صالحاً غير الذي كنا نعمل؟
نظرت إلى مَن حولي في الطائرة .. فأدركت أنهم جميعاً يعانون ما أعاني .. وربما يفكرون كما أفكر ..
وأحسست أننا جميعاً ندعو بيننا وبين أنفسنا: "اللهم ارحمنا .. اللهم اكشف ما بنا من ضر .. ونعدك يا ربنا إن استجبت لنا .. فسنصلح أمورنا .. ونصحح أخطاءنا .. ونسارع بالخيرات فلا نؤجلها .. ونبتعد عن كل عمل لا ترضاه" ..
وتوقفت المطبات الجوية .. وتنفسنا الصعداء .. وعادت الدماء تسري في عروقنا .. فماذا نحن يا ترى فاعلون؟ هل نصدق الله ما وعدناه؟ أم نكون ممن تنطبق عليه الآية الكريمة: ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ﴾؟
وتذكرت: ﴿وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾، فهل نحن يا ترى من هؤلاء؟
كم منا من اقترب من لحظة موت وقت مرض، أو وقت حادث في بر أو بحر أو جو؟ وكم منا من مر به ضُرٌ أياً كان نوعه؟ وكم منا من حدث المكروه لقريب له أو صديق فدعا الله سبحانه وتعالى ثم نكث وعده وعاد كما كان كأن لم يدع الله؛ فانطبق عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَسَّهُ  كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾؟ .. اللهم لا تجعلنا من المسرفين .. ثم، هل يتعلق أمر الموت بمطبات هوائية أو عملية جراحية أو مرض وغرفة إنعاش أو حادث؟ بالطبع لا .. هل لا نبدأ رحلة العودة إلى الله إلا بعد ضر يمسنا أو قريب أو صديق يغيبه الموت؟ هذه هي الغفلة ..
اللهم ارحمنا برحمتك وردنا إلى دينك رداً جميلاً .. خذ بيدنا وساعدنا للاقتراب منك أكثر وأكثر .. وأعنا على ضعف أنفسنا ..
أحبتي في الله .. كل يوم جديد هو فرصة متجددة للاستزادة من الأعمال الصالحة أعمال البر والخير؛ فهي الباقية لن ينفعنا غيرها.. وكل يوم جديد هو فرصة للاقتراب من الله أكثر وأكثر ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾، فهلا استفدنا من هذه الفرص التي لا تعوض؟
هلا بدأت نفوسنا اللوامة في حث نفوسنا الأمارة بالسوء للتحول دون إبطاء لتكون نفوساً مطمئنة ترجع إلى ربها راضية مرضية فتدخل في عباد الله وتدخل جنته؟
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله مني ومنكم صالح الأعمال.