الجمعة، 18 فبراير 2022

تسريحٌ بإحسان

 

خاطرة الجمعة /331


الجمعة 18 فبراير 2022م

(تسريحٌ بإحسان)

 

من مذكرات أحد الأئمة:

لقيته مرةً جالساً في المسجد حزيناً كئيباً؛ فوقفتُ على رأسه وقلتُ له مداعباً: "قال رجلٌ لآخر: هل زوجتك من النوع النكد؟! فرد عليه صاحبه: وهل هناك نوعٌ آخرٌ؟!"، فنظر إليّ نظرةً ملؤها الحزن، ثم أشاح بوجهه، وأشار إليّ بيده أن اجلس؛ فجلستُ بجواره مستغرباً وقلتُ: "ما بك؟!"، فاستدار، وزفر زفرةً مُخيفةً، ظننتُ أنها خرجت معها بنار!، ثم قال: "أنا منذ سنواتٍ أُعاني من عدم التفاهم بيني وبين زوجتي، وهي كذلك!"، سألتُه: "هل تمزح؟!"، قال: "لا والله، لا أقول إلا الحق" ثم أكمل قائلاً: "طلقتُها البارحة!"، فاندهشتُ وقلتُ: "هكذا بكل بساطة؟! أنسيتَ العِشرة؟! ألا تتذكر لها أية حسنة؟ وبناتك؟ ألم تفكر فيهن؟"، رد عليّ قائلاً: "يا أخي لا تعجل، امرأتي واللهِ إنسانةٌ فاضلةٌ نبيلةٌ، وهي …"، قاطعتُه بسؤالي: "وتُطلقها رغم فضلها ونبلها؟ ما هذا الكلام؟!"، رد بقوله: "أنت الذي بدأتَ الكلام معي، فإمّا أن تستمع لي، أو تُغيّر الموضوع"، اعتذرتُ منه وقلتُ: "آسف، أكمل!"، قال: "ولأنها نبيلةٌ وفاضلةٌ فقد جلستُ معها البارحة جلسة مصارحةٍ، بناءً على رغبتها، ودار بيننا حوارٌ طويلٌ، ثم قالت لي بالحرف الواحد: أنا أحترمك جداً، لكني لا أشعر تجاهك بحبٍّ، ولا أستطيع الاستمرار معك في هذه المعاناة، وأنت رجلٌ طيبٌ، ولا أريدُ أن أظلمك أو أظلم نفسي، فقلتُ لها: فما الحل؟! قالت: أن تُطلقني وأنت عني راضٍ، ونتفق على كيفية زيارتك للبنات، هذا إن سمحتَ لي أن أقوم برعايتهن، والأمر لك. فدمعت عيناي، وأكبرتُها جداً، وقد كنتُ أدعو الله تعالى أن يُنير لنا الطريق الصحيح، ثم قلتُ لها: أسأل الله تعالى أن يُعوضك خيراً مني، فقالت: وأنا أشهد لله أنك طيبٌ، وأسأل الله أن يُعوضك خيراً مني. ثم طلقتُها وخرجتُ من البيت باكياً، أهيم في الشوارع كالمجنون، فما هانت عليّ الذكريات الجميلة، وما هانت عليّ هي، ولا بناتي، لكني كنتُ أمام أمرين أحلاهما مرٌّ. وبعد قُرابة ساعتين، رجعتُ إلى البيت وإذا بها قد حزمت حقائبها وجلست تنتظرني؛ فأعطيتُها مبلغاً من المال ثم أوصلتُها إلى بيت أهلها ومعها بناتي الصغار؛ فودعتني وهي تبكي. والآن أشعر بفراغٍ كبيرٍ جداً في حياتي، ولستُ أثق في أحدٍ أشكو له حالي إلاّ الله". فحزنتُ لكلامه جداً، وقلتُ له: "أُقسم بالله سيعوضك الله خيراً؛ فأنت رجلٌ شهمٌ وعظيم الأخلاق". وفي الحقيقة فقد ذرفت عيناي ولم أستطع أن أُكمل جلوسي معه فاستأذنتُه وقمتُ، وأنا أدعو له كثيراً. كنتُ أراه في المسجد منهمكاً في الدعاء، ولم أكن –حينها– معروفاً كثيراً بين المصلين، ولم أكن إماماً، بل كنتُ طالب علمٍ صغيرٍ – ولم أزل والله– فكنتُ أمكث في المسجد بعد الصلوات أحياناً، كنتُ أشاهده دائماً على هذا الحال منفرداً بنفسه. ثم فرقت الأيام بيننا، وبعد سنواتٍ رأيتُه صدفةً يركب سيارته فما كدتُ أصدق عينيّ؛ فصحتُ به من بعيدٍ فالتفت فلما رآني أشرق وجهه وابتسم ابتسامةً حبيبةً وأوقف سيارته ثم أقبل نحوي مُسرعاً؛ فلما وصل صافحني بحرارةٍ وضمّني ضمةً أحسستُ بأضلاعي تطقطق منها! وكان طويلاً جسيماً وأنا .. لن أقول لكم! سألتُه: "ماذا صنع الله بك بعدي؟!" قال: "هل عندك وقتٌ؟"، قلتُ: "نعم"؛ فركبتُ معه وانطلق بالسيارة ثم انطلق في الحديث! قال: "أتذكر تلك القصة؟!"، قلتُ: "لقد حُفِرت في قلبي وعقلي!"، قال: "فإني كنتُ يوماً في المسجد، وإذ برجلٍ كبير السن، وقورٍ، ذي لحيةٍ بيضاء، يرمقني من بعيدٍ، ثم اقترب مني فإذا هو أبو فلان، قمتُ إليه، وصافحته، فقال لي: "اجلس!" فجلس وجلستُ معه، قال: "يا بُني؛ منذ فترةٍ طويلةٍ وأنا أراقبك، وأراك تُطيل الجلوس بعد الصلاة في المسجد لوحدك، هل تُعاني من ديون؟!"، فضحكتُ وقلت: "لا يا عم، لكني أمرُّ بظروفٍ عائليةٍ، وإن شاء الله تعالى يُفرّجها"، قال: "أهي سرٌّ؟!"، قلتُ: "عنك أنت؟ لا". ثم أخبرتُه بالقصة كلها فتأثر جداً، ثم سألني: "فلماذا لم تتزوج حتى الآن؟!"، قلتُ: "على يدك!"، فنظر إليّ وقال: "هل أنت جادٌ؟!"، قلتُ: "نعم!"؛ فأخذ بيدي وأقامني بقوةٍ وقال: "قُم معي!"، فقمتُ معه كالمسحور! فمشينا حتى أدخلني بيته، وتركني في المجلس، ودخل على أهله، وغاب عني قرابة ربع ساعةٍ مرت كأنها أربع ساعات! ثم عاد إليّ وأنا غارقٌ في العرق!، قال لي: "يا ولدي .. بعد قليلٍ تدخل علينا بنتي بالقهوة؛ إن أعجبتك فهي زوجتك، وإلاّ فالحمد لله ما صار شيء!"، فغصصتُ بريقي، ونظرتُ إلى ثوبي، وعدّلتُ من عقالي، وتسمّرتُ مكاني، فإذا بقطعة قمرٍ تدخل علينا من الباب، لها ابتسامةٌ خجولةٌ، نظرها إلى الأرض، لم أرَ بدراً ضاحكاً قبل وجهها، ولم ترَ هي قبلي ميّتاً يتكلمُ! دخلتْ تحملُ شيئاً بين يديها، فوضعتْه بيني وبيني أبيها، ثم انصرفتْ! اكتشفتُ بعد أن أفقتُ من ذهولي أنّ هذا الشيء هو القهوة! مسحتُ جبيني والتفتُّ لأبيها وقلتُ مُداعباً: "الله يهديك يا عمّ أحرجتَ البنت؟!"، فضحك وقال: "البنت أم أنت؟!"، ثم سألني: "ما رأيك في العروسة؟!"، قلتُ: "موافق!"؛ فضحك وقال: "أحضر لي غداً 5000 ريال مهرها، ومأذوناً شرعياً، وحياك الله تأخذ زوجتك والله يبارك لكما!"، قلتُ: "يا عمي 5000 آلاف قليلة، وأنا أيضاً أحتاج إلى أن أُجهز نفسي، وأشتري للبنت حاجاتها، و..."، قاطعني وقال: "لا حاجة لذلك؛ أنت عندك بيت، وكل شيءٍ ستجده جاهزاً غداً عندي إن شاء الله. أنت تستحق كل خير". قال: "فتزوجتُها .. والآن عندي منها ولدان، وبناتي يعشن معنا، ولا أزال على ذكرى طيبةٍ بزوجتي الأولى، وأدعو لها دائماً"، قلتُ: "هل تذكر أني قلتُ لك إن الله سيعوضك خيراً لأنك شهمٌ؟ لم تخن العشرة، ولم تجرجر زوجتك وأهلها في المحاكم وأقسام الشرطة، ولم تفترِ عليها وعليهم الكذب، بل تتحدث عنهم بخيرٍ في كل مجلس، لم تبتزها حتى تحصل على مالٍ مقابل طلاقها منك. أنت والله شهمٌ ورجلٌ بمعنى الكلمة"، قال: "أتوقع أنك ستفضحني في دروسك، ومقالاتك"، قلتُ: "اطمئن!".

 

أحبتي في الله .. هذا نموذجٌ رائعٌ لمسلمٍ تقيٍ ألزم نفسه بالتوجيه الإلهي (تسريحٌ بإحسان) والذي ورد ذِكره في قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾.

قال المفسرون لهذه الآية إن المُراد بها التعريف بسُنة الطلاق، أي من طلّق اثنتين فليتقِ الله في الثالثة، فإما تركها غير مظلومةٍ شيئاً من حقها، وإما أمسكها مُحسناً عشرتها، والآية تتضمن هذين المعنيين. والطلاق هو حل العصمة المنعقدة بين الأزواج بألفاظٍ مخصوصة. وهو مباحٌ بهذه الآية وبغيرها، وبقوله عليه الصلاة والسلام: [فإن شاء أمسك وإن شاء طلق]، وقد طلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة ثم راجعها. وأجمع العلماء على أن من طلّق امرأته طاهراً في طُهر لم يمسها فيه أنه مطلّقٌ للسُنة، وللعدة التي أمر الله تعالى بها، وأن له الرجعة إذا كانت مدخولاً بها قبل أن تنقضي عدتها، فإذا انقضت فهو خاطبٌ من الخطاب.

 

وكتبت إحداهن مقالاً جميلاً حول هذا الموضوع عنوانه (تسريحٌ بإحسان) قالت فيه إنّ من أبلغ الآيات التي تحدثت عن العلاقة الزوجية وعن حق المرأة في حال الانفصال، قوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، حفظتْ هذه الآية حق الزوج في الاختيار، وحفظتْ وجوباً كرامة المرأة وحقوقها كزوجةٍ أو طليقة. الحياة الزوجية عمادها المودة والرحمة، وأحد أهدافها الإعفاف وسد الاحتياجات الطبيعية، لكن يحدث اليوم استمرار الحياة الزوجية على الرغم من الانفصال العاطفي بين الزوجين، وتمضي أيامهما في غربةٍ وصمتٍ أو في شتاتٍ بين بيت الزوجية وبيت الأهل، فقط للاستمرار في ذات الشكل الاجتماعي أو خوفاً من تبعات الطلاق، وقد ينتهي المطاف بالزوجة إلى القضاء كطريقٍ لا تتمناه للبت في حالها. نعم، الأصل في عقد الزواج التأبيد، لكن مع استحالة العشرة يكون الانفصال هو المُقدَم على الاستمرار، ولا يوجد ما يُبيح للرجل تعليق زوجته وتركها متذبذبةً؛ فلا هي أخذت حق الزوجية كاملاً، ولا هي خرجت من ذمته فتسعى لحياةٍ أخرى كريمة. ولأن العصمة في الزواج بيد الرجل، كان حل تلك العصمة المنعقدة بيده، وكان العبء الأكبر عليه في رسم مسار تلك الحياة بالاستمرار أو الفراق، وكلا الأمرين شرطهما إكرام المرأة وإعزازها، وعدم إيذائها بالمن عليها وظلمها بمساس شيءٍ من حقوقها المالية والنفسية والعاطفية والاجتماعية. استضعاف المرأة والضغط عليها من خلال أي جانبٍ من تلك الجوانب يعتبر إضراراً بها ومنافياً للإحسان وللمعروف الذي أُمِر الرجل بمراعاته معها والالتزام به، الكيد للمرأة في نفسها أو في أبنائها والانتقام منها بطول مقاطعتها أو تعطيل مصالحها أو تأخير طلاقها أو المبالغة في التعويضات المتفق عليها للانفصال أو إخراجها من بيتها قبل انقضاء عدتها أو الحديث بما يُشير إليها أو إلى خصوصيتها ولو تلميحاً، كلها تُعتبر من التعدي عليها، وتُعد مخالفةً صريحةً للأمر الوارد في هذه الآية الكريمة، والمدعوم بقوله تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا﴾. يجب أن نجعل من قرآننا وأخلاقنا أفعالاً تُرى، وليس شعاراتٍ تُرفع.

 

وعند وقوع الطلاق يكون الأبناء هُم أول ضحاياه؛ الأمر الذي دفع إحدى الصحافيات للتساؤل: لماذا لا يُفكر الزوج والزوجة في مصير أطفالهما بعد الطلاق؟ هل يضمنان الحالة النفسية التي سيكون الأطفال عليها بعد الانفصال؟ هل فكرا في مستقبل أبنائهما والحالة التي سيكونون عليها بعد أن تتأزم نفسياتهم وتنعكس المشكلات على شخصياتهم وتوجهاتهم وطرق تفكيرهم؟ وما هو حال الصغار مع زوجة الأب أو مع زوج الأم؟ ومن يضمن ألا يكره الصغار آباءهم أو أمهاتهم؟ خاصةً ونحن نرى كيف يتبارى بعض الآباء والأمهات في تشويه صور بعضهم بعضاً لدى أطفالهم؛ مما يؤدي إلى مشكلاتٍ نفسيةٍ يُعانون منها، لا يعلم مداها إلا الله عزَّ وجل.

 

لا شك في أن الطلاق هو آخر ما يجب التفكير فيه إذا استحالت العشرة بين الزوجين، لكن هناك مرحلتين مهمتين تسبقانه، يجب ألا يحرم الزوجين المتخاصمين نفسيهما منهما، الأولى هي مرحلة الصلح؛ وتكون بالتفاهم ومحاولة حل المشكلات وإعادة النظر في السلوكيات التي كانت سبباً في سوء الفهم والخصام بين الزوجين، مع التسليم بأنه في هذه المرحلة لابد أن يُقدم كل طرفٍ بعض التنازلات كي تعود المياه إلى مجاريها؛ يقول تعالى: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾. أما المرحلة الثانية فهي التحكيم؛ وتكون بتدخل الحكماء من أهل الزوج وأهل الزوجة بهدف الإصلاح ببنهما؛ يقول تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا﴾.

 

أحبتي .. أختم بفقرةٍ منشورةٍ في إحدى الصحف استوقفتني، يقول كاتبها: "أنتم أيها المندفعون نحو المجهول، أعيدوا التفكير في الأمر، فتشوا في أعماقكم فقد يجد كلٌ منكم شيئاً من التقصير في داخله لم يتنبه إليه سابقاً، صحيحٌ أنّ هناك مشكلةً ما تدفع إلى الفراق، لكن من يدري، فربما يكون هناك شيءٌ آخر جديرٌ بإعادة التفكير والتأني".

أحبتي إذا وصل الزوجان إلى ما لا نتمناه -وهو الطلاق- فليتذكر كلٌ منهما قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ وليكن حرصهما وقتها على أن يتم إنهاء الحياة الزوجية مع الالتزام الكامل بالتوجيه الرباني (تسريحٌ بإحسان).

وفقنا الله لما يُحب ويرضى، وأبعد الفُرقة والخصام عن بيوتنا، ومتعنا بالوئام والانسجام والمودة والرحمة.

https://bit.ly/3LLTLMv