الجمعة، 25 يناير 2019

رُبَّ أخٍ لك لم تلدهُ أُمك


الجمعة 25 يناير 2019م

خاطرة الجمعة /١٧١
(رُبَّ أخٍ لك لم تلدهُ أُمك)

كتبَ يقول كان الوضع الصحي لجَدِّي حرجاً، ولم يكن له أحدٌ سواي ليعتني به، فاحتجتُ إلى شراء الدواء له، لكن لم يكن معي نقودٌ تكفي لأشتري له الدواء، فاتصلتُ بصديقٍ لي وقلتُ له أنني بحاجةٍ إلى نقودٍ لأشتري الدواء لجدي، فأخبرني أن أعاود الاتصال به في المساء! في المساء عاودتُ الاتصال، لكن لا أحد يجيب، كان هاتفه خارج التغطية! فشعرت بخيبة أملٍ، ثم خرجت إلى الشارع وبدأت أبحث عن أي مصدرٍ للمال لشراء الدواء لجدي، لكني لم أتمكن من ذلك؛ فعدتُ إلى المنزل وأنا محبطٌ لعدم جلب الدواء. دخلتُ إلى المنزل حزيناً فإذا بي أفاجأ بأن الدواء في يدي أمي! سألتها: "كيف أحضرتِ الدواء؟!"، قالت لي: "جاء صديقك سأل عنك، ولما أخبرته بأنك غير موجود؛ سألني عن وصفة الطبيب التي بها اسم الدواء الخاص بجدك؛ فأعطيتها له، فذهب وجلبه". اتصلتُ بصديقي مجدداً لأشكره؛ فإذا هاتفه ما يزال خارج نطاق التغطية. فذهبتُ إليه إلى المقهى التي نجتمع فيها دائماً، وجدتُه جالساً في مكانه المعتاد، جلستُ معه وسألتُه: "لماذا هاتفك خارج التغطية؟!"، فأجابني بأنه باع هاتفه لكي يجلب لي النقود. هنا بكيتُ وأحسستُ بأن الله سبحانه وتعالى قد رزقني بأغلى صديق.

وفي قصةٍ أخرى؛ حدث ذات مرةٍ أثناء وجود المعلم بالفصل، وطرحه لبعض الأسئلة على الطلاب أن وقع أحمد الطالب في الصف الخامس الابتدائي، في موقفٍ محرجٍ، فقد كان لا يستطيع التحكم في مثانته في بعض الأحوال؛ لذا تبلل سرواله وشعر بالخجل الشديد. وأخذ يتخيل كيف سيفكر فيه زملاؤه إن رأوه على هذه الحال، لا شك أنه سيكون موضوع سخريتهم، وسيتحدث عنه الجميع وينظرون له بامتعاضٍ شديدٍ. كان خياله يمضي به بعيداً، وتخيل كل الأشياء السيئة التي من الممكن أن تحدث. أثناء ذلك لاحظ المعلم نوعاً من عدم الارتياح يبدو على ملامح أحمد، فظل يراقبه ليتبين ما به من المتاعب، فزاد ارتباك أحمد عندما لاحظ ذلك، وحاول أن يتصرف بشكل طبيعي، ولأنه كان مضطرباً شعر بضربات قلبه تتزايد بشدةٍ، وأحس أن قلبه سيتوقف من شدة قلقه. نظرات المعلم لأحمد جعلت صديقه محمود يتنبه له، ولقرب مقعده منه استطاع رؤية سرواله المبلل. فطلب محمود من المعلم السماح له بالشرب فوافق، وحينما جلب محمود زجاجة الماء توجه إلى مقعده، وأثناء مروره بمقعد أحمد تعمد إسقاط الزجاجة عليه، فانسكب الماء منها على ملابسه. صُدم الجميع وهُرع المعلم لمساعدة أحمد، وأحضر محمود منشفةً من غرفة المعلمين، كما قام زملاء أحمد بتنظيف مقعده، وذهب واحدٌ منهم لإحضار ملابس رياضيةٍ من صالة الألعاب ليلبسها ريثما تجف ملابسه. وبدلاً من أن يسخر الجميع من أحمد أصبحوا متعاطفين معه، وعلى الرغم من أن المعلم وَبَّخ محمود على إهماله وعاقبه لإسقاطه زجاجة الماء على أحمد، إلا إن محمود لم يحزن فقد فعل هذا عن عمدٍ، حتى ينقذ صديقه من الوقوع في الحرج. وبطبيعة الحال صار أحمد مرتاحاً بعد كل ما حدث، ونظر إلى محمود، الذي وقف معاقبَاً في زاوية الفصل نظرة امتنانٍ، وبعد أن حان وقت انتهاء الدوام المدرسي، اقترب منه وشكره من كل قلبه، واعتذر له عن توبيخ المعلم له، لكن محمود ابتسم في هدوءٍ وقال له: "لا داعي للشكر بين الأصدقاء؛ لقد فعلتُ ما يحتمه عليّ واجب الصداقة".

أحبتي في الله .. صدق المثل الذي يقول (رُبَّ أخٍ لك لم تلدهُ أُمك)، وهو مثلٌ يُضرب للشهامة ووقوف الصديق بجانب صديقه في وقت الشدة، كنايةً عن قربهما من بعضٍ بحيث يصيرا كالأخوين رغم أنه لم تلدهما نفس الأم. إنها الصداقة الحقة والحب في الله الذي جعل أحدهم يقول: "إني لأضع اللقمة في فم صديقي فأجد طعمها في حلقي!".
يقول أهل العلم إن الصداقة هي الصحبة عن محبةٍ، وهي مأخوذةٌ من الصدق؛ لأن الصديق يصُدق صديقه. وقد حث الشرع على مصادقة الأخيار والبعد عن مصادقة الأشرار؛ يقول اللّه سبحانه وتعالى لرسوله الكريم: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، وتتضمن الآية الكريمة الأمر بمصاحبة الذين يخلصون للّه ويعبدونه ويبتهلون إليه ويخلصون له؛ لأنَّ هؤلاء هم الذين يزيدون إيمانك وهم الذين يحفظون لك ودّك ويفون لك الوعد والعهد.

يقول المفسرون أن منزلة الصديق عظيمةٌ حتى إنّ أهل النار يستغيثون بأصدقائهم قبل أقربائهم، ويتطلّعون إلى من كانوا يصادقون من أمثالهم فلا يرون أحداً، فيتساءلون: أين هو الصديق الحميم؟ أخبرنا اللّه سبحانه وتعالى أنهم يقولون: ﴿فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ . وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾، لكنهم يعرفون أن صداقة غير المؤمنين صداقةٌ لا ترتكز على أساسٍ، فما لم تكن الصداقة على الطاعة وتقوى الله فإنها تنقلب يوم القيامة إلى عداوةٍ؛ قال تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾. إن صديق السوء يتبرأ من صاحبه يوم القيامة؛ قال الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا . يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا . لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا﴾، يخبر الله سبحانه وتعالى عن ندم الظالم الذي فارق طريق الرسول وما جاء به من عند الله من الحق المبين، واتخذ خليلاً، وهو الصديق المقرب، أضله عن ذكر الله وسلك به طريقاً أخرى غير سبيل الرسول، فإذا كان يوم القيامة ندم حيث لا ينفعه الندم، وعضَّ على يديه حسرةً وأسفاً.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ]، ومعناه: فلينظر المرء بعين بصيرته إلى أمور مَن يريد صداقته وأحواله، فمن رضي دينه صادَقه، وليحذر ممن هو ضعيف الدين قليل الإيمان. وقال صلى الله عليه وسلم: [لا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلا يَأْكُلْ طعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ]؛ حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من صحبة من ليس بتقيٍ، وزجر عن مخالطته ومؤاكلته؛ لأن المطاعمة تُوقِع الأُلفة والمودة في القلوب. وقال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّما مثَلُ الجلِيس الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ: كَحَامِلِ المِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ]، حثاً لنا على اختيار الصديق الصالح؛ فالصديق الصالح له أثرٌ طيبٌ على صاحبه، والصديق السوء له أثرٌ سيئٌ على صاحبه، وفي هذا الحديث فضيلة مجالسة الصالحين، وأهل الخير والمروءة ومكارم الأخلاق، والورع والعلم والأدب، والنهي عن مجالسة أهل الشر وأهل البدع، ومن يغتاب الناس، أو يكثُرُ فجره وبطالته، ونحو ذلك من الأنواع المذمومة. وقال صلى الله عليه وسلم: [خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ]؛ أي أكثر الأصحاب ثواباً عند الله أكثرهم إحساناً إلى صاحبه، ولو بالنصيحة. وقال صلى الله عليه وسلم: [إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُعْلِمْهُ إِيَّاهُ]؛ فالإخبار بحب الصديق لصاحبه يوجب زيادة الحب بينهما، والتَحَابُ بين المؤمنين مطلوبٌ في الشرع، ومحبوبٌ في الدين.
ومن الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الصديق حتى يكون صديقاً صالحاً: التقوى، حُسن الخُلق، السمعة الطيبة، الوفاء، الأمانة، الصدق، الشهامة، الإخلاص، ورجاحة العقل.
قال بعض الحكماء: اصطفِ من الإخوان ذا الدِّين والحسب، والرأي والأدب؛ فإنه رِدْءٌ لك عند حاجتك، ويدٌ عند نائبتك، وأُنْسٌ عند وحشتك، وزَيْنٌ عند عافيتك. وقيل: اصحب أهل التقوى؛ فإنهم أيسر أهل الدنيا عليك مؤنةً، وأكثرهم لك معونةً. وقيل: صحبة الأخيار تورث الخير، وصحبة الأشرار تورث الشر. وسُئل حكيمٌ بم يعرف الرجل أصدقاءه؟ قال: بالشدائد؛ لأن كل أحدٍ في الرخاء صديقٌ.
وقال الشاعر:
عن المرءِ لا تسأَلْ، وسَلْ عن قَرِينهِ
فكلُّ قَرينٍ بالمُقَارَنِ يَقتدي
إذا كنتَ في قومٍ فصاحِبْ خيارَهم
ولا تصحَبِ الأرْدَى؛ فتردَى مع الرَّدِي

أحبتي .. ليَحْذَر كلٌ منا، ونُحذِّر أبناءنا وأحبابنا، من مصاحبة الإنسان الفاسق، المصر على المعاصي؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾، وعلينا أن نختار أصدقاءنا وفق التوجيه الرباني: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾؛ فليس أنفع لنا من صديقٍ صدوقٍ يعيننا على طاعة الله ومرضاته، يُقَوِّمنا بلطفٍ إذا أخطأنا، ويعلمنا بتواضعٍ إذا جهلنا، ويكون لنا خير الناصحين؛ ذلك هو الذي نقول عنه بحقٍ: (رُبَّ أخٍ لك لم تلدهُ أُمك).

اللهم اجعلنا من الأصدقاء المتقين المخلصين، وأصلح لنا أصدقاءنا ليكونوا من المؤمنين الصادقين، واجمع بيننا على الخير في الدنيا والآخرة.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


https://goo.gl/TMnKde