الجمعة، 29 أبريل 2022

البِر بالوالد

 

خاطرة الجمعة /341


الجمعة 29 إبريل 2022م

(البِر بالوالد)

 

كتب والدٌ يعيش وحيداً، يقول:

أُمضي شهر رمضان وحيداً عاجزاً مُثقلاً بالأمراض التي تحد كثيراً من حركتي، أتفقد هاتفي لعلي قد تلقيتُ مكالمةً ولم أشعر بها، فأنظر في الجوال فلا أجد من ذلك شيئاً. خلّفتُ ثلاثة شبابٍ وأختهم، خلّفوا لي أربعة عشر حفيداً معظمهم في الجامعات، وأغلب هؤلاء الأحفاد قضى معظم طفولته على أكتافي متجولاً ما بين ديزني لاند في لوس أنجلس وباريس ولندن وميلانو.

أفنيتُ شبابي في تدليل آبائهم وأمهاتهم. كنا نجتمع على الطعام خمسة عشر فرداً، بل وأكثر، وفجأةً لا أجد أحداً، تختفي الضوضاء والأطفال وآباؤهم، وأرى نفسي صديقاً مخلصاً لصديقين؛ النوم والنوافذ، وأقسم بالله أصبحت النافذة أعزَّ عليّ من أولادي كلهم. تُجري زوجتي بعض المكالمات مع صديقاتها المغتربات سواءً في أمريكا أو الخليج، وبسبب كوني فضولياً فإني أتلصص على مكالماتها، فأرى أنها مكالماتٌ من الأهل والسؤال عن احتياجاتهم بشكلٍ يومي. تصوروا أن في أمريكا وتركيا والخليج مكاتب تُسجل طلب الطعام في هذه البلاد وتتقاضى ثمنه وتُرسل الطعام من دمشق إلى أهل الصديقة الموجودة في أمريكا، وبالمقابل لي ولدٌ موجودٌ في كندا وهو الأصغر -عمره أربعون عاماً- يُكلمني بمعدل مُكالمةٍ واحدةٍ كل شهر، هل تصدقون أنه لم يُبارك لي بشهر رمضان حتى الآن؟ وطبعاً خلال عشر سنوات غيابٍ، ومع قلة مُكالماته لم يسألني يوماً بجديةٍ إن كنتُ بحاجةٍ لشيءٍ -زوج من الجوارب مثلاً- وفي نهاية المُكالمة يقول لي: "ارضَ عني"، وكأن الرضا كميةٌ من البونبون أضعها في جيبي وأُخرج منها لأصبَّ في جيبه متى طلب مني! وأما الآخر فهو في إستانبول، يحتاج عشرة أيامٍ حتى يُكلمني من جواله مُكالمةً مُقتضبةً يُنهيها بجملةٍ سريعةٍ ومتصلةٍ "عاوز شي بابا خاطرك"، عفواً نسيتُ أن أقول لكم أنه زارني بعد غياب عشر سنواتٍ حاملاً معه أربعة علب سجائر هديةً لي؛ لأني مازلتُ أدخن! وأما الكبير فيهم فيكتفي بالسلام عليّ -فقط السلام لا أكثر- عن طريق رسائل الماسنجر المكتوبة وليست الصوتية! وأخيراً كُلهم يطلبون الرضا! وأتساءل أنا: الرضا على ماذا؟ كُل أولادي يشهدون كيف كانت مُعاملتي لأمي وأبي -رحمهما الله- حتى أنهما طلبا مني ذات مرةٍ التوقف عن تقديم الهدايا لهما، ولم أكن أرضى أن تدخل بيتي فاكهةٌ أو أي نوعٍ من الطعام غير العادي قبل أن يدخل بيتهما قبلي بيومٍ على الأقل، وأُقسم بالله إنني سألتُ أبي مرةً -وكان يجلس بجانبي في السيارة- سألته أن يرضى عليّ، فدمعت عيناه، وقال لي: "وهل أنت بحاجةٍ إلى رضا؟".

كنتُ وحيداً قبيل المغرب أجلس بقرب النافذة، أنتظر أذان المغرب، سكونٌ وسكون، وأفكارٌ سوداء، وأتساءل أين أولئك الذين أفنيتُ كل شبابي ومعظم كهولتي في تدليلهم وتدليل نسائهم وأولادهم؟ أين هُم؟ ويقولون لي في نهاية المُكالمة الموسمية: "ارضَ علينا"، وهنا أتساءل: "هل إذا رضيتُ أنا سيرضى الخالق؟".

 

أحبتي في الله.. ليس من (البِر بالوالد) نسيانه وهجره وعدم السؤال عنه وتركه وحيداً، فالوحدة صعبةٌ على الجميع، فما بالنا بالوالد عندما يكون كبيراً في السن، يعيش وحده وبمفرده؟ إنه يُحس بمرارة الوحدة، ويتضاعف إحساسه بها عندما يكون له أبناء لا يسألون عنه، وإذا سألوا كان سؤالهم لرفع العتب، وكأنهم يقومون بواجبٍ يتمنون لو يتخلصون منه!

ذكرتني هذه القصة بقصيدةٍ مؤثرةٍ لشاعرٍ سوريٍ كان مقر عمله في لبنان، قضى وقتاً طيباً مع جميع أفراد أسرته خلال عُطلةٍ بمصيف "قرنابلٍ" بلبنان، وفي نهاية العُطلة ودّعوه وتركوه وحيداً وعادوا إلى حلب، ومع إحساسه بمرارة الوحدة كتب هذه القصيدة:

أين الضجيجُ العذبُ والشَّغَبُ؟

أين التَّدارسُ شابَهُ اللعبُ؟

أين الطفولةُ في توقُّدها؟

أين الدُّمى، في الأرضِ، والكتبُ؟

أين التَّشَاكسُ دونما غَرَضٍ؟

أين التشاكي ما له سببُ؟

أين التَّباكي والتَّضاحُكُ، في

وقتٍ معًا، والحُزْنُ والطَّربُ؟

أين التسابقُ في مجاورتي

شغفًا، إذا أكلوا وإنْ شربوا؟

يتزاحمون على مُجالَستي

والقربُ منِّي حيثما انقلبوا

فنشيدهم "بابا" إذا فرحوا

ووعيدهم "بابا" إذا غضبوا

وهتافهمْ "بابا" إذا ابتعدوا

ونجيُّهمْ "بابا" إذا اقتربوا

بالأمس كانوا ملءَ منزلِنا

واليومَ -ويحَ اليومِ- قد ذهبوا

ذهبوا، أجل ذهبوا، ومسكنهمْ

في القلبِ، ما شطّوا وما قَرُبوا

إني أراهم أينما التفَتتْ

نفسي، وقد سَكنوا، وقد وثبوا

وأُحِسُّ في خَلَدي تلاعُبَهُمْ

في الدارِ، ليس ينالهم نصبُ

وبريقُ أعينِهمْ إذا ظفروا

ودموعُ حُرقتِهمْ إذا غُلبوا

في كلِّ ركنٍ منهمُ أثرٌ

وبكلِ زاويةٍ لهم صَخَبُ

في النَّافذاتِ، زُجاجُها حَطَموا

في الحائطِ المدهونِ، قد ثقبوا

في البابِ، قد كسروا مزالجَه

وعليه قد رسموا وقد كتبوا

في الصَّحنِ، فيه بعضُ ما أكلوا

في عُلبةِ الحلوى التي نهبوا

في الشَّطرِ من تفّاحةٍ قضموا

في فضلةِ الماءِ التي سكبوا

إنِّي أراهم حيثما اتَّجهتْ

عيني، كأسرابِ القَطا، سربوا

بالأمسِ في "قرنابلٍ" نزلوا

واليومَ قدْ ضمتهمُ "حلبُ"

دمعي الذي كتَّمتُهُ جَلَدًا

لمَّا تباكَوْا عندما ركِبوا

حتى إذا ساروا وقد نزعوا

منْ أضلعي قلبًا بهمْ يَجِبُ

ألفيتُني كالطفلِ عاطفةً

فإذا به كالغيثِ ينسكبُ

قد يَعجبُ العُذَّالُ من رَجُلٍ

يبكي، ولو لم أبكِ فالعَجَبُ

هيهاتَ ما كلُّ البُكا خَوَرٌ

إنّي -وبي عزمُ الرِّجالِ- أبُ

 

وعن (البِر بالوالد) وأسلوب معاملته -باعتباره أحد الوالدين- ذكرت الآيات القرآنية طاعة الوالدين بعد طاعة الخالق؛ يقول تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [لا يدخل الجنة قاطع]، يقول شُرّاح الحديث إنّ أعلى درجات قطيعة الرحم هي قطيعة الوالدين -ومنها قطيعة الوالد- لأن البعض قد يهجر والده أو تكون العلاقة بينهما فيها نوعٌ من الهجر، وقد تصل الأمور بينهما إلى المحاكم، كل هذا من صور العقوق، وبعض الأبناء يقول والدي ظلمني، فحتى لو حدث ذلك فإنه لا يعني أحقية الابن بأن يُعاقب والده على ما قام به من الأعمال؛ فهذا بينه وبين الله عزَّ وجلَّ، فيجب على الابن أن يُظهر لأبويه -ومنهما والده- الإحسان والبِر مهما فعلا به، وعليه مصاحبتهما بالمعروف حتى لو وصل الأمر إلى أنْ يأمراه بالشرك بالله، يقول تعالى: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ .

وعن خُصوصية مُعاملة الوالد قال النبي صلى الله عليه وسلم: [الوالدُ أوسطُ أبواب الجَنَّة، فإنْ شئتَ فأضِعْ ذلك الباب أو احفظْه]، خير الأبواب وأعلاها، وأحسَن ما يُتوسَّل به إلى دخول الجَنَّة، والوصول إلى درجتها العالية، بابٌ يغفل عنه كثيرون.

وعن مكانة الوالد في الإسلام يقول أهل العلم إنّ للوالد مكانةً مهمةً في الإسلام، وله مقامٌ شامخٌ ومنزلةٌ كبيرةٌ. كما أنّ له دوراً مهماً في تحديد مصير المجتمع من خلال تربيته لأبنائه؛ فالخير والصلاح الذي يُصيب المجتمع إنما يكشف عن الجهود الخيّرة التي يبذلها الآباء لتربية أبنائهم فتنشأ الأجيال الصالحة.

إنَّ (البِر بالوالد) ليس قُبلةً تضعُها على جبينه أو يده، أو دراهم تضعُها في جيبه، أو هديةً تُدخل بها السُرور عليه، وإنْ كان كلُّ ما سبق مِن البِرِّ، لكن بعض الأبناء يختزل البِرَّ في تلك الصوَر، إنَّ البرَّ هو رُوحٌ وحياةٌ تبعثُها في كل عملٍ تقدِّمه لوالدك، فإنْ أعطيتَه مالاً أظهرتَ أنك ما كنتَ لِتحصل عليه لولا الله ثم بسببه، وإنْ دفعتَ عنه أذىً أبَنْتَ أنه قد دفع عنك مِن الأذى أضعافه، وإنْ جلبتَ له خيراً أقررتَ أنه قد سبقكَ وقدَّم لك أعلى منه وأعظمَ. وكأنَّ لسان حالك يقول: يا والدي وسيِّدي! قد قدَّمتَ أكثر مما عليك، وبقي ما هو لك، و﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾.

 

وذكر العلماء جملةً من الآداب في التعامل لتحقيق (البِر بالوالد) فقالوا: للوالد حق الإحسان إليه وطاعته، واللطف معه، والحنان عليه، وتحقيق كل ما يتمناه، وود الصُحبة والعِشرة ومرافقته في الخير. وللوالد حق الأدب في الحديث معه، وحُسن المعاملة، والنفقة عليه في حالة الاحتياج، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أنتَ ومالُك لأبيكَ] فلوالدك عليك حق النفقة والرعاية عند الكبر والشيخوخة، رفقاً وإحساناً واحتراماً ووداً ورحمةً به يرحمك الله في الكبر.

 

ومع ذلك نجد من الأبناء من يُسيء الأدب مع والده؛ إما بالتصرف الخاطئ أو النظرة الحادة أو العقوق الظاهر، والبعض يهجر والده بالكلام والبُعد عنه، وهناك أبناء يصرخون في وجوه آبائهم، وهناك من يضرب والده، وهناك من يودعه بإحدى دور المسنين، بل وصل الأمر إلى أقصى درجات العقوق بأن يقتل الابن والده!

 

أحبتي.. (البِر بالوالد) واجبٌ شرعيٌ علينا جميعاً الوفاء به، فهو سبيلٌ إلى الجنة. ولا يتحقق هذا البِر إلا إذا أحسن كلٌ منا تصور الأسلوب الذي يُحب أن يُعامله أبناؤه به؛ حينئذٍ نكون قد علمنا ما ينبغي علينا أن نقوم به بِراً بوالدنا وإحساناً إليه، كما يحثنا على ذلك المولى عزَّ وجلَّ، ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. فمن كان منا باراً بوالده فليزد من بِره، ومن كان مُقصراً فليتدارك نفسه ويُصحح مسار علاقاته بوالده ويُصوِّب أسلوب تعامله معه.

هدانا الله إلى مرضاته سبحانه وتعالى، وأعاننا على أن نكون أبناء بررة، وجعل حُسن بِرنا بوالدنا في ميزان حسناتنا.

 

https://bit.ly/3LtBFOM