الجمعة، 22 يوليو 2016

شيطانٌ أخرس

الجمعة 22 يوليو 2016م
خاطرة الجمعة /٤١

(شيطانٌ أخرس)

"لا، ليس من الحكمة أن تظل صامتاً"، هذا كان ردي على سؤال صديقٍ لي حدثني عن فسادٍ كبيرٍ يراه في مكان عمله .. حكى لي وهو متأثر عن حكايات فسادٍ شاهد بنفسه بعضها، وعرف بعضها الآخر من زملائه في العمل، بعد أن انتهى من حديثه سألني: "أليس من الحكمة أن أسكت وأغض الطرف عما يحدث؟"، فكان ردي كما أوضحت حاسماً: "لا، ليس من الحكمة أن تظل صامتاً"، واتبعت ذلك بالقول: "عليك عزيزي أن تتكلم؛ لكن من المهم أن تحدد بدقة متى تتكلم، وكيف تتكلم، ومع من تتكلم"، قال: "هلَّا أفصحت وشرحت؟"، قلت: "أما متى تتكلم، فهذا أمر لا يمكن التكهن به مسبقاً، فهو يتوقف على نوعية الفساد وخطورته ومدى انتشاره، ويرتبط بالوقت الذي تكون فيه قد تمكنت من الحصول على أدلة واضحة وقوية لا تقبل الدحض أو التأويل"، قال: "وماذا عن كيفية التكلم؟"، قلت: "هذه لها أساليب مختلفة منها الشكاوى الكتابية، والشكاوى الشفوية، وإن كان الغالب هو الشكاوى الكتابية، حتى وإن سبقها تقديم الشكوى شفاهةً فسُيطلب منك كتابة ما أخبرت به شفوياً"، قال: "ومع من أتكلم؟"، قلت: "ابدأ بالشخص أو الزميل الذي تراه يرتكب ما تعتبره فساداً، ابدأ معه بالنصيحة بينك وبينه، عسى أن يتوقف عن ذلك الفساد"، قال: "وإن لم يستجب لكلامي؟"، قلت: "حاول مرةً تلو أخرى .. اصبر عليه قدر ما ترى أن الصبر سيصل بك إلى مبتغاك، وحاول أن تساعده وتقدم له نصائح عملية تساعده على الخروج مما أوقع نفسه فيه، فإن لم يفلح ذلك، ربما كان من المناسب بعد تجاوز مرحلة النصيحة أن تنتقل إلى مرحلة التهديد بالشكوى ورفع الأمر إلى المسئولين؛ فبعض الناس لا يستجيبون إلا للتهديد إذا أحسوا وأدركوا أن الأمر جاد ولا تراجع عنه"، قال: "لعل آخر مرحلة، إذا لم يستجب للنصيحة، ولا يخاف من التهديد، هو رفع الشكوى بالفعل لجهة الاختصاص مشفوعةً بالمستندات والوثائق"، قلت: "ذلك صحيح"، قال متوجساً: "لكن ذلك سيجلب عليه ضرراً مؤكداً"، قلت: "تركه على ما هو عليه أشد ضرراً من محاولة إصلاحه وتقويمه بكل الطرق الممكنة، واعلم أنك تدافع عن الحق؛ والساكت عن الحق (شيطان أخرس)"، واستطردت قائلاً: "للأمانة يتوجب علي أن أنبهك أخي إلى ثلاثة أمور"، قاطعني قائلاً: "هاتها؛ كلي أذن صاغية"، قلت: "أولها أن تكون نيتك خالصةً لوجه الله سبحانه وتعالى وأن يكون هدفك هو الإصلاح ما استطعت .. ثانيها أن تُشعر زميلك المخطئ بأنك تريد مصلحته، فلا تتعالى عليه، ولا تستفزه، واجعله يحس أنك لا ترفضه لشخصه وإنما ترفض سلوكه .. ثالثها أن تترك له الفرصة ليصلح بنفسه ما أفسده، وأن يكون أسلوبك معه مزيجاً من الحكمة والصبر والتدرج". سكت قليلاً كأنما يراجع نفسه قبل أن يتكلم، ثم قال:
"أصارحك القول، أخشى على نفسي، فقد يطالني أذى"، قلت مُطَمْئِناً: "لو حدث لكان ثوابك عظيماً، ألا تحب أن تكون على حال كليم الله موسى عليه السلام مع فرعون؟ إذ نال موسى ومن تبعه من المؤمنين أذىً كثيراً عندما أراد أن يخلص قومه من فساد فرعون الذي وصفه الله بأنه ﴿كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ وبأنه ﴿كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾، فإذا بفرعون يقلب الحقائق ويزيفها ويخاطب قومه بقوله: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ﴾!؛ فكان زعيمُ المفسدين هو من يرفع راياتِ الإصلاح بدعوى أن موسى عليه السلام يريد أن يُظهر في الأرض الفساد! ومن العجب أن يستجيب القوم لهذا الزيف ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾، ﴿فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾،﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى﴾، فكانت النتيجة هلاكه وهلاكهم ﴿انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾. فلتصبر عزيزي ولتحتسب وثِقْ بوعد الله بنصرك طالما أنك على الحق". سأل بعد أن استمع إلى ما قلته: "هل هناك في ديننا الحنيف ما يرشدنا إلى التعامل مع مثل هذه المواقف؟"، أجبته: "بالطبع؛ فالإسلام دين حياة، وشريعتنا الغراء تنظم لنا جميع شئوننا من أقلها وأصغرها إلى أهمها وأعظمها"، قال: "وماذا عن الفساد تحديداً؟"، قلت له: " اقرأ ما شئت قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ﴾، وقوله: ﴿وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا﴾، وقوله: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، وقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ*وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾، وقوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ*أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾، وقوله: ﴿وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ*الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾، وقوله: ﴿فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾، وقوله: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾، وقوله: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، عزيزي لقد وردت لفظة الفساد ومشتقاتها خمسين مرة في القرآن الكريم لعل خلاصتها في قوله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾".

أحبتي في الله .. يتحدد واجب كلٍ منا إزاء الفساد في أمرين واضحيين جليين: الأول، أن نكون دائماً من المصلحين وألا نكون من المفسدين أبداً حتى لو بدا لنا أن لنا مصلحة في أن نقترف بعض أفعال الفساد أو في فسادٍ يقترفه الآخرون .. الثاني، ألا نترك الفساد يتمادى وينتشر كالوباء بين الناس؛ بالسكوت عنه أو التستر عليه أو تبرير اقترافه بأية حجة، أو مجاملة من يقوم به خاصةً إذا كان من الأقارب أو المعارف؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾، بل علينا جميعاً أن نتصدى له ونحاربه بالحكمة والموعظة الحسنة فإن لم يفلح ذلك فبالقانون؛ حيث يُروى عن عثمان  بن عفان، رضي الله عنه، ويُروى أيضاً عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، القول المشهور: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". 
أحبتي .. البعض في محاربة الفساد يتردد، يفضل الابتعاد ويختار أن يكون سلبياً، ويعتقد أن في ذلك الحكمة وإيثار السلامة .. لكن هذا خطأٌ كبير، وتقاعسٌ عما يجب أن يكون عليه موقف المسلم من هذا الأمر؛ ألا نتدبر قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾؟، [لوى لسانه: أخبر بالكذب]، [أعرض: سكت وكتم الحق، والساكت عن الحق (شيطانٌ أخرس)].

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.


تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.