الجمعة، 4 أغسطس 2017

مخلوقون لزمانٍ غير زماننا

الجمعة 4 أغسطس 2017م

خاطرة الجمعة /٩٥
(مخلوقون لزمانٍ غير زماننا)

اقترب مني وهو يمشي على أطراف أصابع قدميه، لمحته بطرف عيني وتظاهرت أني لا أراه، اقترب أكثر حتى لامست شفتاه أذني، فإذا به يهمس بصوتٍ خافتٍ: "أحبك يا جدي"، رغم أني فوجئت بما فعل إلا أنني قررت الاستمرار في اللعبة؛ فقربت شفتاي من أذنه وهمست بصوتٍ خافتٍ كذلك: "وأنا أحبك يا عمر"، ضحك آخر أحفادي، حفظهم الله جميعاً وبارك فيهم، ثم انصرف إلى لعبه وبراءة الأطفال في عينيه. لم يستغرق هذا الموقف سوى ثوانٍ معدودات، لكن أثره في نفسي كان كبيراً؛ فشعوري بالسعادة لهذا التصرف التلقائي من حفيدي العزيز كان أكبر من أن يُوصف، وتذكرت وقتها المقولة الشهيرة: "ما أعز من الولد إلا ولد الولد"، إنهم أحفادنا وهم (مخلوقون لزمانٍ غير زماننا).

أحبتي في الله .. امتنَّ الله تعالى على عباده بنعمة الأبناء والأحفاد؛ قال عز وجل: ﴿وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾.      والأطفال هبةٌ من الله سبحانه وتعالى، يتفضل بها على عباده؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ . أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا﴾، فالناس كما أفادت هذه الآية على أحوالٍ أربعة: منهم من يهبهم الله سبحانه وتعالى إناثاً فقط، ومنهم من لا يهبهم إلا ذكوراً، ومنهم من يهبهم إناثاً وذكوراً، ومنهم من يكون عقيماً فلا يهبه الله تعالى ذكراً ولا أنثى. فليس معنى ﴿يُزَوِّجُهُمْ﴾ في الآية هو النكاح كما قد يتوهم البعض بل المعنى هو الجمع والتقارن؛ أي أن يهب الله تعالى لبعض عباده بناتٍ وبنين، فهو يزاوج له في الهبة فيهبه أبناء من كلا الجنسين. يقول المفسرون لهذه الآية أنها نزلت في الأنبياء خصوصاً وإنْ عَمَّ حكمها؛ فيهب لمن يشاء إناثاً يعني لوطاً عليه السلام لم يولد له ذكر وإنما وُلدت له ابنتان، ويهب لمن يشاء الذكور يعني إبراهيم عليه السلام لم تولد له أنثى بل وُلد له ثمانية ذكور، أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وُلد له ثلاثة بنين وأربع بنات، ويجعل من يشاء عقيماً يعني عيسى ويحيى عليهما السلام. وأما تقديم الإناث في الآية الكريمة فقد ذكروا له حِكَماً منها: أنه توصيةٌ بالاهتمام بهن ورعايتهن لضعفهن، ومنها: إلغاء الأفكار التي كانت سائدةً عند العرب في الجاهلية عن البنات، ومنها: أنهن قُدمن في الذكر لأنهن أكثر لتكثير النسل، ومنها: أن في ذلك إشارةً إلى ما تقدم في ولادتهن من اليُمْن كما في الأثر "من يُمن المرأة تبكيرها بأنثى".

يُعَرَّف الحفيد على أنّه ابن الولد، أما ابن البنت فيُعرف باسم السِبط، وفيما يتعلّق برسول الله عليه الصلاة والسلام فلم يكن له أي أحفادٍ من أبنائه الذكور، وذلك بسبب موتهم وهم صغار السنّ، إلا أنّ له ثمانية أسباطٍ: خمسة بنين وثلاث بنات. أسباطه من ابنته زينب رضي الله عنها: علي {مات صغيرًا}، وأمامة {التي حملها النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة}. ومن ابنته فاطمة رضي الله عنها: الحسن، والحسين، ومحسن {مات صغيراً}، وأم كلثوم، وزينب. ومن ابنته رقية رضي الله عنها: عبد الله.
أما ابنته أم كلثوم رضي الله عنها فقد ماتت ولم تنجب.

ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة والأسوة الحسنة؛ قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرً﴾، فلننظر كيف كان يتعامل مع أحفاده:
تضافرت الروايات على أنّ الحسن والحسين كانا يركبان على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة؛ فمن رواية عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ :  خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ وَهُوَ حَامِلُ حَسَنٍ أَوْ حُسَيْنٍ فَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَهُ ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ فَصَلَّى فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَيْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا، قَالَ: إِنِّي رَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَاجِدٌ فَرَجَعْتُ فِي سُجُودِي فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَيْ الصَّلَاةِ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ، قَالَ: [كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ].
وخطبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فأقبلَ الحسنُ والحُسينُ، رضي الله عنهما، عليهما قميصَان أحمران، يعثُران ويقُومان، فنزلَ فأخذَهما، فصعِد بهما المنبَر، ثم قال: [صدقَ الله: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾، رأيتُ هذَين فلم أصبِر].
وكذا كان حُبُّه صلى الله عليه وسلم لبقيَّة أحفاده؛ فقد كان يُصَلِّي وهو حامل أُمامة بنت ابنته زينب رضي الله عنها؛  ففي الصحيحين عَنْ أَبِى قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّى وَهْوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلأَبِي الْعَاصِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا.
ويُرْوَى في الصحيحين أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ: قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا. فَقَالَ الأَقْرَعُ إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: [مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ].

عن علاقة الأجداد بالأحفاد الذين هم (مخلوقون لزمانٍ غير زماننا) يقول الخبراء في علم النفس أنَّ "الأب والأم يعيشان الأبوة والأمومة مع أطفالهما في حلوها ومُرّها، لكن الجدَّين يعيشان مع الأحفاد الأبوَّة والأمومة المتأخرة في حلوها فقط، أما الجانب المرّ فيتركانه للأب والأم". ويقول الخبراء في التربية أن "الأجداد يكتسبون دوراً عاطفياً جديداً من خلال تواجدهم مع جيلٍ ثالثٍ يختلف عن جيل الأبناء، ويحاولون تفادي الأخطاء التي وقعوا فيها أثناء تربيتهم لأبنائهم مستعينين بالخبرة التراكمية التي اكتسبوها. ودور الأجداد في حياة الأحفاد مهمٌ حيث يرتكز على التوجيهات البناءة والمعارف التي استقوها في حياتهم، ما يسمح لهم بتقديم النصائح المفيدة لأحفادهم". ويقولون: "على الآباء والأمهات أن يعلموا أن وجود الأجداد في حياة الأحفاد أمرٌ مهم. فهذا يسعد الأجداد ويسعد الأطفال أيضاً، فلا بأس من التنازل عن بعض القواعد الأسرية الصارمة عند زيارة الأجداد حتى يستمتع الأطفال قليلاً". ويضيفون: "بعض الأجداد ينظرون إلى الطريقة التي يربي بها الوالدان الأحفاد بشيء من الاستنكار، وهذا خطأ يسبب الكثير من الخلافات الأسرية. فعلى الأجداد أن يعلموا أن ليس عليهم إعادة التربية أو فرض رؤيتهم لكن دورهم هو الإضافة وتلقين الأجيال الجديدة قواعد الحياة من منطلق الخبرة  والحب والخوف عليهم ولكن من دون أوامر أو نزاعات". 
أما الخبراء في علم الاجتماع فيحذرون الأجداد من التدخل السلبي في تربية الأحفاد فيقولون: "كثيراً ما يكون الأجداد متسامحين مع أحفادهم ويحاولون الدفاع عنهم عند لجوء آبائهم إلى معاقبتهم من حيث تكون هناك ضرورة إلى العقوبة سواءً أكانت عقوبةً ماديةً أم معنويةً، ومن ثم لا يدرك الطفل لماذا يلجأ الأب إلى معاقبته في حين يحاول الجد حمايته. وعملية إدراك الطفل للخطأ الذي قام به أمرٌ مهمٌ جداً في عملية التنشئة الاجتماعية".
وكتب أديبٌ يصف علاقة الجد بالحفيد: "والحَفِيدُ لا يمكن أن يتلقى من زخات الحب أصفى ولا أكرم، ولا أكبر مما يهبه الجَدُّ في حياته، والجَدُّ على الجانب الآخر، بخبرة السنين، ومقارنة العقل، واستحلاب العواطف يجد عُمره في حَفِيده، ويستحضرُ طفولة أبنائه بين يديه من جديد، ويستعيدها بالصورة البطيئة، فيضخ في تلك العلاقة خلاصة ما عرف وجرب وسمع ورأى، ويعوض ما فاته، ويصلح كل الهفوات، التي حدثت في علاقته بأبنائه، ويحاول أن يصنع أنموذجاً متكاملاً مميزاً، يضاهي الكمال".
وهذا شاعرٌ نظم أبياتاً تصف مشاعره في انتظار وصول حفيده:
سبطي، حفيدي بل حبيبي في الطريق
ينبوع نورٍ كم يذوب
وكم يُـذيبُ وكم يريقْ
أحييْتَ فِيَّ مآثرًا
وبعثْتَ في صدري الشروق
أنت الحفيد بل الأنيس بل مهجتي
أنت الرفيق
أوَّاهُ أنت الجدولُ الرقراقُ
بالخير الدَّفـيـقْ
والنسمةُ السَّكـْرى
بأحلام السنين ولا تفيق
أنتَ المُـعَـتـَّـقُ في خوابي النور
والجدوى من الزمن العتيقْ
وكتب شاعرٌ آخر أبياتاً عن حفيدته منها:
حبيبتي حفيدتـــي الصغيـــرَةْ
لولاكِ ما أعطى الشــذى عبيرَهْ
ولا الأريجُ  قـــــــد ندى زهورَهْ
ولا الشعاعُ قد ألــــفتُ نــــورَهْ
يا سُلوتي فــي غربتي المريرة

وفي دراسةٍ أجرتها الجمعية الأميركية للمتقاعدين ثبت أن علاقة الأجداد بأحفادهم هي واحدةٌ من أكثر العلاقات الأسرية قوةً، برغم الاعتقاد السائد في العديد من بلدان العالم بأن روابط الأسرة متعددة الأجيال قد ضعفت في العقود الأخيرة وأن الأسر ستؤول إلى زوال.
وأوضحت الدراسة أن 88٪ من مشهد تواصل الأجيال يكون في صالح الطرفين صحياً ونفسياً، ويزيد من قدرة الجسم على مقاومة الأمراض التي تحتاج لجهاز مناعةٍ قوي. وانتهت الدراسة إلى نظريةٍ مهمةٍ بأنه كلما قويت روابط الصلة والتقارب والحب بين الأجيال المتعاقبة، خاصةً بين الأحفاد والأجداد، كلما وقف الأحفاد مع أجدادهم عند كبرهم وفي أيامهم الأخيرة التي غالباً ما يعانون فيها من أمراضٍ عضال. وكشفت دراسة أُجريت في العاصمة الألمانية برلين، اعتماداً على بيانات جرى جمعها من أكثر من 500 شخص فوق السبعين من عمرهم، أن الأجداد والجدات الذين يساعدون من فترةٍ لأخرى في رعاية الأحفاد، أو يقدمون المساعدة لآخرين في مجتمعهم، يعيشون لفترة أطول من كبار السن الذين لا يهتمون بالآخرين. وأكدت على أن التفرغ لتربية الأحفاد قد يؤثر تأثيراً سلبياً على كبار السن، ولكن المساعدة في التنشئة من آنٍ لآخر يمكن أن يكون مفيداً لهم. وتوصلت الدراسة إلى أن عدم الاتصال بالأحفاد على الإطلاق يؤثر سلبياً على صحة الأجداد والجدات.

أحبتي في الله .. هذا هو نبينا الكريم، نبي الرحمة، يعلمنا كيف نتعامل مع أحفادنا. وهؤلاء خبراؤنا يقدمون إلينا النصائح المفيدة في التعامل مع الأحفاد. وهذا أديبٌ وصف لنا علاقة الجد بالحفيد. وهذه أحدث الدراسات العلمية تؤكد لنا على ضرورة تعزيز العلاقة بين الجدود والأحفاد.
فعلينا أحبتي أن نتعامل مع أحفادنا وهم (مخلوقون لزمانٍ غير زماننا) بالحب والمودة والصبر والرحمة واللين، وعلينا أن نتفهم سماتهم وخصائصهم وطباعهم ونتعامل معهم وفقاً لها وبما يتناسب مع أعمارهم وشخصية كلٍ منهم. وعلينا أن ندرك تماماً معنى ما ورد في الأثر: "لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمانٍ غير زمانكم".
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/77Gtiq