الجمعة، 21 يونيو 2019

اختر لنفسك


الجمعة 21 يونيو 2019م

خاطرة الجمعة /١٩٢
(اختر لنفسك)

هل يغضب النحل لو أنتج الذباب عسلاً؟! كان هذا السؤال عنواناً لمشاركةٍ تلقيتها من صديقٍ لي يراسلني بواسطة برنامج واتس آب، أحببتُ أن تشاركوني إياها. إجابة السؤال هي: كلا، ولكن الذباب لم ولن يُنتج العسل. 
إن النحل والذباب يجمعهما تصنيفٌ علميٌ واحدٌ هو صنف الحشرات، ولكن الفرق بينهما أن النحل قد تلقى وحياً وتعاليم من السماء ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحلِ أَنِ اتَّخِذي مِنَ الجِبالِ بُيوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمّا يَعرِشونَ . ثُمَّ كُلي مِن كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسلُكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا﴾ وعندما التزم النحل بهذه التعاليم ونفذها أصبح يأكل أفضل ما في الطبيعة؛ رحيق الأزهار، ثم يُعطي أفضل الأطعمة العسل، ضمن نظامٍ مترابطٍ ومتماسكٍ ومنظمٍ؛ من الملكة إلى الحضانات إلى الجند الذين يحرسون الخلية إلى العاملات اللاتي تصنعن محاضن العسل إلى النحل الذي يجمع العسل. كما أنه يعيش في مجتمعاتٍ متعاونةٍ يؤدي كلٌ دوره فيها بصمتٍ وتفانٍ في العمل ضمن بيئةٍ نظيفةٍ.
أما الذباب فلم يتلقَ تعاليم سماويةً فبقي يأكل أسوأ ما في الطبيعة، ويعيش في البيئة القذرة، ولا يعطي إلا الأمراض، ويزعج الناس، ويعيش الذباب في مجتمعٍ مفككٍ ليس بينه أية رابطةٍ، تتصرف فيه كل ذبابةٍ لوحدها.
والنحل يعطي العسل الذي فيه شفاءٌ للناس ﴿يَخرُجُ مِن بُطونِها شَرابٌ مُختَلِفٌ أَلوانُهُ فيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ﴾، بينما الذباب يقوم بالنهب والسلب؛ يسلب بشكلٍ مزعجٍ ﴿وَإِن يَسلُبهُمُ الذُّبابُ شَيئًا﴾.
وفي ذلك عبرةٌ للناس؛ فالإنسان الذي يلتزم بتعاليم الله هو إنسانٌ أشبه ما يكون بالنحلة التي تعطي دوماً بلا كللٍ ولا ملل، أما المتمرد الفوضوي المزعج المستغل فتنطبق عليه حياة الذبابة؛ (اختر لنفسك) في أي مجتمعٍ تريد أن تعيش: مجتمع النحل أم مجتمع الذباب؟

وهؤلاء أفرادٌ من الناس اختاروا لأنفسهم أن يتحولوا إلى مجتمع النحل فانظر كيف تبدل حالهم؛ فحين فتح خالد بن الوليد - رضي الله عنه - بادية العراق وجد فيها كنيسةً تُسمى عين التمر فيها أربعون غلاماً يتعلمون الإنجيل ويتدارسونه لنشر النصرانية في الشرق، فأبقى عليهم ولم يدمر ولم يقتل، وكان بينهم ثلاثة: سيرين ويسار ونصير. بعد الفتح تعرف هؤلاء الثلاثة على الإسلام؛ فأسلم الأول وأنجب محمد بن سيرين الذي صار من أئمة التابعين في الحديث والفقه وتفسير الرؤى، وأسلم الثاني وأنجب أبو محمد إسحاق بن يسار صاحب كتاب السير والمغازي المعروف باسم سيرة ابن إسحاق، وأسلم الثالث وأنجب موسى بن نصير القائد الإسلامي الذي فتح الله على يديه الأندلس وشمال إفريقيا.
هؤلاء - وأمثالهم - اختاروا لأنفسهم أن يكونوا من مجتمع النحل الملتزم بتعاليم الله سبحانه وتعالى فأعانهم الله ووفقهم وأعلى شأنهم ويَسَّرَهُم الله لليسرى تحقيقاً لوعده: ﴿فَأَمّا مَن أَعطى وَاتَّقى . وَصَدَّقَ بِالحُسنى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِليُسرى﴾.

أحبتي في الله .. لا يستطيع الإنسان أن يختار لنفسه إلا بعد أن يقوم بمحاسبة نفسه، والمحاسبة المخلصة تكون نتيجةً للتأمل في مثل هذه الآيات القرآنية؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ . فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾، ويقول سبحانه: ﴿يوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾، ويقول تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾، ويبين لنا سبحانه المآل والمنتهى؛ فيقول: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى . وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى﴾، كما يقول تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: [الكَيِّس مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِما بَعْدَ الْموْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَه هَواهَا، وتمَنَّى عَلَى اللَّهِ] دان نفسه: أي حاسبها.
وورد في الأثر عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: "حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ فِي الْحِسَابِ غَدًا، أَنْ تُحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ".

وقال الشاعر في محاسبة النفس:
إِذَا ما قالَ لِي رَبّي
"أَمَا استَحْيَيْتَ تَعْصِيني؟
وَتُخْفي الذَّنْبَ عَنْ خَلْقِي
وبِالعِصِيانِ تَأتيني؟!"
فَكَيْفَ اُجيبُ يا وَيْحي!
وَمَنْ ذَا سَوْفَ يَحْمِيني؟
كَأَنّي قَدْ ضَمِنْتُ العَيْشَ
لَيْسَ الموْتُ يَأتِيني!
سَاُسْأَلُ مَا الذي قَدَّمْتُ
في دُنيايَ يُنْجيني
فَكَيْفَ إِجَابَتِي مِنْ بَعْدُ
ما فَرَّطتُ في دِيني
وَيَا وَيْحِي! أَلَمْ أَسْمَعْ
كلامَ اللهِ يَدْعُوني
أَلَمْ أَسْمَعْ بِيَوْمِ الحَشْرِ
يَوْمِ الجَمْعِ والدِّينِ
أَلَمْ أَسْمَعْ مَنادي المَوْتِ
يَدْعُونِي، يُنادِيني؟!

والناس يتفاوتون في مواقفهم من تعاليم الله ﴿إِنَّ سَعيَكُم لَشَتّى﴾، فهلا حاسبت نفسك؟ ما هو موقفك أنت؟ في أي مجتمعٍ تود أن تكون؟ (اختر لنفسك) هل أنت مسلم بطاقة، وُلدتَ مسلماً لأبوين مسلمين فأصبحت مسلماً بالتبعية، وتحسب نفسك مسلماً من غير التزام تعاليم ربك من صلاةٍ، وزكاةٍ، وحجٍ للبيت الحرام، وصدقاتٍ، وصلة رحمٍ، وصدقٍ، وأمانةٍ، ومعاملةٍ للناس بالحسنى؟
هل أنت ممن يتكاسلون عن الصلاة بحجة التعب والإرهاق أو ضيق الوقت، ثم هم أنشط ما يكونون إذا كان الأمر يتعلق برحلةٍ أو سهرةٍ، بل وتراهم يجدون كل الوقت لمتابعة مباراةٍ في كرة القدم، أو للانشغال بالفيس بوك والواتس آب وسناب شات ويوتيوب وغيرها، ولا حول ولا قوة إلا بالله؟!
أم أنت من مجتمع النحل من الملتزمين بتعاليم الله؛ لا تفوتك صلاة جماعةٍ في مسجدٍ، تصلي بخشوعٍ الصلوات المفروضة والسنن الرواتب وغير الرواتب وتحرص على قيام الليل والتهجد وصلاوات النفل؟
هل أنت ممن يصوم رمضان عادةً وليس عبادةً، فيمتنع عن الأكل والشرب والجماع في النهار، ثم هو يلهو في المساء ما بين سهراتٍ وأفلامٍ ومسلسلاتٍ؟
أم أنك من مجتمع النحل ممن يصومون رمضان إيماناً واحتساباً؛ وتصوم صوم الخاصة فتمنع جوارحك كلها من الحرام، وتصوم تطوعاً الأيام البيض من كل شهرٍ هجريٍ، ويومي الإثنين والخميس من كل أسبوعٍ، وغير ذلك من صيام التطوع؟
هل أنت ممن يؤجل أداء فريضة الحج عاماً بعد عامٍ بزعم عدم توفر شرط الاستطاعة؛ فتقدم تجديد سيارتك أو تغيير منزلك أو شراء أثاثٍ جديدٍ على أداء الفريضة، زاعماً أنك لم تستطع للحج سبيلاً؛ فتمضي بك السنون سنةً بعد أخرى، وينقضي العمر ويحين الأجل ولم تحج حج الفريضة؟
أم أنت من مجتمع النحل الذين بادروا لأداء فريضة الحج حين توفرت الاستطاعة، أو ممن يخططون لأداء الفريضة ويعملون بإخلاص نيةٍ من أجل ادخار ما يعينهم على أدائها؟
حدد موقفك و(اختر لنفسك)؛ هل أنت ممن يتهربون من أداء حق الله في المال؛ زكاةً وصدقاتٍ وإنفاقاً في سبيل الله، بأية حجةٍ؛ كما لو كنت تقول بينك وبين نفسك: ﴿إِنَّما أوتيتُهُ عَلى عِلمٍ عِندي﴾؟
أم أنت من مجتمع النحل ممن يعرفون حق الله في المال الذي أنعم به عليهم فيخرجون زكاته، ويزيدون على الزكاة الصدقات للفقراء والمساكين، والإنفاق في جميع أوجه الخير؟
هل أنت ممن يقطعون صلة الرحم، ويسيئون إلى الجار، أو يكذبون على الناس، أو يخونون الأمانة، أو يأكلون أموال اليتامى، أو ممن يمنعون الماعون، أو يطففون في الميزان، أو يتجسسون على الناس أو يغتابونهم أو يبهتونهم ويفترون عليهم؟
أم أنت من مجتمع النحل ممن يلتزمون بحسن التعامل مع الغير - مسلمين وغير مسلمين - وفق ضوابط الشرع الحنيف وتعاليم الله سبحانه وتعالى؟
هل أنت ممن يهجرون القرآن، فيشتكي منهم الرسول ويقول: ﴿يا رَبِّ إِنَّ قَومِي اتَّخَذوا هذَا القُرآنَ مَهجورًا﴾؟ هل بعد هذا العمر الذي وصلتَ إليه لم تختم القرآن ولو مرةً واحدةً بتلاوةٍ فيها خشوعٌ وتدبر؟!
أم أنت من مجتمع النحل ممن يداومون على تلاوة القرآن يومياً فلا يهجروه، وممن وفقهم الله لحفظه أو حفظ ما تيسر منه؟
هل أنت ممن يركنون إلى الذين ظلموا، ينافقونهم ويُزَيِّنون لهم سوء أعمالهم، فيبيعون دينهم بِدُنْيا غيرهم وهم لا يشعرون؟
أم أنت من مجتمع النحل الذين أنار الله بصائرهم، فلم يُعينوا ظالماً على ظلمه، وإنما نصروا كل مظلومٍ، والتزموا سبيل الرشاد، لا يخافون لومة لائم ﴿يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ﴾؟

أحبتي .. فليراجع كلٌ منا نفسه، ويزن جميع أعماله وتصرفاته بميزان الشرع، ويحاسب نفسه قبل أن يُحاسَب؛ فسنقف جميعاً بين يدي الله نُسأل عن كل صغيرةٍ وكبيرةٍ حتى يقول المجرمون المقصرون في حق الله البعيدون عن تعاليمه: ﴿يا وَيلَتَنا مالِ هذَا الكِتابِ لا يُغادِرُ صَغيرَةً وَلا كَبيرَةً إِلّا أَحصاها وَوَجَدوا ما عَمِلوا حاضِرًا وَلا يَظلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾.
لتكن رسالتنا واضحةً لأنفسنا ولكل من نحب: صارح نفسك، وحدد موقفك بأمانة، (اختر لنفسك) طريق الصواب، الحياة الدنيا قصيرةٌ ولك فيها أن تختار أحد طريقين لا ثالث لهما؛ إما طريق الهدى والفلاح والنجاح ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشقى﴾ فتكسب رضا الله سبحانه وتعالى وتكون من الفائزين في الدنيا والآخرة، أو طريق الكبر والغرور والإعراض ﴿وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكري فَإِنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنكًا وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيامَةِ أَعمى﴾، فتخسر دنياك وآخرتك والعياذ بالله.
لا يغرنكم أحبتي طريق الباطل، ولو تزين بكل زينةٍ وازدان بكل ما يخطف الأنظار، لا يغرنكم ولو كثر رواده والماشون فيه والساعون إليه والمهرولون ليسلكوه. واسلكوا طريق الحق مهما بدا خالياً موحشاً لا يمشي فيه إلا القليل، واثبتوا عليه فهو الطريق المستقيم الذي ندعو الله في كل صلاةٍ أن يهدينا إليه حين نقرأ في فاتحة الكتاب ﴿اهدِنَا الصِّراطَ المُستَقيمَ﴾.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم أنر بصائرنا لنختار لأنفسنا ما فيه خيرنا في الدنيا والآخرة، فنسلك الطريق المستقيم، مبتعدين عن مجتمع الذباب، مسارعين في الالتحاق بمجتمع النحل؛ نتبع تعاليم ربنا وشريعة ديننا الذي أكمله لنا وأتمم به علينا نعمته وارتضاه لنا دينا.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2WYUkfU


ليست هناك تعليقات: