الجمعة، 1 أبريل 2016

جواز سفر

1 أبريل، 2016م
خاطرة الجمعة / ٢٥

(جواز سفر)

أرسل لي الصديق عبد الحميد محمود عبد الحميد، يستأذن في عرض موقف واقعي مر به في المساحة الخاصة بخاطرة الجمعة.
ولما وجدت أن نشر الموقف به فائدة لأحبتي من قراء خاطرة الجمعة ومتابعيها، فقد استجبت لطلبه، وها أنا أنشر خاطرته كما وردتني منه:
حدث هذا الموقف منذ عدة سنوات حيث كنت أقيم وأعمل في دولة الإمارات العربية المتحدة، كانت أجمل سنوات عمري. لم أصطحب أسرتي معي بالإمارات؛ فقد ظلوا في القاهرة لظروف صحية خاصة بالزوجة تستلزم المتابعة المستمرة لدي الأطباء، ولكون الأبناء يدرسون في مدارس خاصة للغات.
كنت وكثير من الزملاء والأصدقاء ننتظر إجازة الصيف بفارغ الصبر لأنها تعني لنا الكثير فسوف يلتقي كُلٌ منا بالأسرة والأبناء وسنعطي لأنفسنا قسطاً من الراحة بعيداً عن متاعب العمل ومسئولياته.
وكانت إجازتنا تبدأ عقب انتهاء امتحانات الثانوية العامة حيث أن بعض المعلمين تختارهم إدارة التربية والتعليم للإشراف على لجان الامتحانات كمراقبين وملاحظين، وفي ذلك العام كُلفت كمراقب لإحدى لجان الامتحان، وتعرفت على معلم لغة عربية من صعيد مصر عمل معنا باللجنة كان يتميز بحسن الخلق والتعامل الطيب مع الجميع.
بعد الانتهاء من امتحانات شهادة الثانوية العامة بأيام قليلة أسافر إلى مصر التي بها الأحباب والأصدقاء.
في يوم السفر تحدثت إلى سائق سيارة الأجرة الذي اعتدت أن ينقلني بأمتعتي إلي مطار دبي، وكانت رحلتي في فجر أحد الأيام، صعدت مع بقية الزملاء المسافرين إلى الطائرة. حلقت الطائرة في السماء، ومرت ساعة تلو أخرى، ومع اقتراب موعد الوصول إلى مطار القاهرة يدق القلب دقاته السريعة ويزداد الشجن والتفاؤل والأمنيات العديدة بأوقات طيبة سعيدة ولقاء الأحباب والأبناء. بدأت الطائرة في دخول المجال الجوي لمصر، وبدأ نور الصباح في التسلل داخل الطائرة من خلال نوافذها الدائرية أعقبته أشعة الشمس البكر في ذلك الصباح الجميل، واختلط هذا المشهد بالمزيج من الأصوات الفَرِحة المتفائلة. هبطت الطائرة إلى أرض المطار بمهارة تحسب لقائدها. واختلطت الابتسامات والضحكات مع المشاعر الجميلة، فالكل في انتظار أن يلتقي بالأهل والأحباب والأصدقاء بعد دقائق قليلة، وفرق شاسع ما بين مشاعر الوصول إلى أرض الوطن في إجازة وبين مغادرة الوطن. أنهينا الإجراءات الخاصة بإجراءات الوصول وفحص جوازات السفر واستلام الأمتعة والجمارك، وخرجت من المطار بعد أن قام أحد موظفيه بفحص جواز سفري وتسلمته منه ووضعته في جيب سترتي مباشرة، وخرجت من المطار، قابلت زوجتي التي كانت في انتظار وصولي مع بقية الأهالي المستقبلين لذويهم العائدين في إجازاتهم. قمت بالمناداة على سيارة أجرة تابعة لإحدى الشركات التي توفر سيارات الأجرة لغرض توصيل العائدين إلى منازلهم. وقبل أن تغادر السيارة محيط المطار توجد بوابة بها أحد أفراد الشرطة يقوم بتسجيل رقم السيارة ويستوفي بيانات الركاب من واقع جوازات سفرهم، طلب الشرطي جواز سفري لفحصه فأعطيته له، نظر فيه ثم نظر إليّ قائلاً (هذا الجواز ليس لك، أين جواز سفرك؟) يا إلهي، لقد أخذت جواز السفر من الموظف في آخر مرحلة للخروج من المطار ووضعته في جيبي دون النظر إليه، أخذت الجواز من الشرطي واطلعت عليه وكانت الصدمة، إنه ليس جواز سفري، أنه جواز سفر زميلنا معلم اللغة العربية الذي كان ضمن فريق المراقبة لامتحانات الثانوية العامة والذي يسكن في إحدى مدن الصعيد! ما العمل الآن؟ ماذا أفعل؟
وبدأت الهواجس تدور في رأسي أين ذهب الجواز؟ هل أخذه الزميل بدلاً من جوازه؟ وهل جواز سفري لديه؟ إن كان الأمر كذلك فلا مشكلة إنها مسألة وقت لا أكثر. توقعات سيئة كثيرة ظلت تلاحقني؛ ربما جواز سفري مع شخص غير زميلنا فتتسع دائرة البحث، وربما فُقد الجواز؟ ماذا أفعل وجوازي به تأشيرة الإقامة في الإمارات والتي بدونها لا أستطيع العودة إلى بعد انتهاء إجازة الصيف؟ ماذا أفعل ياربي؟، تساؤلات سريعة مرت في ذهني. لم يكن أمامي سوى أن أذهب إلى بلد زميلنا في الصعيد لعلي أجده وأجد جواز سفري معه. ووسط هذه الهواجس والتساؤلات التي أسألها لنفسي، عدت إلى الموظف الذي تسلمت منه جواز السفر وشرحت له الموقف فكان رده (لم يأتِ أي شخص بجواز سفر غير جوازه، وعلى العموم أترك هذا الجواز فربما يبحث عنه صاحبه!!)،
سألته: (ماذا عن جواز سفري أنا أين هو؟ وكيف أحصل عليه؟)، فكان رده (لا أعرف)، لم أعطه جواز السفر الذي بيدي والخاص بزميلنا لأنه هو الوسيلة الوحيدة التي عن طريقها أحصل على جواز سفري إذا كان لديه.
عدت ثانية إلى صالة الوصول بالمطار، وبعد شرح الموضوع للشرطي سمح لي بالدخول، دخلت إلى الصالة لأبحث عن زميلنا دون جدوى، لم أجده ممن ينتظرون الخروج من المطار، وكذلك لم أجده ممن ينتظرون أهاليهم خارج صالة الوصول. يا الله. ما هذه الورطة التي أنا فيها؟
عدت إلى سيارة الأجرة حيث كانت زوجتي تنتظرني ومعها الأمتعة محملة على السيارة، وأخبرتها بما تم، فاقترحت علي أن نذهب إلى منزلنا فربما لاحظ الزميل أن جواز السفر الذي بحوزته ليس جوازه ويرى عنواننا فيصل إلينا لإعطائنا الجواز ويأخذ جواز سفره. وافقتها على اقتراحها، لكني تذكرت أن العنوان المدرج في جواز سفري هو عنواني القديم الخاص بمنزل الوالد رحمه الله، فذهبنا إلى الأهل هناك وكانت مفاجأة لهم، شرحت لهم الموضوع، وكان ردهم (للأسف لم يحضر إلينا أحد!!)، فطلبت منهم إن حضر أحد يسأل عني ومعه جواز سفري فعليكم أن تطمئنوه أن جواز سفره موجود لدي وتأكدوا من وجود جواز سفري معه.
عدت إلى سيارة الأجرة وقلت لزوجتي (سوف أوصلك إلى المنزل ونُنْزل الأمتعة وأذهب بنفس سيارة الأجرة إلى العنوان الموجود في جواز سفر زميلنا)، ولم يكن أمامها إلا أن توافق على ذلك. طلبت من السائق أن يوصلني إلى منزل الزميل، قال لي أن ذلك سوف يستغرق ثلاث ساعات على الأقل مع زيادة الأجرة ولا بد من موافقة الشركة المالكة للسيارة، وافقت على ذلك بالطبع، وفعلاً اتصل بالشركة بجهاز اللاسلكي الموجود بالسيارة فوافقوا له على ذلك.
بدأت الرحلة من القاهرة إلى تلك المدينة البعيدة في صعيد مصر، وكنت طوال الطريق أنظر حولي من نافذة السيارة إلى السيارات التي تمر بجوارنا عسى أن أرى زميلنا، ولكن دون جدوى. في تلك الساعات التي استغرقتها الرحلة كانت الهواجس تنتابني وتلف رأسي مع الخوف الشديد ألا أعثر على هذا الزميل فربما له أقارب ذهب إليهم في بلد آخر، وربما اتسعت دائرة فقد الجواز وأن يكون لديه جواز سفر شخص ثالث، وربما يكون هذا الشخص في بلدة غير هذه البلدة، وقد لا أعثر على العنوان، وقد يكون الزميل قد بدّل مكان إقامته مثلي فكيف أعثر عليه؟ وإن لم أجد الجواز فكيف لي العودة إلى الإمارات والإقامة مدرجة في الجواز الذي أبحث عنه؟ وإن استخرجت جواز سفر جديد فكيف لي أن استخرج إقامة جديدة على الجواز الجديد من القاهرة؟.
أفكار عديدة وهواجس كثيرة مرت على خاطري في تلك اللحظات. وصلنا إلى بلدة الزميل وبحثنا عن العنوان المدرج في جواز سفره، ودلنا أحد الأفراد على المنزل فتوجهنا إليه وسألت رجلاً كان يجلس بالقرب من المنزل إن كان هذا هو منزل زميلنا، فأجاب بقوله: (نعم، ولكنه مسافر وغير موجود حالياً أسرته فقط هم الموجودون)، وقبل أن يكمل عبارته قال لي (انظر، لقد وصل للتو في سيارة الأجرة التي وراءك)، تنفست الصعداء وحمدت الله كثيراً على ذلك، والتفت إلى زميلنا وصافحته وقلت له (حمداً لله على السلامة)، رد علي السلام، لاحظت على وجهه علامات الاستغراب حين قال (أهلاً بك، خير، ما الذي جاء بك إلينا يا ترى؟) وأعتقد أنه كان يعرف أنني من سكان القاهرة، فقلت له بسرعة (من فضلك أرني جواز سفرك)، تعجب الزميل من طلبي ونظر إليّ نظرة فيها شيء من الريبة لكنه أخرج من جيب سترته جواز السفر، أخذته منه بسرعة واطلعت عليه فوجدته جواز سفري .. يا الله، لك الحمد والشكر، مددت يدي في جيبي وأخرجت جواز سفره وقدمته له وقلت له هذا هو جواز سفرك! تعجب الزميل مما رأى وسألني متعجباً (كيف حدث ذلك؟)، فشرحت له الموضوع بالتفصيل من لحظة استلام الجواز من موظف الجوازات إلى أن قابلته في بلده، واتضح أنه أخذ الجواز من موظف المطار ولم يطلع عليه مثلي ووضعه في جيبه مباشرة مثلما فعلت ظاناً أنه جوازه.
كانت لحظة لا أستطيع وصفها من الفرح ومن السعادة أن عثرت على جواز سفري وحمدت الله كثيراً على ذلك. وقد كان الزميل كريماً معنا أنا والسائق فلم يتركنا إلا بعد أن استضافنا، حاولت الاعتذار عن ذلك ولكنه لم يقبل اعتذاري، وكان هذا الحديث كله أمام باب منزله، فأنزل أمتعته من السيارة التي أوصلته من المطار واصطحبنا إلى شقته في الدور الأول وأدخلنا غرفة الجلوس واستأذن منا لكي يسلم على أهله، وطلب منهم تحضير وجبة الغداء التي أصر على أن نتناولها معه، واتصلت من هاتف منزله بأسرتي في القاهرة وطمأنتهم. وبعد ذلك رجعت إلى مسكني في القاهرة، وشتان ما بين حالة الذهاب إلى تلك البلدة والعودة منها.
علمتني هذه التجربة أن أفحص كل ورقة أحصل عليها من أي مكان عام أحتاج فيه إلى تصديق أو تأشيرة أو توقيع.
لك الحمد والشكر يا الله فقد كانت تجربة مثيرة مليئة بالخوف والترقب إلا أن لطف الله كان ملازماً لي والحمد لله كثيراً.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.